لميعة عباس عمارة شاعرة عراقية محدثة ومبدعة وهي كما وصفوها محطة مهمة من محطات الشعر في العراق، ولدت في بغداد عام 1929في منطقة الشواكة بجانب الكرخ وهي من المناطق الشعبية المشهورة ،ونشأت وترعرعت في العمارة فأخذت من الاولى التبغدد والدلال ومن الثانية عسل الريف وسمرة الخدود.بدأت لميعة كتابة الشعر وهي في الثانية عشرة من عمرها وكانت ترسل قصائدها الى الشاعر المهجري الكبير إيليا أبو ماضي(1889-1958) فقد كان صديقا لوالدها الرسام المغترب هناك،فنشرت لها مجلة (السمير)أولى قصائدها وهي لم تزل في الرابعة عشرة من عمرها وقد علق عليها أبو ماضي إذ قال:(إن في العراق مثل هؤلاء الاطفال فعلى أية نهضة شعرية مقبل العراق)وتحقق قول الشاعر وصارت الطفلة شاعرة كبيرة فيما بعد.
كان من النادر على المرأة العراقية آنذاك وفي خمسينيات القرن الماضي أن تتفرغ للدراسة سيما وأن العادات الاجتماعية كانت تحد من تعليم المرأة إلا في حالات كحالة لميعة فقد كان محيطها يسمح لها ويشجعها على إتمام تعليمها وهذا ما جعلها تجتاز الدراسة بدار المعلمين العالية بنجاح ،كان ذلك عام 1955 وتتقدم للتعيين كمدرسة على الملاك الدائم فى الاعدادية المركزية للبنات وكان موقعها في شارع الجمهورية وسط بغداد،وعن تلك المرحلة المهمة من حياتها العملية تحدثنا الكاتبة والشاعرة هدية حسين قائلة:(…في صباح اليوم التالي ساد بيننا وجوم وحزن ،وبعد دقائق أطلت المدرسة الجديدة …إمرأة فارعة الطول ،واسعة العينين،أنيقة بشكل مفرط ،ألقت تحية الصباح وراحت تتحدث الينا…كان لها صوت ساحر ،تتحرك برقة وتتكلم بعذوبة،لم تحدث طوال وقت الدرس أية جلبة ،بل كنا منصتات بشكل عجيب ومأخوذات بهذه المرأة..طرحت علينا طريقتها في التدريس التي لا تشبه أية طريقة عرفناها،فأخبرتنا إن درس الانشاء سيكون كتابة بحوث عن الادباء والمفكرين طيلة النصف الاول من العام الدراسي لكي يتسنى لنا تقوية ملكتنا اللغوية ..وحينما أعلن الجرس نهاية الدرس قالت:اسمي لميعة عباس عمارة وما إن خرجت حتى رحنا ننظر الى بعضنا بعضا إعجابا بهذه الشخصية التي سحرتنا،والتي أصبحت فيما بعد مثلنا الاعلى في كل شيئ ،بل بتنا نقلد طريقتها في الحكي ،ونتسابق لابراز أفضل ما لدينا).
وتستطرد الكاتبة في تحليلها لأهم المؤشرات التعليمية في حياة الشاعرة لميعة فتقول:(هذه المرأة الصابئية هي التي جعلتنا نبحث عن الجمل المفيدة ونستخرجها من القرآن ،وليس على طريقة ذهب فلان وجاء فلان ،واشتريت كذا وكذا ..كانت تقول أقرءوا قرآنكم وتعلموا منه ،واقرءوا نهج البلاغة وتعلموا كيف تكتب الجملة وكيف تقرأ).
تعرفت لميعة في بواكير حياتها الأدبية والشعرية خاصة على عمالقة الثقافة والشعر في بلاد الرافدين وقد قيل الكثير عن علاقتها بالشاعر الراحل بدر شاكر السياب (1926-1964) والذي كناها (وفيقة) حتى لا يتعرف عليها أحد في قصائده التي كان ينشرها وتتداولها المنتديات الادبية إلا انها خرجت من شرنقة تلك القصائد لتعلن ان لميعة عباس عمارة هي وفيقة ،وقيل إن قصائدها التي نشرتها تحمل إشارات لتلك العلاقة مع السياب وما قصيدتها المشهورة (لو أنبأني العراف) والتي قالتها بعد سنوات على رحيله إلا غمزا وتلميحا له:
لو أنبأني العراف
أنك يوما ستكون حبيبي
لم اكتب غزلا في رجل
خرساء أصلي
لتظل حبيبي
لو أنبأني العراف
اني سألامس وجه القمر العالي
لم العب بحصى الغدران
ولم أنظم من خرز امالي
تقول لميعة:( كانت أكثر لقاءاتي بالسياب في منزل الأديب محمد شرارة الواقع في منطقة الكرادة الشرقية).
وقد أشارت الى هذه الامسيات السيدة بلقيس شرارة في مقدمة كتاب الاديبة الراحلة حياة شرارة(إذا الايام أغسقت) وذكرت اسم السياب ولميعة ونازك الملائكة والبعض من رجال الفكر اليساري في العراق،كانا يتبادلان القصائد العاطفية والتي كان فيها بدر أكثر صدقا من لميعة وهو الامر الذي كان يجري تداول الحديث عنه بين أدباء تلك الحقبة،وحين يقرأ قصائده يفيض مشاعر الى الحد الذي يوحي للمستمعين اليه وكأنه يقدم اليهم أعترافا بلغة الشعريطال ما كان يجيش في داخله من أحاسيس لا يطيق أن تبقى كامنة ،ولا يجرؤ على الجهر بها بالكلام المباشر.
