كثيرا ما كنت أعزق أرض حديقة الخضراوات المتاخمة للبيت، أو أحتطب للمدفأة، وكثيرا ما كنت أدير وأدير المقود الحديدي الضخم الذي كان يشغِّل مضخة الماء. كنت أضخ الماء من البئر ثم أحمله على كتفي. وكثيرا، وفي السر، وفي غفلة من حراس الحقول، كنت أذهب وجدتي، في الفجر أيضا، مسلحين كل برفش، وجوال، وحبل، لنلتقط ما على الأرض من قش نفرشه من بعد تحت الحيوانات في الحظيرة. وأحيانا، في ليالي الصيف الحارة، كان جدي يقول لي بعد العشاء: “”خوسيه، تعال ننم الليلة، أنا وأنت، تحت شجرة التين”. كانت هناك شجرتا تين أخريان، ولكن تلك بالذات، يقينا لأنها الأضخم، ولأنها الأقدم، ولأنها اللازمنية، هي التي كانت لكل أهل البيت “شجرة التين”. “اسم علم لجنس” إذن، اصطلاح لن أصادفه وأعرف معناه إلا بعد سنوات من حياتي… وفي سلام الليل، ومن بين غصون الشجر، ظهر لي نجم، وببطء اختفى خلف ورقة في الشجرة، فيما استدرت إلى الاتجاه الآخر فرأيت كأن نهرا صاعدا، يتدفق في صمت عبر السماء الجوفاء، رأيتها في صفائها الملون، درب التبانة، أو “الطريق إلى سانتياجو” كما لا نزال نطلق عليها في القرية. ويعز النوم، وتعمر الليالي حكاياتٌ وقصصٌ يظل جدي يحكيها ويحكيها: خرافات، وأشباح، وأهوال، ووقائع فريدة، وميتات بعيدة، وعراكات بالعصي والحجارة، وكلمات تنساب على ألسن أسلافنا، وذكريات لا انتهاء لها تسرق من عيني النوم وفي الوقت نفسه تهدهدني في وداعة. أنَّي لي أن أعرف إن كان يصمت بعد أن أروح في النوم أم يبقى يتكلم لكي لا يكون أجاب نصف إجابة على سؤالي الثابت الذي لم يكن يتغير مع كل وقفة من وقفاته المحسوبة أثناء الحكاية: “وما الذي حصل بعد هذا؟” لعله كان يكرر القصة على نفسه، لكي لا ينساها، أو ربما ليغنيها بتفصيلة جديدة. كنت في تلك السن، ومثلما نفعل جميعا في وقت أو آخر، وهذا معروف، أتخيل جدي جيرونيمو سيدا على كل معارف العالم. وحينما كان يوقظني ترنم الطير مع أول شعاع من النور، لا يكون جدي في مكانه، بل يكون في الحقول هو وحيواناته، تاركا إياي أواصل النوم. وكنت أنهض، فأطبق الغطاء، وحافيا ـ وما كنت أسير في القرية إلا حافيا حتى بلغت الرابعة عشرة ـ والقش لم يزل عالقا في شعري، كنت أنتقل من الجزء المزروع من الفناء إلى الجزء الآخر الذي توجد فيه حظيرة الخنازير بجانب البيت. فتضع لي جدتي ـ وكانت تسبق جدي بخطوة دائما ـ سلطانية كبيرة مليئة بقهوة فيها كسرات خبز وتسألني إن كنت نمت نوما جيدا. فإن قلت لها إني رأيت حلما سيئا ـ بسبب قصص جدي ـ كانت تطمئني قائلة “لا تهول الأمر. لا شيء في الأحلام له أساس”. كنت أظن في ذلك الوقت أن جدتي ـ وإن تكن هي الأخرى امرأة حكيمة للغاية ـ لا ترقى إلى الذرى التي يرقى إليها جدي، ذلك الرجل الذي كان بيده وهو نائم أسفل شجرة التين وبجواره حفيده خوسيه أن يحرك الكون كله بكلمتين ينطق بهما. ولم أعرف إلا بعد سنوات كثيرة، حينما غادر جدي هذا العالم وصرت رجلا ناضجا، أن جدتي هي الأخرى كانت تؤمن بالأحلام. وإلا فلماذا وهي جالسة ذات مساء على باب الكوخ التي كانت تعيش فيه إذ ذاك وحدها، محملقة في النجوم من فوقها ما كبر منها وما صغر، قالت “العالم جميل جدا. خسارة أنني لا بد أن أموت”؟ لم تقل إنها تخشى من الموت، بل إن الموت خسارة، وكأنما كانت حياتها الشاقة ذات الكد المتواصل تتلقى في تلك اللحظة شبه النهائية وداعا أخيرا وجليلا، وعزاء في جمال يتكشف. كانت تجلس على باب بيت لا يشبه شيئا مما عرفت في هذا العالم كله، ففيه كان يعيش ناس يمكنهم النوم وصغار الخنازير معهم مثل أبناء لهم، ناس كانوا يأسفون على مغادرة الحياة فقط لأن العالم جميل، وهكذا فإن جيرونيمو، جدي، راعي الخنازير وحكاء القصص، حينما شعر أن الموت آت ليأخذه، ذهب فودع شجر الحديقة، واحدة بعد واحدة، محتضنا إياها، وباكيا، فقد كان يعلم أنه لن يراها من جديد. بعد سنوات كثيرة، حينما كنت أكتب للمرة الأولى عن جدي جيرونيمو وجدتي جوزيفا (لم أقل حتى الآن أنها كانت ـ بحسب كثير ممن رأوها في شبابها ـ امرأة نادرة الجمال)، كنت أعي أخيرا أنني أحول شخصيهما العاديين إلى شخصيتين أدبيتين: ولعل تلك كانت طريقتي لكي لا أنساهما، أن أرسم وجهيهما المرة تلو المرة بقلم الرصاص الذي لا يكف عن تغيير الذكرى، ألون وأضيء رتابة الروتين اليومي المضجر المحدود ضيق الأفق، كأنما أخلق على خريطة الذكرى المتغيرة ذلك العالم الخرافي لذلك البلد الذي قرر المرء أن يعيش فيه حياته. نفس الموقف الذهني الذي، بعد استدعاء الشخص الفاتن الساحر لجد بربري، سوف يسوقني إلى وصف مباشر من خلال هذه الكلمات لصورة قديمة (بلغ عمرها الآن نحو ثمانين عاما) لأبوي و”كلاهما واقفان، جميلان وشابان، يواجهان المصور، وعلى وجهيهما سيماء جدية جليلة ، لعلها لا تعدو الخوف من الكاميرا لحظة توشك العدسة على التقاط الصورة التي لن تكون لهما من بعد مرة أخرى، إذ يصر اليوم التالي بعناد أن يكون يوما آخر … أمي تسند مرفقها الأيمن على عمود طويل ممسكة بزهرة في يدها اليمنى القريبة من جسمها. يلف أبي ذراعه على ظهر أمي، حتى تظهر يده المخشوشنة من فوق كتفها، كأنها جناح. يقفان، في خجل، على سجادة مزدانة بغصون. وثمة في خلفية الصورة لوحة تظهر فيها العمارة النيوكلاسيكية المتنافرة”. وانتهيت قائلا “سيأتي اليوم الذي أحكي فيه هذه الأشياء. لا شيء من ذلك كله يمثل شيئا إلا لي. الجد البربري ابن شمال أفريقيا، والجد الآخر راعي الخنازير، والجدة رائعة الجمال، والأبوان الوسيمان الجادان، وزهرة في صورة ـ أي نسب غير هذا أبالي به؟ وأي شجرة عائلة تفضل اتكائي على هذه الشجرة؟”. كتبت تلك الكلمات قبل ثلاثين عاما تقريبا، غير قاصد من ذلك أي شيء سوى أن أعيد بنيان لحظات من حياة أولئك الناس الذين أنشأوني، وكانوا الأقرب إلى وجودي، ظانا أن لا شيء آخر سوف يحتاج إلى شرح ليعرف الناس من أين أتيت ومن أية خامات صُنع شخصي، وما صرت إليه رويدا رويدا. ولكنني في نهاية المطاف كنت مخطئا، فالبيولوجيا لا تحدد كل شيء، أما عن الجينات، فكم هو غامض الطريق الطويل الذي قطعته إلى هنا … لم تكن شجرة نسبي (وستغفرون لي تسميتها بهذا وهي البسيطة في عصارتها ونسغها) تخلو فقط من تلك الغصون التي يجعلها الزمن وحوادث الحياة المتعاقبة تطلع من الجذع، ولكنها تخلو كذلك ممن يعين جذورها على الضرب في طبقات أعمق من الأرض، ومن يؤكد ديمومة ثمارها وعبقها، ومن يعلي هامتها ويقويها فتغدو ملاذا للطيور الرحالة ومأوى لأعشاش المقيمة. وإذ أرسم أبوي وأجدادي بفراشي الأدب، محولا إياهم من ناس عاديين من لحم ودم إلى شخصيات، جديدة، هم بناة حياتي كل بطريقته المختلفة، كنت، دون أن ألاحظ، أسير على الدرب الذي ستقيمه شخصيات سوف أبتكرها لاحقا، فهي شخصيات أدبية محضة، لتأتيني بالخامات والأدوات التي سوف تجعلني في نهاية الأمر، بغض النظر عن الربح والخسارة، عن الكفاية والنقصان، عن القليل والفائض، ذلك الشخصَ الذي أعرف الآن فيه نفسي: خالق الشخصيات ومخلوقها في الوقت نفسه. يمكن القول بمعنى من المعاني، حرفا بعد حرف، ولفظا بعد لفظ، وصفحة بعد صفحة، وكتابا بعد كتاب، إنني كنت أغرس في الشخص الذي كنته