( إلي من استضفتهم في روايتي هذه من مبدعين أثروا البشرية … يوسف إدريس ، أمل دنقل ، محمد شكري ، هوميروس ، أنطون تشيكوف ) . هذا التداخل الفني لا يحتاج إلي مبرر فهذا العمل الملحمي لا يعتمد علي تقديم الجانب التاريخي لتصبح رواية تاريخية مصدرها الوحيد التاريخ ، أو تلهث وراء الوقائع التاريخية للحفاظ علي موقعها وصدقها ، بل هذه الرواية تسعي لتقديم رؤية وفكر وتعمل علي صنع هذا التوازي بين الأحداث ، والأزمنة لتعلن اختلافها وخروجها من فترة تاريخية إلي فترة أخري ، فنجد شخصية ” جريج الهومري ” الحكاء الذي يضيف إلي النص الروائي مكملا مع المشاهد الخلفية التي تقدم في كل مرة مشهدا مختلفا ” مشهداً إنسانيا ، رؤية تاريخية / تداخلا مع النص الأصلي بمشهد مختلف ” اجتماعي / سياسي ” فالحكاء هنا يعلن عن وجود زمن مختلف وحضور الأسطورة التي تتماس مع وقائع الرواية تكشف هذا التداخل ، ويمكن أن نعتبر الشخصية الواحدة هنا تمثل عصرا مختلفا وأحيانا نجدها شخصية عادية ” طبيعية ” كاملة لا تخرج عن كونها شخصية مكملة وأحيانا نجدها شخصية بحجم الزمن ، تتجرد من واقعيتها كمفتاح أول يخرجها من الزمن المستخدم ، وسوف يكتشف القارئ تعدد مستويات اللغة التي تعمل كأداة تنبيه للخروج من منطقة إلي أخري أو من زمن إلي زمن آخر ، فأحيانا نجد اللغة حادة مجردة ، لغة أقرب إلي لغة المقال السياسي وهو مايبرز وجود الراوي العليم في هذه الفقرة وغيابه في فقرة أخري ، وأيضا الرواية مُحملة بأساليب متعددة في السرد ودائما ما تنتهي كل فقرة من الفقرات بسؤال أو كشف جديد فاعل ، وتتجلي خبرة الكاتب وقدرته علي تطويع كل الأشياء صغيرة كانت أو كبيرة في تفاعل الأزمنة المتداخلة لتكوين أو الكشف عن رؤية ناضجة محايدة فالرواية تحاول الحفاظ علي هذا التوازي المحكم بين الخط المستقيم الذي هو بمثابة العامود الفقري هذه الرواية والخطوط الأخرى المكملة وهي تنطلق من نقطة بدايتها ، متساوية تماما مع نقطة البداية للعامود الفقري ومتوازية معه ، هذا الخط المكمل يتوقف عند نقطة نهاية محددة وينطلق خط آخر بدايته نقطة الفراغ التي تلي نهاية الخط الأول
فالخط الأول ( العامود الفقري للرواية ) بعزله عن الخطوط المتوازية يجعل الرواية رواية محددة ” تاريخية ” وتكتسب سحرها لدي القارئ العادي من خلق حياة كاملة للحدث التاريخي الثابت بمعني أن التاريخ لم يقدم المعاملات اليومية ولكنه قدم الحدث المؤثر بالإيجاب أو السلب ولكن الخطوط المتوازية الغير متصلة هي عبارة عن مفاتيح أساسية لقراءة النص وتأويله ، وهي مبرر قوي لهذا الخلط ، وأيضا الفواصل ” الفراغات ” التي تقع بين نهاية الخطوط المنفصلة هي أيضا مفاتيح إضافية مساعدة مثل دخول ” سعد ” ومقولته الشهيرة
( أتت صفية مسرعة وانحنت ناحية رأسه تستمع لمقولته الأخيرة ….
ـ مفيش فايدة يا صفية … غطيني وصوتي )
و( محمد شكري ” كاتب شكاوي وجوابات لأهل العزبة وحاكي حكايات حياته الصعبة الغريبة والمثيرة لكل من عنده جرآة السماع …. ” ثم ” وصاح في الناس بالعربي الفصيح وقال خلاصة حكمته التي قطرها خلال عمره المديد صرخ قائلا .. بالمال يستطيع الإنسان أن ينكح العالم )
المقاطع السابقة تعتمد علي ثقافة المتلقي ومخزونه المعرفي فنجد أن سعد وصفية شخصيات عادية في الرواية وبإحالتها للمخزون المعرفي والجمل الواردة بالنص الشهيرة التي تكشف عن الشخصية التاريخية ل ” سعد زغلول ” وأيضا الروائي ” محمد شكري ” ويساند هذا الكشف الإهداء الذي يكشف وعي الكاتب وأن هذه الرواية عبارة عن عمل متشابك أو منظومة متكاملة ويدلل علي هذا أيضا اللغة العامة للرواية التي تقترب في لغتها من لغة وشكل كتابة كتب التراث وتمتع أمهات الكتب بأساليب البحث الجاد والشامل وأيضا جرأة الكتب الخالدة مثل ” الف ليلة وليلة ” والحكمة وأيضا الفقرات المقوسة من القرآن والإنجيل والحديث وما كتبه المؤرخون ، كل هذا يجعلنا نتعامل مع الرواية بحذر لأنها تحاول تقديم خلاصة ما أفرزه العالم علي مدي التاريخ الكبير من صراع بين الخير والشر وكما تجيب الرواية عن كثير من الأسئلة الا أنها تفجر أكثر ما تجيب .
