«المستبدل».. عندما تكشف جثث الأطفال بشاعة الفساد الحكومى

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

رامي عبد الرازق

للوهلة الأولى يشعرك الفيلم إنه يحمل ملامح إنسانية بحتة خاصة أن القصة الحقيقية المأخوذ عنها تقف على شعرة فاصلة ما بين الميلودراما والتراجيديا. لكنها تمر باحتراف على هذا الوتر المشدود وتصل بصدق إلى المتلقى الذى لا يسمح له بالانغماس فى ميلودرامية تفسد عليه متعة التفاعل مع الشخصيات والأحداث. قوة هذا النص لا تكمن فى أن دراما الحياة الواقعية تبدو أكثر قوة وعنفاً فى الدراما المؤلفة.. ولكن لأنه عرف كيف يستخلص الحبكة من نفوس الشخصيات فتصبح هى المحرك الرئيسى للأحداث وليست قوى القدر أو الطبيعة، والحبكة الجيدة فى علم الدراما تنبع دوماً من الشخصية..

ونحن هنا أمام مجموعة شخصيات تتطور الحبكة من خلال قراراتها وصراعها المستمر فنحن فى أوائل القرن العشرين أمام أم تفقد ابنها نتيجة حادث اختفاء غامض.. وتظل لشهور تحاول أن تعثر عليه من خلال القنوات الرسمية ولكن دون جدوى، إلى أن تقدم لها شرطة لوس أنجلوس طفلاً آخر وتحاول إجبارها على القبول بأنه ابنها الغائب منذ خمسة شهور.. وبأنه قد تغير جسمانياً، ومن هنا يأتى اسم الفيلم والذى تشير ترجمته الحرفية إلى مصطلح يعنى استبدال طفل بطفل آخر..

ولكن مع إصرار الأم على أن الطفل ليس طفلها تقرر أن تحارب قوى الفساد فى الشرطة التى تسعى بكل الوسائل المشروعة والغير مشروعة إلى إثبات أنها لم تخطئ، وأن الأم هي التى تريد التهرب من مسؤولية الطفل العائد.. إلى أن يقرر أحد أفراد هذه الهيئة البوليسية الفاسدة أن يتتبع خيطاً بسيطاً من التحرى يقوده إلى اكتشاف واحد من أعنف القتلة المتسلسلين فى تاريخ الولاية الأمريكية.. والذى كان له علاقة مباشرة باختفاء العديد من الأطفال على رأسهم «والتر» ابن «كريستين».

هنا يقدم الفيلم الوجه الآخر من ملامحة الدرامية وهو الوجه السياسى، فالسيناريو يتجاوز اللوحة الإنسانية الدامية التى تبدأ خطوطها من فقدان الأم لطفلها، وتكتمل بالقبض على القاتل والكشف عن صور الأطفال الذين قتلهم بوحشية. لكنه يقدم لنا هدفاً سياسياً جوهره أن فساد أى إدارة منوطة بحماية مصالح المواطنين هو أمر لا يقل خطورة ووحشية عن أى جرم يرتكبه أى خارج على القانون، بل إن السيناريو فى ذروة النهاية يوازى بشكل مباشر وواضح بين محاكمة كل من القاتل السيكوباتى، الذى قتل عشرات الأطفال، وبين الضابط المسؤول عن جرائم خطف الأطفال واختفائهم..

والذى كان وراء رحلة معاناة رهيبة عاشتها الأم «كريستين» عندما وضعها فى مصح عقلى بشكل غير قانونى، ليجبرها على الاعتراف بابن ليس ابنها لمجرد أن تحافظ الشرطة على مظهرها، ولا تعترف بخطئها، هذا التوازى الدرامى والذى اختتمه السيناريو بصدور قرار عزل الضابط بالتوازى مع الحكم بالشنق على القاتل يعكس الرسالة السياسية التى يمكن أن تصل لأى متلق فى العالم..