الشخصيات التي خلقتها. إني أومن أنني بدونها ما كنت لأكون الشخص الذي أنا اليوم إياه، وبدونه ربما ما كانت حياتي نجحت أن تكون أكثر من تخطيط متسرع، وعد يبقى ـ شأن ما حدث للكثيرين ـ مجرد وعد، وجود شخص كان يمكن أن يكون ولكنه انتهى عاجزا أن يكون. يمكنني أن أرى الآن بوضوح من الذين كانوا أساتذة حياتي، أولئك الذين علموني ولقونني العمل الشاق، عمل أن تعيش، تلك الحفنة من شخصيات رواياتي ومسرحياتي التي أراها الآن تسير أمام عيني، أولئك الرجال والنساء المخلوقين من حبر وورق، أولئك الذين كنت أحسب أنني أسوقهم أنا السارد حسب هواي، وكنت أحسبهم مطيعين لإرادتي أنا الكاتب، كأنهم دمى ما لأفعالها أن تترك أثرا عليّ إلا أثر العبء والتوتر الناجمين عن الأشياء التي أسوقها بها. من بين أولئك الأساتذة، كان الأول، بلا شك، رسام بورتريهات متواضعا، سميته ببساطة “ه”، وكان بطل قصة أشعر أن من المنطقي الزعم بأنها كانت نتاج مبادرة مزدوجة (مبادرته هو، وبطريقة أو بأخرى مبادرة الكاتب) عنوانها “دليل الرسم والخط”، علمني “ه” الصدق في الاعتراف بحدودي وملاحظتها، دونما استياء أو إحباط: فلو أنني لم أقدر ولم أطمح إلى المغامرة خارج قطعتي الصغيرة من الأرض الممهدة، فكل ما بقي لي هو إمكانية الحفر فيها، إلى ما هو أعمق، إلى الجذور. جذوري وجذور العالم، لو كان لي أن أسرف في الطموح. وليس لي بطبيعة الحال أن أقيّم بنفسي نتائج جهود أنا الذي بذلتها، ولكنني أرى من الواضح أن أعمالي منذ ذلك الحين قد اتبعت ذلك المبدأ واهتدت به. ثم جاء رجال ونساء ألينتيجو، رفاق لعنة الأرض التي إليها كان ينتمي جدي جيرونيمو وجدتي جوزيفا، الفلاحون البدائيون المرغمون على تأجير قوة سواعدهم باليومية في ظروف عمل لا توصف إلا بسيئة السمعة، فيعيشون، بأقل من اللاشيء، حياة يحلو لنا نحن المتباهين بتحضرنا وتهذبنا أن نعدها ـ بحسب حالة كل منا ـ ثمينة أو مقدسة أو جليلة. أنا عرفت الناس العاديين، تخدعهم كنيسة اجتمع فيها الانتفاع والاشتراك مع قوة الدولة وملاك الأرض، الناس الذين طالما راقبتهم الشرطة، الناس الذين طالما وقعوا ضحايا أبرياء لاستبداد العدالة الزائفة. ثلاثة أجيال من أسرة فلاحين، منذ بداية القرن وحتى ثورة ابريل عام 1974 التي أطاحت بالدكتاتورية، تتحرك في رواية “المنبعثون من الأرض”، ومن أولئك الرجال والنساء المنبعثين من الأرض، الحقيقيين أولا، والخياليين لاحقا، تعلمت كيف أكون صبورا، وأثق في الزمن وأتوكل عليه، وهو الزمن الذي في الآن نفسه يبنينا ويهدمنا، غير مبتغ إلا أن يبنينا من جديد، ليهدمنا مرة أخرى. الشيء الوحيد الذي لا أحسبني استوعبته بارتياح ورضا هو شيء حولته مصاعب تلك التجارب والخبرات إلى فضائل في أولئك النساء والرجال: إقبالهم البسيط الطبيعي على الحياة. وعلى الرغم من ذلك، يبقى في ذهني، ولو بعد عشرين عاما، ذلك الدرس الذي تعلمته، يبقى راسخا في الذاكرة، أشعر بحضوره كل يوم في روحي كأنه نداء متكرر: لم أفقد، إلى الآن على الأقل، الأمل في أن أكون جديرا بقليل من عظمة أولئك الذين تجلت فيهم الكرامة والعزة ممن رأيتهم في سهول ألنتيجو الشاسعة. والزمان هو الفيصل. وأية دروس يمكن أن أتعلمها من برتغالي عاش في القرن السادس عشر، وألَّف الريمات Rimas والأمجاد وحطام السفن والتعاويذ الوطنية مبطلة السحر في اللوسيادات Lus?adas ، العبقري السياسي مطلَق العبقرية، الأعظم في أدبنا، مهما تسبب ذلك من حزن لفرناندو بيسوا، الذي أطلق على نفسه اسم كاميوس العظيم؟ ما من درس يلائمني، ما من درس يمكنني أن أتعلمه، اللهم إلا الأبسط، الذي كان يمكن أن يقدمه لي لويس فاز دو كاميوس في الإنسانية الخالصة، درس التواضع العزيز، درس أن يمضي كاتب طارقا كل باب باحثا عمن ينشر له كتابا ألفه، ملاقيا احتقار المجهولين من لحمه ودمه وسلالته، ملاقيا لامبالاة قاسية من ملك وحاشيته، واستهزاء طالما قابل به العالم زيارات الشعراء، والرائين، والحمقى. و كل كاتب، ولو لمرة واحدة في حياته، يكون، أو يتحتم عليه أن يكون لويس دي كاميوس، حتى إذا لم يكتب قصيدة سوبولوس ريوس Sôbolos Rios … بين النبلاء ورجال البلاط ورجال محاكم التفتيش، وسط غراميات الشباب وأوهام الشيخوخة المبكرة، بين ألم الكتابة وبهجة الانتهاء من الكتابة، كان ذلك الرجل العليل، العائد فقيرا من الهند التي أبحر إليها الكثيرون طالبين الثراء، كان ذلك الجندي الأعمى في إحدى عينيه، كئيب الروح، كان ذلك الفاتن الفقير الذي لن يغوي من بعد قلوب النساء في البلاط الملكي، والذي وضعته على خشبة المسرح في مسرحيتي “وماذا سأفعل بكتابه؟”، والتي يتكرر في نهايتها سؤال آخر، هو السؤال الوحيد المهم بالفعل، السؤال الذي لن نعرف أبدا إن كنا أجبناه حق الجواب: “ماذا ستفعل بهذا الكتاب؟”. لقد كان أيضا من قبيل تواضعه العزيز أن يحمل تحت إبطه رائعته بينما العالم يرفضها دونما إنصاف. وهو التواضع العزيز، والعنيد كذلك ـ الذي يوقد الرغبة في معرفة أي غرض سوف يكون، غدا، من كتب نؤلفها اليوم، فينتابنا على الفور شك فيما إذا كانت ستدوم (إلى متى؟) وتطمئننا الأسباب التي يخترعونها لنا أو نخترعها نحن لأنفسنا. وليس أكثر انخداعا ممن يسمح للآخرين بخداعه. وهنا يأتي رجل قطعت يسراه في الحرب وامرأة تدخل عالمه مزودة بقدرة غامضة على رؤية ما وراء إهاب البشر. اسمه بلتاثار ماتيوس واسم تدليه “الشموس السبع”، وهي تعرف بـ بليموندا، وأيضا، في وقت لاحق، تعرف بـ “الأقمار السبعة” ذلك أنه مكتوب أنه حيثما تكون شمس يكون قمر، وأنه فقط باقترانهما وانسجامهما معا من خلال الحب تصلح الأرض للسكنى. ويقترب أيضا قس يسوعي اسمه بارتولوميز اخترع آلة قادرة على الرقي في السماء والطيران بغير وقود إلا الإرادة البشرية، الإرادة التي يقول الناس إنها قادرة على كل شيء، الإرادة التي لم تقدر، أو لعلها لم تعرف كيف، أو ربما لم ترغب إلى الآن أن تكون شمس الطيبة البسيطة وقمرها. هؤلاء الحمقى البرتغاليون الثلاثة من القرن الثامن عشر، في زمان وفي بلد ازدهرت فيهما الخرافة والخوف من محاكم التفتيش، وأثمر كِبْرُ ملك وجنونه بالعظمة عن إنشاء دير وقصر وكنيسة كان يمكن أن ينبهر بها العالم الخارجي، لو كانت لذلك العالم ـ وهو فرض بعيد التحقق ـ أعين ترى البرتغال، أعين كعيني بلوموندا، أعين ترى كل خفي … وهنا أيضا يقبل آلاف مؤلفة من الرجال يكسوهم الغبار، مخشوشني الأيدي، منهكي الأجسام بعدما حملوا عاما بعد عاما، وحجرا إثر حجر، حتى استقامت أسوار الدير العنيدة، وغرف القصر الضخمة، وعمدان الكنيسة العالية وركائزها، وحتى علقت قبابها على الفراغ. الأصوات التي نسمعها منبعثة من قياثرة دومينيكو سكارلاتي، وهو لا يعرف على وجه اليقين إن كان المفروض أن يبكي أم يضحك … تلك هي قصة بلتاثار وبلموندا، كتاب استطاع كاتبه الصبي المتدرب بفضل ما أخذه قبل زمان بعيد عن جديه جيرونيمو وجوزيفا أن يكتب فيه كلمات مماثلة ليست خالية من الشعر: “الأحلام، أيضا، بجانب كلام المرأة، هي التي تبقي هذا العالم في فلكه. ولكنها الأحلام أيضا التي تتوج أقماره، فلماذا يرى الناس البهاء في السماء، وما من سماء إلا رءوس