إسراء فيصل مقابل
قررت أن تخلع الحجاب عن رأسها قبل الخروج إلى الشرفة المتسعة التى لا تكاد تذكر آخر مرة جلست فيها بمثل هذا الاستمتاع الذى تنوى الحصول عليه. وقفت بهدوء تتأمل المبنى القصير ذو الحديقة الواسعة المواجه للبيت وتتابع سير السيارات فى الشوارع الملتفة حول الحديقة والمبنى والبيت. ذلك المشهد الذى وجد منذ عشرات السنوات حتى قبل أن يولد أبويها. استنشقت نفسا عميقا اعتقدت أنها سحبت به كل الهواء المالىء الفراغ الذى لم تعد تشهده فى حياتها ضيقة التفاصيل. تصادف زفيرها مع نسمة هواء باردة لسعت أطرافها ودغدغت حواسها ودفعتها أن تفك الشريط القطنى عن شعرها الأسود المموج لتترك الهواء يعبث بخصلاته حتى إذا جاءت خصلة على عينيها نفختها بفمها حتى ترتفع عاليا قبل أن تسقط على إحدى وجنتيها. دفعها هذا الجو غير المعتاد أن تخط بعض السطور. جلست فى وضع يسمح لها بالكتابة، اعدت الأوراق، امسكت بقلمها ووضعت سنه على أول سطر بالورقة. ماذا ستكتب؟ لا توجد فكرة محددة، رفعت القلم ونظرت حولها متأملة، هل تكتب عن هذا البيت العريق الذى يطل على أحد أهم ميادين المدينة الكبيرة، وقفته شامخا رافضا ارتفاع الأبراج من حوله، متأكدا إنه الأجمل والأرقى بينهم، أم تكتب عن البيت أيضا وما دارحوله من خرافات وأساطير عن روح صاحبه التى تحوم حوله تحرسه وتمنع عنه البيع أو الهدد، وعن أرواح أصدقاءه سائقى القطارات الذين اعتادوا أن يعقدوا سهراتهم فوق سطوحه وتعتقد إنهم لازالوا يفعلون؟ أو تكتب عن عسكرى المرور وعلاقة الصداقة المتوطدة بينه وبين بائع الفاكهة وعدائهم اللامتناهى مع عمال محطة البنزين وما فى ذلك من لمسة انسانية وسيرة قديمة الأثر؟ أو على ذكر اللمسة الانسانية هل يسمح لها خيالها بسرد قصة عن الطابق السفلى الذى يعقد أجمل وأغرب مفارقات بلدها، ففى هذا الطابق ذو الشقتين افتتحت دارا لتحفيظ القرآن وتفسيره وتجويده وعلقت آيه قرآنية كبيرة أعلى باب الشقة وعلى باب الشقة المقابلة يقف صليب فخم عريق يحتفظ بأصالته مهما تجدد طلاءه، والأطرف إنه كلما جدد أحد الطرفين أمرا فى شقته امتد هذا التجديد ليشمل الطرقة الواصلة بينهما ليصبح هذا الطابق هو الوحيد فى البيت ذو اللون الواحد فى الطلاء والبلاط الواحد فى الارضية.
كل حكاية من هذه الحكايا لها شىء داخلها ولكن ليس هذا ما تود أن تكتب فيه. اللحظة التى تعيشها الآن وتراها بعين جديدة تترك فيها انبعاثا آخرا تود لو تخرجه على الورقات كما تشعره تماما ولكنه أقرب للمستحيل. نظرت إلى اللاشىء السابح فى الفراغ تحاول أن تلتقط منه شراعا تسبح به نحو الفكرة. ضاقت حدقتا عينيها وكأنها تنظر إلى المجهول وتعرفه جيدا وجدت نفسها تقف على شاطىء الذاتية ولا تقدر على ركوب أمواج الفكر بعد، خاب املها فى انتظار قوارب لا تملكها، قررت اعطاء ظهرها للبحر الشاسع والبحث فى هذا الشاطىء الصغير الزاخر.
اعتدلت قليلا فى جلستها وامسكت بالقلم والأوراق مرة أخرى، إنها تعرف فى أى شىء ستكتب. ولكن من أين البداية؟ من أحلام الطفولة التى تهاوت على أعتاب المراهقة لتحقق أحلام أخرى ترفضها فى النضج؟ أم من كل لمحة اختلاف تشعرها الأخريات وكيف تراهن وكيف يرونها؟ أم من انبعاثات ذلك الليل الشتوى البارد فى المدينة الساحلية وذاكرتها عن نهار صيفى حار فى إحدى مدن الصعيد أم عن…….
وتاهت مرة آخرى فى الدائرة التى لاتنتهى سوى لدوائر أخرى غير منتهية الأعداد كفقاعات الصابون.
نحت الأواراق جانبا وشعرت بالضيق لفقدها استمتاعها التى كانت تخطط له. نظرت مرة أخيرة ملولة للشارع فوجدت عسكرى المرور انسان عادى يرتشف كوبا من الشاى بهدوء، وبائع الفاكهة يتبادل الضحكات مع أحد عمال محطة البنزين، وسمعت صوت جارتها المسيحية تنهر ابنها عن سكب المشروب على السجادة كأى أم فى الكون بغض النظر عن دينها، ورأت فتاة تسير فى الطريق مسرعة لتعود إلى بيتها فى هذا الجو البارد، رأت نفسها أيضا لا تختلف عن هذه الفتاة فى شىء.
قامت من جلستها، لملمت أوراقها البيضاء وقلمها وشريط شعرها القطنى، دخلت من الشرفة واحكمت غلق الباب خلفها، استلقت على فراشها وتدثرت جيدا بالغطاء وقبل أن تسلم اجفانها للنعاس استسلمت لفكرة واحدة فقط أن اليوم لم يكن اليوم المناسب للكتابة.