طه عبد المنعم
في هذا الصباح استيقظت على صوت مصمصة شفتيها بقبضة يدها. حملقت في وجهها لارتوى من كل ملامح البراءة التي تفيض منها. لن تسنح لك فرصة لتتأمل وجها خال من تعبيرات الإنسان البغيضة. فقط الفرح والحزن، مشاعر الإنسان الفطرية، يتجسدان على بشرتها الوردية – كل على حدة – بالضحك والبكاء. عيون واسعة لا اعرف ممن ورثتهم. يوما ما سأتفرس في وجوه أفراد عائلتي لأعرف.
بعد هذا الصباح بسنوات، تحكى لي مدرستها عندما اصطحبها من المدرسة كيف أنها ظلت تصرخ فيهم وتبكى عندما أراد احد المدرسين معاقبتها على الواجب المدرسي وتقول : “أيوة علشان عارفين إن هيمة مسافر عاوزين تضربوني”. عبثا حاولت أن اشرح لها أن عملي حتم على السفر فجأة ليوم واحد ولم يعرف احد بالسفر فردت على وهى تمسح دموعها:”أمال عاوزين يضربوني ليه”
أسرعت ألقمها الحلمة فاحتوتها بكامل فمها الصغير والهواء خرج يبقلل داخل الببرونة. أعجبني شربها اللبن بالمص وحركة عنقها الضعيفة. لاعبتها قليلا ولكنها شعلقت عيناها بمروحة السقف ولم تنتبه لملاعبتي. خرجت قطرات من اللبن على عنقها وأزاحت بلسانها الحلمة فعرفت أنها شبعت. جعلت تضرب الهواء بذراعيها وساقيها بعشوائية جميلة تعبر بهم عن السعادة والشبع.
قلقت في صباح يوم المحها في غرفتها أمام المرآة تتحسس مواضع ثدياها اللذان لم يبزغا بعد. ماذا افعل؟ أيجب أن أسال أنثى غريبة للتعامل مع هذا الموقف؟ من سيضمن لي أنها ستحنو عليها كأم؟ تنموا سمنة خفيفة تشي بأنوثة مبكرة. فارتعش من لمسها غير كما كان في طفولتها. ازداد قلقا ولكنها تتغلب على ذلك بالقفز على عنقي وتتحسس – بفرح – منابت الشعر في ذقني النصف نامية وتصرخ “بتشوك”، فأعدها بان اجعلها أكثر نعومة.
قرأت لها، فالتفت بعيونها الواسعة عندما قلت بصوت عال ـأحاول أن أكون مضاحكا فيه -:
مع إن كل الناس من اصل طينوكلهم بينزلوا مغمضينبعد الدقائق والشهور والسنينتلاقى ناس أشرار وناس طيبينوعجبى *
حركت فهمي كمهرج وأنا انطق كلمة “وعجبي” فضحكت بدون صوت على اتساع فمها الصغير. الم اقل أن فرح الأطفال يحتوى على أفراح الدنيا كلها. قربت وجهي من ضربات يدها العشوائية فأمسكت قبلتي بأصابعها الرقيقة. فرددت وطبعت في باطن الكف قبلات كثيرة لا تنمحي. أتفحص تكوين لم يدخل في صراعات اللهث وراء المادة والحياة.
قد يأتي صباح لا تحتاجني فيه. تذوب عشقا في آخر. اشعر بالغيرة عندما تخبرني أن احدهم يريد مقابلتي. اختيارها الوقت صباحا قبل قراءتي للجورنال وإفطارها الفاخر لي وصوتها الخجل الذي ينطق الجملة مرة واحدة، اعرف – وتعرف هي أيضا من ابتسامة عيني –أن احدهم ذاب عشقا فيها مثلي. يخبرني الفتى ذو العيون الواسعة انه كان يراقبها مبهورا ويلاحقها مقطوع الأنفاس، بحيث لا يدرك كيف لا يصاب العالم كله بالجنون حبا لحركة شعرها وطيران يدها و لجين ضحكها، فابتسم.
أوصى الفتى ذو العيون الواسعة أن يقترب منها، لا يتركها أبدا، يتعرف على تعبيرات عيونها الواسعة البندقية، أن يتأملها جيدا كل صباح وهى نائمة وبهذا سيدوم حبه لها إلى الأبد…مثلي،فيبتسم.
احتويتها بذراعي ورحت أغنى لها أغنيه أمي التي توارثتها مثل العيون الواسعة “صباحك عندي أغلى من مال الهندي وعشر جاموسات يحلبوا عندي” حتى أغلقت أهدابها ونامت. من قال أن المرأة فقط تحب كأم، الرجل أيضا يحب كأم أكثر منه كأب. ظللت اكرر لها الأغنية بهمس وأبطئ في هدهدتها. يجب أن تحفظها. إذا مت، كيف ستغنيها بذات النغمة لابنتها؟ في حركة لا إرادية – قبل ذهابها مع الملائكة – ظهرت قدمها التي لم تمس التراب وأصابع القدم التي لم تسجن في حذاء والكعب الأبيض الذي لم يحبس في جورب. أمسك قدمها بيدي و اقبلها و أفكر في المستقبل البعيد عندما يصبح من غير المعقول أن اقبل هذة القدم البضة .
في صباح يوم خرج الطبيب واخبرني بوفاة والدتها أثناء الولادة وان الطفلة يجب أن تحتجز في الحضانة. لم استطع طوال شهرين كاملين أن المسها لان الحاجز الزجاجي سمح لعيني فقط باحتضانها. لم يكن غيري ليكمل إجراءات دفن زوجتي وأيضا لم يكن غيري ليتسلم الطفلة الرضيعة.
في صباح مضى منذ سنوات، تيقنت أن هذه المرأة ستنجب لي أجمل فتاة في العالم. اقتربت منها لأول مرة وقلت لها ذلك بهمس من خلف أذنها. التفتت لي بعيون واسعة – مثل ابنتها تماما- ومرت لحظات صمت كثيرة تتعرف فيها على وردت بصوت خجل ومرة واحدة – مثل ابنتها تماما – “شكرا”. ولم أكن أريد أكثر من هذا لأبدأ رحلتي معها ومع ابنتي.
ترى هل سيأتي يوم *******تغلق فيه جفوني وتمليني الشهادة أم ستاخدها الدنيا ولن تعرف للصباح صباح؟