الناس”. ليكن. لم يكن المراهق يعرف عن الشعر غير قليل من الدروس، التي تعلمها من الكتب المدرسية، في مدرسة صناعية بلشبونة، حيث كان يتم تأهيله لحرفة سوف يمتهنها في مستهل حياته العملية: ميكانيكي. كان له أيضا معلمو شعر أكفاء في ساعات المساء الطويلة في المكتبة العامة، إذ يقرأ بعشوائية، ما تقع عليه يداه، دونما إرشاد، أو نصح من أحد، بافتتان بحار يبدع كل مكان يكتشفه. ومع ذلك فلم يكن في أي مكان إلا مكتبة المدرسة الصناعية أن ابتدأت كتابة “سنة وفاة ريكاردو ريس”… هناك، ذات يوم، عثر الميكانيكي الشاب (وكان في السابعة عشرة) على مجلة اسمها أتينا فيها قصائد موقعة بذلك الاسم، فكان من الطبيعي، وهو الذي لا يعرف إلا أقل القليل عن الخريطة الأدبية لبلده أن يتصور أن هناك بالفعل شاعرا برتغاليا اسمه ريكاردو ريس. غير أنه سرعان ما اكتشف أن هذا الشاعر هو أحد أشخاص فرناندو نوجويرا بيسوا الذي كان يوقع قصائده بأسماء شعراء غير موجودين، من نسج ذهنه. كان يسميهم الأنداد، وهي كلمة ما كان لها من وجود في معاجم ذلك الزمن ومن هنا صعب على الصبي المتدرب في ورشة الأدب أن يعرف معناها. حفظ الكثير من قصائد ريكاردو ريس عن ظهر قلب (كي تكون عظيما/بل لكي تكون العظيم/ ضع نفسك في أبسط ما تفعله) وبرغم أنه كان بهذا الصغر والجهل، لم يقدر أن يتقبل أن يأتي عقل له هذا الجلال، بلا ندم، ببيت قاس يقول فيه: “حكيم ذلك الذي يرضى بمنظر العالم”. وفيما بعد، فيما بعد بكثير، جرؤ الصبي المتدرب، وقد وخط الشيب فوديه وازداد من حكمته حكمة، أن يكتب رواية ليري من خلالها لشاعر الغنائيات ذلك كيف كان منظر العالم سنة 1936، التي جعله يقضي فيها أيامه الأخيرة: احتلال جيش النازي للراين، حرب فرانكو ضد الجمهورية الأسبانية، تكوين سالثار للميليشيت الفاشية البرتغالية. كانت تلك طريقته في أن يقول للشاعر “إليك منظر العالم يا شاعر المرارة الجليلة والشك الأنيق. استمتع، وشاهد، ما دامت غاية الحكمة عندك هي الجلوس …” تنتهي “سنة وفاة ريكاردو ريس” بكلمات مأساوية: “هنا، حيث البحر ينتهي، والبر ينتظر”. فلا مزيد من الاكتشفات للبرتغال، التي يحتم عليها القدرا انتظار مستقبلات عصية حتى على الخيال، ليس سوى أغنية الفادو الشعبية المعتادة، ليس سوى النوستالجيا القديمة ذاتها وأكثر قليلا … ثم حدث أن تخيل الصبي المتدرب أن هناك لم تزل طريقة أخرى لبعث السفن من جديد إلى الماء، ومن ذلك مثلا، تحرك اليابسة نفسها وانطلاقها من ثم في البحر. لقد كان من ثمار سخط البرتغالين العام على ازدراء أوربا التاريخي لبلدهم (ولمزيد من الدقة أقول إنه من ثمار سخطي أنا …) رواية كتبتها هي “الطوف الحجري” وفيها ينفصل شبه الجزيرة الأيبيرية بالكامل عن القارة ليشكل جزيرة ضخمة طافية، تتحرك وحدها دونما مجاذيف، أو أشرعة، أو مراوح، باتجاه الجنوب، “قطعة من الأرض والحجر تكسوها المدن والقرى والأنهار والمصانع والآكام والأراضي الزراعية بناسها وحيواناتها” في طريقها إلى يوتوبيا جديدة: حيث اللقاء الثقافي بين أهل شبه الجزيرة وأهل الجانب الآخر من الأطلنطي متحدية بتلك الطريقة ـ وإلى هذا الحد بلغ بي الشطط ـ حكم الولايات المتحدة الأمريكية الخانق لتلك المنطقة. وإن من شأن رؤية مضاعفة الطوباوية أن ترى في هذا الخيال السياسي استعارة إنسانية أكثر سخاء: استعارة مفادها أن على أوربا، كل أوربا، أن تتحرك باتجاه الجنوب، لتساعد في إحلال التوازن على هذا العالم، تعويضا عن انتهاكاتها الكولونيالية السابقة والراهنة. أعني أن تكون أوربا في النهاية مرجعا أخلاقيا. شخصيات