تعوَّد أن يتأملَ الظلمةَ و يفكر : لو جرب الناسُ التحديقَ في العتمة لن يشيخوا ، لأنهم سيحتفظون بأعينهم فترةً أطول .. لن تكتظ ذاكرتهم بالضوء الذي يسيل في لحظة كطعنةِ برق ، ليُغرِق غرفَهم .. و يترك تاريخهم مثل وعاءٍ فارغ .
في قرارة نفسه أيقن أن الصباحَ لعنة من يستيقظون مبكراً .. و أن المساءَ وداعٌ ثقيلٌ غير أنه يليق بيقظة حبٍ منسي ، بأرصفةٍ تُبدِّل أماكنها .. و بأثرِ وردة .
كان مديناً للظلام بكل شيء..على الأقل لأنه شاهد ماضيه في حلكته ، غائماً بلون “السيبيا” .. وغامضاً ، كزائرٍ لم يأت .
حبةُ العَرَق القديمة لا تزال ترقد بين عينيه .. ندبة خافتة تؤلمه كلما لامسها كأنه وُلِد للتو .
لم يكن يخشى الموت قدر ما كان يخشى الحياة .. فكلما مات أحد زبائنه كان شبحه يتسلل إلى غرفة التحميض ، يسترد صوره ، و يترك بدلاً منها ملابسه التي لن يحتاجها في الآخرة .
هكذا تحول المكانُ يوماً بعد آخر إلى دولاب ملابس ضخم ، بروائح الأنفاس المخزونة ، ببقايا الشهيق و الزفير لبلدةٍ كاملةٍ تحت الأرض .. ليكتشف المُصوِّرُ العجوز بحسرة أن المكان الذي أعده ليكون مقبرته ، لم يعد يصلح سوى للحياة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
لأنه لم يعد يندهش
اليوم
عندما استيقظ كان البحر قد تسلل إلى غرفته .
وجد نفسه يفتح عينيه من نومه وقد غمره الملح ، و لم يُصدِّق في البداية أنه يرى تلك السمكات التائهة التي راحت تدور حول نفسها على البلاط و على جسده .
لا تطل غرفته على البحر مباشرةً . يفصلها عنه شارعان . هناك شيء غير عادي إذن . كانت مراكب ورقية أيضاً قد احتلت غرفته ، خمن أنها لعشاق صغيرين ، و بمجرد أن أفاق أدرك أنه لو مكث لبضع دقائق أخرى سيغرق على سريره .
كان يبدو الآن شيخاً متوحداً مندهشاً بعض الشيء ، لكن بعينين ميتتين لرجل لم يعد يملك إلا الذكريات . بالأمس تجول كثيراً في المدينة ، حاملاً الكاميرا الفوتوغرافية العتيقة . التقط صوراً كثيرة ، وبتحميضها وجد نفسه يواجه مدينةً أخرى ، بالأبيض و الأسود . و لأنه لم يعد يندهش ، فقد خمَّن أنه صوَّر ما أراده و ليس ما رآه .. و صدَّق ذلك باستسلام ، كأن عدسة الكاميرا المصمتة لم تكن سوى عينيه .
أمس
فجأة تغير هواء المدينة . الأبراج الشاهقة في الأحياء الراقية و ومكعبات البيوت الفقيرة المتلاصقة في المناطق الفقيرة ، كلها اختفت و عاد الخلاء كما كان قبل ستين عاماً . بقيت فقط البنايات القديمة محتفظة بواجهاتها التي أخفى البحر ألوانها تاركاً ملحه ينام بين ثناياها .عادت النوافير التي اندثرت إلى الميادين ، و بدأت الأشجار تبرز على جانبي الشوارع مخترقةً طبقة الإسفلت الهشة . كان المشهدُ مثيراً .. حركات دائبة تبدأ بعدها الفروع في الظهور قبل أن تبزغ تدريجياً السيقان و تنتصب .بدأ القار يتجعد لتتعرى الشوارع من دكنته و تعود مبلطةً كما كانت ذات يوم بعيد .. ثم راحت تضيق من جديد . اختفت لافتات النيون و سقطت أفيشات الألام الحديثة لتحل محلها أخرى بوجوه خاصمها الضوء الآن .حتى الناس لم يجدوا الوقت لينهشوا أو يرتعبوا مما يحدث ، فبمجرد نزولهم للشوارع تغيرت ملابسهم .بناطيل الإناث الضيقة صارت تنورات واسعة ، و شعورهن القصيرة المصبوغة استطالت لتنسدل متموجةً على أكتافهن . . و اكتمل كل شيء حين اختفت الألوان فجأةً و اكتست المدينةُ كلها بالأبيض و الأسود .
” لم أندهش ، بينما ألهث بالكاميرا خلف كل ذلك .. لأنني صرت أرى المدينة التي أعرفها .. أنا المُصوِّرالفوتوغرافي العجوز الذي لم يعد يجد ما يفعله .. و في ركن بعيد ، على دكةٍ خشبية قبالة الكورنيش ، تظللها شجرة كافور ضخمة .. وجدت حبيبتي جالسة ” .
ـــــــــــــــــــــ
ملاك أسود
يسقط ، مع الظلمة ، في الليل . قطعة شاحبة من جمال مظلم ،معتم . يسقط كأنه الليل نفسه . ويتقافز بين الأسطح ، بدكنته ، التي لايمكن أن يكتشفها أحد . يتقافز بخلوده ، خلوده الأسود ، الحالك ، الذي لم يتمناه . و كعادته يتلصص ، على حفنة الفانين ، الفقراء ، أصدقاء التراب . عليه يمشون و تحته يدفنون . ليس ملاك موت . و ليس شيطانا ، فالشيطان شاهق البياض . هو ملاك داكن ، معتم حتى أن القمر نفسه لا يكشفه . و هذه بلدته التي اختارها ليتفرج على عذابات يومية ، طالما تمناها .الحياة المؤقتة التي لا تفنى ، لأنها الحياة التي تبقيها الذكرى . الحياة التي يتركك فيها إلهك للخطأ .التي تتمنى فيها يوما جديداً يمدك بالحياة ، و يخصم منها .الحياة التي يتنفس فيها الجميع لكي يموتوا دون خوف في النهاية . النهاية ! .. تلك التي لا يعرفها . منذ آلاف السنوات و هو هنا ، و بعد عدد آخر لا يحصى سيظل . إنه يعرف الجميع واحداً واحداً ، لكن أحداً لا يعرفه . يتمنى أن تكون له ذكرى ، لا يتمنى غير ذلك ، ولا ينال سوى الحاضر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نصوص جديدة لم تنشر من قبل