محمد برادة عندما قدم لروايته “لعبة النسيان ” الصادرة عام 2004 ، لم يكن يجهل ان اللعبة هي نفسها ستكون في الستة سنوات القادمة لأن البناء الذي قامت عليه هذه اللعبة لم يكن ليصيبها ” النسيان ” في تلك الأعوام القادمة ، يقول آنذاك : ( لم يكن يهمني – حين كتبت لعبة النسيان – أن أؤرخ أو أن أتذكر ، وإنما كنت أوهم النفس أن الكتابة تتيح الاقتراب من أعماق الزمن ومتاهته كما تتيح التأمل فيما عشناه متشابكا ، متداخلا ، غائم القسمات ، ومن ثم اللجوء الى فضاءات الطفولة والمراهقة والشباب بحثا عن زمن لم يعد موجودا إلا في الذاكرة والحلم وفيما تختزنه الذات الواعية ، ولأننا تعودنا على النسيان ، فإننا لا ننتبه كثيرا الى تغير الاشياء من حولنا والى تغير علاقاتنا وذواتنا ، ولكن يكفي ان تنبثق بعض اللحظات من منطقة النسيان فينا ، لتبدأ دينامية التذكر وليبدأ الخيال في نسج ما هو كامن في اللاشعور وفي الذاكرة الغافية ، هكذا انطلقت في كتابة ” لعبة النسيان ” وكأنني امارس لعبة قادتني الى أجواء ومناطق تختلط فيها الابتسامة بالألم والسخرية بالمرارة ) .
ومع كل ما قاله من ” إيهام النفس بأن الكتابة تتيح الاقتراب من اعماق الزمن ومتاهته ” ، فإنه لاينسى انه كان يحمل افكارا يسارية مناهضة للدكتاتورية وآمالا عريضة في التغيير انعكست على مجمل نتاجه القصي والروائي وانتشرت تلك الافكار لتغزو حتى مقالاته الأخيرة التي ينشرها هنا وهناك ، ففي إحدى كتاباته التي ينشرها تحت مسمى آفاق ، يتحدث عن تجربته التي كانت لعبة النسيان هي إحدى إرهاصاتها : ( عندما استحضر المحطات الأساس في مواقفي كمثقف منذ ستينيات القرن الماضي ، أجد أنني قد انتقلت من تصور الى آخر ضمن سياق اجتماعي – سياسي – معرفي ، كان يحكم السياق ويؤثر في بلورة الوعي المتنامي والمتحول والذي لايكاد يعرف استقرارا ينغلق داخله ، فأنا أذكر أن مواقفي كمثقف مغربي – عربي كانت ، في ستينيات القرن الماضي ، مستوحاة من سياق سياسي – فكري – ” ايديولوجي ” تلتقي عند أمشاج من الفلسفة الوجودية والناصرية والماركسية ، مع نزوع الى الثورة الانقلابية ..ذلك أن سياق ما بعد الاستقلال في المغرب فتح الابواب أمام صراع حاد وعنيف بين القصر والاحزاب الوطنية التي كافحت من أجل الاستقلال ) الى ان يقول : ( وعندما تغير السياق ومستوى المعرفة منذ مطلع الالفية الثالثة ، على سبيل المثال ، فإن مواقفي كمثقف قد تغيرت على ضوء التحولات الكثيرة التي عاصرتها داخل مجتمعي وفي العالم ) .
في نهاية نقاشه هذا يعتبر برادة ان حضور المثقف المستمر هو وسيلة لربط الفعل بالتفكير ، وتصحيح الاخطاء والتعثرات عبر الممارسة ) ، ويستشهد بمقولة ادوارد سعيد : ( المثقف يطرح علينا للمناقشة اسءلة محرجة ، ويجابه المعتقد التقليدي والتصلب العقائدي ” بدل ان ينتجهما ” ويكون شخصا ليس من السهل على الحكومات أو الشركات استيعابه ) .
ومع روايته الأخيرة ” حيوات متجاورة ” نراه يلجأ الى لغة إيروسية خشنة كما يعبر عنها الكاتب خليل صويلح ، لكن برادة يقول : ( هذه اللغة تحتاج اليها الرواية ، مثلما تحتاج الى الصدمة الجمالية .. أما الجنس فهو عنصر أساسي في الحياة والكتابة ، لابد من أن يشتبك في الكتابة الروائية مع المحرم ، شرط ان لا تتحول الكتابة الى مجرد شعار ، المهم هو كيف نروي حكاية ، ونصنع عالما خاصا بنا ) ، وقد صنعه فعلا في لعبة النسيان عام 1987 ، وفي الضوء الهارب 1993 ، ومثل صيف لن يتكرر 1999 ، وامرأة النسيان 2001 ، ومحكيات ، ومجموعته القصصية سلخ الجلد 1979 ، والاخرى ودادية الهمس واللمس .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* شاعر وناقد عراقي