الطوف الحجري امرأتان، وثلاثة رجال، وكلب، يرحلون باستمرار يرحلون على شبه الجزيرة وهي تمخر المحيط. يتغير العالم وهم واعون أن عليهم أن يعثروا في أنفسهم على الأشخاص الجدد الذين سيصبحون إياهم (ناهيكم عن كلب ليس كالكلاب…). وسيكون كافيا لهم. ثم تذكر الصبي المتدرب أنه في زمان بعيد من حياته عمل مصححا لغويا وأنه لو كان في “الطوف الحجري” قد راجع المستقبل بمعنى من المعاني، فقد لا يكون مستهجنا الآن أن يراجع الماضي فيبتكر رواية يكون عنوانها “تاريخ حصار لشبونة” وفيها مصحح لغوي يراجع كتابا يحمل العنوان نفسه، ولكنه كتاب تاريخ حقيقي، ومن فرط سأمه من تفاقم عجز “التاريخ” عن الإدهاش، يقرر أن يحذف “نعم” ويضع “لا” مخربا “الحقيقة التاريخية”. ريموندو سيلفا، المصحح اللغوي، رجل عادي، بسيط، لا يميزه عن الحشود إلا إيمانه بأن لكل الأشياء جوانبها المرئية وجوانبها الخفية وأننا لن نعرف شيئا عن أي شيء ما لم نتمكن من رؤية الجانبين. وفي ذلك يتكلم مع المؤرخ على النحو التالي(1): “لا بد أن أذكرك أن المصححين اللغويين أناس يتمسون بالجدية، وهم عظيمو الخبرة بالأدب وبالحياة./كتبي، لا تنس هذا، تتعامل مع التاريخ./ومع ذلك، ولأنني غير عازم على الإشارة إلى المزيد من التناقضات، في رأيي المتواضع، يا سيدي، كل ما ليس أدبا هو حياة، ومن ذلك التاريخ، بل التاريخ بالذات، دونما رغبة في الإساءة، والرسم والموسيقى/الموسيقى تقاوم منذ الميلاد، تأتي وتذهب، تحاول تحرير نفسها من الكلمة، بدافع في ظني من الحسد، ولكنها تستسلم في النهاية/والرسم/حسن، الآن، ما الرسم إلا أدب يتحقق بالفرشاة/أثق أنك لم تنس أن البشرية بدأت بالرسم قبل وقت طويل من معرفتها كيف تكتب/تراك على دراية بالمثل القائل إذا لم يكن عندك كلب فاخرج للصيد بقطة، بعبارة أخرى، الإنسان الذي لا يستطيع الكتابة، يرسم أو يلون، كما لو كان طفلا/ ما تحاول قوله بعبارة أخرى هو أن الأدب كان موجودا بالفعل قبل أن يولد/ نعم يا سيدي تماما كما أن الإنسان بصورة ما كان موجودا من قبل أن يوجد/ يذهلني أنك أخطأت طريقك، كان ينبغي أن تكون فيلسوفا، أو مؤرخا، لديك الميل والحساسية اللازمان لهذه المجالات/ وينقصني التدريب اللازم يا سيدي، وما الذي بيد رجل بسيط أن يفعله دونما تدريب، لقد كنت أكثر من محظوظ أن جئت إلى العالم بجينات مرتبة، ولكنها مرتبة بطريقة فظة، ثم لم أجن تعليما بعد المدرسة الابتدائية/يمكنك أن تقدم نفسك كعصامي التعلم، كنتاج لجهودك الشخصية القيمة، لا يوجد ما تخجل منه، لقد كان المجتمع في السابق يتباهي بالمتعلين ذاتيا/ ولم يعد كذلك، أتى التقدم فوضع حدا لكل ذلك، الآن لا يلقى المتعلمون ذاتيا غير العبوس، ووحدهم الذين يكتبون الشعر الخفيف والقصص الممتعة هم الذين ينالون لقب المتعلمين ذاتيا، محظوظون، أما أنا، فلا بد أن أعترف أنني لم أحظ يوما بأية موهبة في الإبداع الأدبي/كن فيلسوفا، يا رجل/لديك حس كوميدي رائع يا سيدي، وميل فريد إلى التهكم، وإنني أسأل نفسي كيف انتهيت إلى أن تكرس نفسك للتاريخ، وهو العلم الجاد العميق/إنما أتهكم في الحياة الحقيقية وحدها/ وطالما رأيت أن التاريخ ليس بالحياة الحقيقية، أدب نعم، ولا شيء آخر/ ولكن التاريخ كان حياة حقيقية في زمنه حين لم يكن من الممكن أن يسمى بالتاريخ/ إذن أنت تعتقد يا سيدي أن التاريخ حياة حقيقية/طبعا، أومن بهذا، أقصد أنه كان حياة حقيقية، ما من شك/ تنهد المصحح اللغوي قائلا، كيف كان سيكون حالنا لو لم يكن لعلامة الحذف وجود”. ولا حاجة بي إلى أن أضيف أن الصبي المتدرب