في لقاء قديم في برنامج (خليك في البيت) الذي تقدمه إحدى القنوات الفضائية عام 2002ظهرت الشاعرة لميعة صحبة الشاعر الراحل نزار قباني(1923-1998) والذي عرض عليها في ذلك البرنامج أن تسجل تجربتها مع بدر في كتاب حتى تنال الشهرة التي سرقها منها محمود البريكان ورشيد مجيد وعبد القادر الناصري وهم من كبار الشعراء العراقيين وظهروا في نفس الفترة الزمنية التي ظهرت فيها الشاعرة لكنها رفضت ذلك وبينت انها لن تبني مجدها على حساب شاعر كالسياب وقالت :ليس صحيحا ما أشيع أن بدرا أحبني دون أن أحبه بل إني كتبت عدة قصائد له منها (وحدك) و(الحب المقتول) و(لعنة التمييز) و(مكانك الخالي) و(تحياتي الى البصرة) وجميعها كانت موجهة الى بدر.
تقول في قصيدة لعنة التمييز:
يوم أحببتك أغمضت عيوني…
لم تكن تعرف ديني
وعرفنا فافترقنا دمعتين
عاشقا،ولم تلمس حدود الأربعين
وأنا واصلت أعوامي..
أو واصلت تسديد ديوني!!
وفي قصيدة أغاني عشتار تفصح أكثر عن لواعجها:
يخيل لي أنني لم أحب سواك
تقول دموعي إذا ما قرأتك للمرة الألف
بين السطور
وأنت تموت
وأنت تثور
وأنت تئن كسيحا
وأنت تموت كسيحا
أحببتك اكثر حين الهوى
لا ينال
وأنت محال
أقصتك عني عشرا وعشر
وخيرا وشرا
وها أنت تبعث في خاطرة
فأبكي لوجهك بين السطور
أكثر ما يميز تجربتها الشعرية هو هذه النبرة الأنثوية الأخاذة في قصائدها واقترابها مما يضج به جسد المرأة وروحها ورغبات لا يخلو التعبير عنها من جرأة كبيرة في الغزل والتي لم تسبقها إ ليها شاعرة ،ففي قصيدة (شهرزاد) نقرأ:
أحتاج اليك حبيبي الليلة
فالليلة روحي فرس وحشية
أوراق البرد أضلاعي يفتتها
أنطق هذه اللغة المنسية
جسدي لا يحتمل الوجد
ولا أنوي أن أصبح رابعة العدوية
لميعة عرفت كيف تتلاعب بالكلمات وهي هنا تصوغ سيناريو شعري جميل اخاذ يكاد ينطق تمثيلا يؤطره الشعر تقول:
تدخنين؟؟
لا…
أتشربين؟؟
لا..
أترقصين؟؟
لا..
ما أنت ؟ جمع لا !!!
أنا التي تراني… كل هموم الشرق أرداني
فما الذي يشد رجليك الى مكاني
يا سيدي الخبير …بالنسوان
إن عطائي اليوم شيء ثاني
حلق..فأن طأطأت..لا تراني!!!
بعد رحلة طويلة في التدريس تقاعدت ،كان ذلك في سبعينيات القرن المنصرم لتتفرغ لحياتها الادبية والشعرية فأضافة لدواوينها الشعرية :الزاويةالخالية/1960 و/عودة الربيع/1963 و/أغاني عشتار/1969 أضافت إليها دواوين/ يسمونه الحب/1972و/لو أنبأني العراف /1980و/البعد الاخير/1988
كان عرافها حاضرا دائما أمامها ينبؤها بالرحيل بعيدا عن أرض الوطن فباتت لا تطيق منظر الحقائب الكبيرة لانها تذكرها بالسفر إلا إنها في اخر المشوار امتدت يداها لتجر هذي الحقائب الى المغرب ،كان ذلك في تسعينيات القرن الماضي وهناك على سواحل الاطلسي كانت ترقب من شباك غرفتها الافا من البشر وهم يمرحون إلا هي فقد بقت وحيدة في غرفتها فقالت ابيات شعرية رائعة:
وحيدة على شواطئ الاطلسي
ليس سوى ذكرك كان مؤنسي
فليست غرفتي بل محبسي
أرقب من شباكها الاحياء
…الشاطئ المشمس
عيد لكل اثنين في مثل جموح الفرس
مجردين غير خيطين بقايا ملبس.
من المغرب جرّت حقيبة سفرها الى فرنسا وهناك في عاصمة النور باريس فاجأها الحنين الى بغداد فأنشدت شعرا إلا إنه في هذه المرة كان شعرا شعبيا:
بغداد عشر الملايين إلا هواهم ولا لي عوض
بالرضى فرض علي انفرض
وما صاحبي بعدهم ..غير التعب والمرض
والدمعتين التنام بشعري تالي الليل
اكول خلصن واتاري الخلص بس الحيل
أدري جبيرة الارض..بس مالي بيها غرض
كان العمر يمضي بها سريعا فأحبت أن تخلد الى الراحة بعد أن أجهدتها الايام وهدها تعب السفر والحنين والألم فاستقرت في مدينة سان دييغو في ولاية كاليفورنيا بالولايات المتحدة الامريكية ولأن عشاقها ومحبي شعرها أصروا على أن تعود للكتابة إلا إنها اكتفت برئاسة تحرير مجلة (مندائي) التي تصدر بأمريكا ،وهي في السبعين من العمر لازالت ترنو بعيدا بعيدا الى بغداد والعمارة فلعل عرافها يزورها يوما ليخبرها بأن حقائب السفر باتت جاهزة للعودة والاحباب بانتضار..
ـــــــــــــــــــــــــــــ
شاعر وناقد عراقي