فليس هناك فرق بين الضابط الذى يهتك عرض مواطن وهو يستجوبه وبين الذى يودعه مستشفى المجانين ليجرده من عقله وحقوقه، ويندمج هذا الهدف مع ما ذكرناه بخصوص انطلاق الحبكة من الشخصيات.. فتلك الأم تتلقى من عاهرة محتجزة معها فى المصح العقلى رسالة مهمة وخطيرة حين تقول لها أحياناً تصبح اللغة البذيئة هى الحل فى مواجهة فساد مثل فساد الشرطة.. حيث تقصد العاهرة أن ما تقوم به الشرطة من أشياء فاسدة يجب أن يرد عليه بسبهم ولعنهم أمام الناس جميعاً، كى يتم افتضاح هذا الفساد عبر رائحته القذرة.

وقد قدم «كلينت إيستوود» حالة إخراجية تناغمت مع كلا الهدفين الإنسانى والسياسى، فالإيقاع المونتاجى بطئ يحمل قدر الثقل الذى ينقل لنا وطأة العذاب على الشخصيات الإيجابى منها والسلبى.. صحيح أنه لم يلجأ إلى المزج لكنه تعمد أن تكون لقطاته بتكوينات بسيطة لا تستغرق وقتاً لكى ترسم صورة للمشهد فى الذهن، كما لم يلجأ إلى زوايا كاميرا حداثية بل اعتمد نوعاً من الكلاسيكية التسجيلية فى التعامل مع شخوصه، ولم يشطح تكنيكيا إلا من خلال السيناريو الذى قدم بعض لقطات الفلاش باك أو السرد البصرى الموازى للحكى أثناء إلقاء الضوء على فساد الشرطة.. كى يرى المشاهد بنفسه حقيقة الوضع وليس فقط يسمع عنه.

وفى الوقت نفسه اعتمد «إيستوود» على مدير تصويره المخضرم «توم ستيرن» الذى قدم معه من قبل «رسائل من أيوجيما» ليس فقط لينقل أجواء العشرينيات ولكن ليسحب الألوان تماماً من كل ما يحيط بالشخصيات، ويجعلها تتحرك فى واقع رمادى بارد يسبب قشعريرة ذهنية كلما تكشفت الأحداث.. لقد اكتفى كلاهما بأن يكون اللون فقط فى ملابس الشخصيات وبقيت التفاصيل من حولهم لا هى ملونة ولا هى أبيض وأسود.. كذلك ساهمت هندسة المناظر فى تحقيق عملية إيهام كامل للحقبة الزمنية وللأجواء الكابوسية التى تعيشها البطلة والشخصيات من حولها، خاصة مشاهد الشوارع والمزرعة التى وجدت فيا جثث الأطفال ومستشفى المجانين.

ورغم أنها ليست المرة الأولى التى تقدم فيها «أنجلينا جولى» دور امرأة تفقد شخصاً عزيزاً عليها، نذكر لها (قلب عظيم)، إلا أن تقمصها للشخصية هذه المرة مختلف فجسدها الأنثوى يبدو هنا ضامراً هزيلاً وملامحها خاصة عينيها تعكس طوال الوقت حالة العذاب التى تفتك بأم لا تعرف إذا كان طفلها قتل أم لايزال على قيد الحياة.. كما أنها قفزت بمساعدة «إيستوود» فوق البقع الميلودرامية التى تلوث ثوب أى ممثلة تشخص دوراً مماثلاً خاصة عندما تلقت خبر الاشتباه فى العثور على جثة ابنها.

 

ريفيو

الاسم التجارى: المستبدل

سيناريو: ج. مايكل سترازينسكى عن قصة حقيقة

بطولة: أنجلينا جولى

إخراج: كلينت إيستوود

مدة الفيلم: ١٤١ دقيقة

ــــــــــــــــــــــــــــــ

ناقد سينمائي مصري

مقالات من نفس القسم