تعلم عن ريموندو سيلفا درس الشك. وفي الوقت المناسب تقريبا. حسن، ربما تعلمه هذا للشك هو الذي جعله يخوض كتابة “الإنجيل كما رواه يسوع المسيح”. صحيح، وهو قال هذا، أن العنوان جاء نتيجة خداع بصري، ولكن من الإنصاف أن نتساءل عما لو كان مثال المصحح اللغوي الواضح هو الذي، طوال الوقت، كان يهيء الأرض التي سوف تبزغ منها الرواية الجديدة. لم يكن الأمر هذه المرة مسألة نظر إلى ما وراء صفحات العهد الجديد بحثا عن فرضية مناقضة، بل إلقاء الضوء على السطوح، مثلما في الرسم، إلقاء ضوء خفيف للتأكيد على الأشياء المرسومة فعلا، على المسارات والتقاطعات، وظلال الخيبات. هكذا قرأ الصبي المتدرب، وقد باتت الشخصيات الإنجيلية محيطة به من كل صوب، كأنما للمرة الأولى، وصف مذبحة الأبرياء، ولما قرأ، لم يستطع أن يفهم. لم يستطع أن يفهم لماذا كان هناك شهداء في دين سيكون عليه أن ينتظر ثلاثين عامت ليصغي إلى مؤسسه وهو ينطق بأولى الكلمات فيه، لم يستطع أن يفهم لماذا لم يقم الشخص الوحيد الذي كان قادرا على إنقاذ أطفال بيت لحم بإنقاذهم، لم يستطع أن يفهم سبب عدم امتلاك يوسف للحد الأدنى من الإحساس بالمسئولية، أو الندم، أو الإحساس بالذنب، أو حتى بالفضول، بعد الرجوع بعائلته من مصر. بل إنه لا يمكن المحاججة الدفاعية بأنه كان لا بد لأطفال بيت لحم أن يموتوا إنقاذا لحياة يسوع: فالمنطق البسيط الذي ينبغي أن يبز كل الأشياء الدنيوي منها والسماوي على السواء، هو أن الرب ما كان ليرسل ابنه إلى الأرض، مكلفا على وجه الخصوص بمهمة تخليص البشرية من ذنوبها، ليموت ذبيحا على يد جندي من هيرود وعمره سنتان … في ذلك الإنجيل الذي كتبه الصبي المتدرب بكل الاحترام الواجب للدراما العظيمة، سيكون يوسف واعيا بذنبه، وسوف يقبل بالندم عقابا له على الخطيئة التي اقترفها، وسوف يساق إلى الموت دونما مقاومة تقريبا، وكأنما كان ذلك هو الشيء الوحيد المتبقي له ليصفي حسابه مع العالم. فليس إنجيل الصبي المتدرب من ثم خرافة أخرى تمارس المزيد من التشذيب للكائنات والآلهة المقدسة، بل هو قصة قليل من الناس يتعرضون لقوة يقاتلوتها ولا يستطيعون الانتصار عليها. يسوع الذي سيرث نعلي والديه المتربين من فرط ما سار بهم في الدروب الريفية، سيرث كذلك إحساسه المأساوي بالمسئولية والذنب الذي لن يتخلى عنه مطلقا، حتى حينما يرفع صوته من على الصليب: “ايها الناس، اغفروا له، فهو لا يعرف ما فعل” مشيرا بالقطع إلى الرب الذي أرسله إلى هناك، ولكنه أيضا ربما لا يزال يتذكر، حتى في لحظات كربه الأخيرة تلك، أباه الحقيقي الذي منحه الإنسانية باللحم والدم. يمكنكم أن تروا أن الصبي المتدرب كان قد قطع بالفعل رحلة طويلة قبل أن يكتب في إنجيله الهرطقي هذا تلك الكلمات الأخيرة من حوار المعبد بين يسوع والحواري: “إنما الخطيئة ذئب يلتهم جراءه بعد أن يلتهم أباه/ الذئب الذي تتكلم عنه التهم أبي بالفعل/ إذن سرعان ما يحين دورك/ وماذا عنك أنت، هل جربت الالتهام/ ليس فقط الالتهام، بل والتقيؤ”. لو لم يكن الإمبراطور شارلمان أقام ديرا في ألمانيا الشمالية، لو لم يكن الدير منشأ مدينة مونشتر، لو لم تكن مدينة مونشتر احتفلت بالذكر المائتين بعد الألف بأوبرا عن حرب القرن السادس عشر الرهيبة بين البروتستنت والكاثوليك، لما كتب الصبي المتدرب مسرحيته In Nomine Dei. مرة أخرى، ودونما عون إلا من نور عقله الشاحب، كان على الصبي المتدرب أن يخترق متاهة من المعتقدات الدينية، المعتقدات التي، بسهولة شديدة، جعلت من البشر قتلة وقتلى. وما رآه، مرة أخرى، لم يكن إلا قناع التسامح الزائف، التسامح الذي أصبح في مونشتر لوثة عقلية، التسامح الذي أساء إلى السبب الأساسي الذي زعم الطرفان أنهما يتقاتلان دفاعا عنه. ذلك أنها لم تكن حربا باسم إلهين متعاديين، بل حربا باسم نفس الرب. ولكن في عماء من معتقداتهم، لم يتسن للبروتستنت والكاثوليك في مونشتر أن يفهموا أوضح البراهين كافة: في يوم الحساب، حين يأتي الطرفان ليلقوا الثواب أو العقاب المستحق جراء جرائمهم على الأرض، فسوف يقبل الرب بهم جميعا في الفردوس ـ لو كان ما يحكم قراراته شبيها بأي منطق بشري، لسبب بسيط هو أنهم جميعا آمنوا به. لقد تعلم الصبي المتدرب من مذبحة مونشتر الرهيبة أن الأديان جميعا ـ برغم ما تعد به ـ لم تستخدم قط في الجمع بين الناس والتقريب بين أفئدتهم وأن أكثر الحروب عبثا هي الحرب المقدسة، خاصة وأن الرب لا يمكن، وإن أراد، أن يعلن الحرب على نفسه… عميان. هكذا رأى الصبي المتدرب، “نحن عميان”، وجلس يكتب “العمى” ليذكر من قد يقرأونها أننا نسيء إلى العقل إذ نهين الحياة، وأن الكرامة الإنسانية تهان كل يوم على أيدي أقوياء العالم، وأن الكذبة المطلقة حلت محل الحقائق العديدة، وأن الإنسان لم يعد يحترم نفسه منذ لم يعد يحترم رفاقه من الكائنات. وإذ ذاك بدأ المتدرب، كأنما لطرد المسوخ التي استحضرتها “العمى”، كتابة أبسط القصص كافة: شخص يبحث عن شخص، لأنه أدرك أن ليس في الحياة ما هو أهم من السعي إلى إنسان. الكتاب اسمه “كل الأسماء”. لم يكتب بعد، أسماؤنا جميعا فيه. أسماء الأحياء وأسماء الموتى. أختتم. ود الصوت الذي قرأ هذه الصفحات لو يكون صدى لأصوات شخصياتي مجتمعة. فليس لي، كما رأيتم، من صوت غير أصواتها. سامحوني لو أن ما بدا لكم قليلا، هو لي أنا كل شيء. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ *شاعر ومترجم مصري * الترجمة من البرتغالية إلى الإنجليزية: تيم كروسفيلد وفرناندز رودريجوس (1)لا يفصل ساراماجو في كتابته بين السرد والحوار، بل ولا يفصل بين الجمل الحوارية المختلفة إلا بحرف كبير في مستهل كل جملة، وهو ما يمثل صعوبة على القارئ فكان أن لجأنا إلى الفواصل المائلة. وفي المقتطف التالي إشارة إلى علامة الحذف وهي من العلامات التي يستخدمها المصححون اللغويون في عملهم ـ المترجم
نص كلمة ساراماجو في حفل استلام نوبل 1998
ترجمة أحمد شافعي *
أحكم من عرفت في حياتي كان رجلا لا يجيد القراءة أو الكتابة. كان ينهض من فوق حشيته في الرابعة صباحا ـ ولم يزل ووعد الصباح الجديد يتلكأ فوق الأراضي الفرنسية ـ قاصدا الحقول، مصطحبا إلى المرعى بضعة خنازير كان يعيش هو وزوجته على خصوبتها. كان والدا أبوي يعيشان على هذا القليل، على صغار الخنازير التي كانت تباع بعد فطامها إلى الجيران في قرية أزينهاجا في مقاطعة ريباتيجو. كان اسماهما جرمونيمو ميرينهو وجوزيفا كايزينها وكلاهما كانا لا يجيدان القراءة والكتابة. وفي الشتاء، عندما تصل درجة البرودة إلى حد تجميد المياه في الأواني داخل البيت، كانا يقصدان الحظيرة فيأتيان بأضعف الخنازير الصغيرة لتشاركهما الفراش. وتحت الأغطية الخشنة، كان دفء الجسدين البشريين ينقذ الحيوانات الصغيرة من التجمد، بل من الموت الأكيد. ومع أن الاثنين كانا طيبين، إلا أنهما ما كانا يتصرفان على هذا النحو بدافع من الطيبة، فما كان يعنيهما، بعيدا عن السنتمنتالية أو البلاغة، هو حماية قوت يومهما، وتلك طبيعة من لم يتعلموا التفكير ـ لكي يحفافظوا على حفظ حياتهم ـ فيما هو أكثر من الحاجة. كثيرا ما ساعدت جدي جرمونيمو في رعاية قطيع الخنازير،