( أزمنة يحكم هؤلاء وأزمنة يحكم تلكم وأزمنة غيرهم ، ما هؤلاء بأفضل من تلكم ، ولا تلكم أحسن من هؤلاء ، وغيرهم ليسوا بأرقي منهم ، فالكل طاغ والكل باغ ، وأقل القليل منهم يؤتي الحكمة فيندهش من جحيم ظلم الإنسان للإنسان فيتساءل
لم ؟ )
ونجد الإجابة واضحة تماما لما قامت الحروب الصليبية ، فالمؤمنون بالمسيح وبتكفير الخطايا وهم العامة تحمسوا بغرض تحرير أنفسهم من العبودية والإقطاع والجهل والمرض ، والتجار تحمسوا للمكاسب التي هي محركهم الأساسي كما قال تاجر البندقية الشهير ( لنكن أولاً بنادقة ثم لنكن بعد مسيحيين ) وسنجد أن هذه الأحداث أزلية متصلة مثل حكاية حسام البهيم والراقصة دونيا التي أصبحت مشهورة وحسام الذي ظن نفسه أفضل من المماليك بثروته الكبيرة التي ادخرها من سرب الحمير وأنه رفض إشراك رجال الأمير علي بن باباي في اسراب الحمير فتم فضحه وكشف علاقته مع الراقصة دونيا
” في الليل ومن سطح بيت كبير علي النيل ، شاهد جملة من الناس المختارين بعناية وأهم معالمهم الخسة والدناوة ، شاهدوا في صالة بيت كبير قريب منهم … ثم شاهدوا حسام البهيم مع الراقصة دونيا يأكلان ويشربان الراح ثم ترقص دونيا علي المرتاح … تخلع القليل مما يستر بدنها الفضاح ، ترقص رقصا فاحشا لعشيقها الذي يدخن الحشيشة من النارجيلة ثم يقوم ليراقصها ثم يواقعها )
وسواء كان سرب حمير أو سيارات في العصر الحديث أو طائرات في المستقبل فالحدث يذهب إلي حيث يريد الروائي ويؤدي دوره علي أكمل وجه
إن هذه الرواية الجادة التي تهدف إلي تعرية شاملة عميقة تعتمد علي البحث والرصد والتأمل والسخرية والإجابة أحيانا والسؤال علي مدار الرواية ، هي رواية تسعي إلي الكمال وتنجح في الولوج داخل الأشياء والنظر إليها من عدة زوايا ، هي رواية تريد أن تصفع النظريات الوافدة علي وجهها وتتمسك بالخصوصية ، وتسعي إلي تقديم كتابة مصرية جادة متفاعلة مع كل القضايا التي تخص الإنسان علي وجه الأرض ـ سنجد أن الرواية تذهب إلي بعيد وتخترق حدود المكان كما تحطم الفواصل الزمنية ولكن هذا يتم من خلال فكر ورؤية الكاتب ، في هذه الرواية يحاول حجاج ادول أن يعيد مجد الكتابة والكلمة ، أن يقدم كتابة تجبر القارئ علي احترامها كما تحترمه ويصنع عالما جديدا غير مألوف للقارئ ، وما يخرج هذه الرواية رغم أنها بالفعل رواية تعتمد علي التاريخ هو خلق الشخصية أو بمعني أدق زراعة الشخصية وهذا مباح للروائي لأنه ليس مؤرخا فالروائي في هذه الرواية يأتي بشخصية مندمجة أو متوازية مع السياق العام .
” قراءة النص “
قراءة النص الأدبي هي عملية صعبة ومعقدة ، لعدم وجود معايير تحكم عملية القراءة والتلقي من ناحية ، والغموض والأبعاد المتعددة من ناحية أخري ولكن لابد أن نعترف بوجود مستويات تلقي فالقراءة العادية تكون سطحية هدفها المتعة وسنجد أن الكتابة المباشرة تصبح مناسبة جدا لهذا المستوي .
والقراءة المثمرة تحاول فض غموض وخلق رؤي جديدة في النص الأصلي المباشر والبحث عن النص البديل
والقراءة المتخصصة تسعي لتحديد موقع الكاتب وتبحث عن الجديد لديه وعن قدرته في الخلق والاختلاف
” مفاتيح النص “
ليست مفاتيح النص هي كتابة نص مكشوف عن قضية كبري بدون إشارة أو مفتاح ” لا أقصد كتابة نص مباشر ” فقط مفتاح حتى لا يختلط الأمر ، فمن الغباء أن نصف نصا أدبيا يصف رجل قوي ومستبد قام باغتصاب منزل امرأة فقيرة وبمساندة من أهل الحي وكباره أن النص بالضرورة يعبر عن فلسطين أو العراق أو أية بقعة متشابهة ، فيجب علي الكاتب مراعاة عنصر الزمان المتجدد ولان القضايا متجددة رغم أن هذا التجدد ثابت في أصله مختلف قي شكله وعلي سبيل المثال رواية الروائي / جمال الغيطاني ” الزيني بركات ” هي رواية تاريخية لكن الروائي بعبقريته استطاع أن يخلق بعض الشخصيات التي تمثل العصر الحديث لذلك سوف تظل الأعمال الأدبية التي تعتمد علي الهم الإنساني والقضايا الإنسانية موجودة فاعلة ومؤثرة والنماذج كثيرة يمكن مراجعتها عند ” نجيب محفوظ ، صنع الله إبراهيم ، فتحي امبابي ، سعيد الكفراوي …. الخ “
وهذا أيضا لا ينفي الكتابة الإنسانية التي تعتمد علي اليومي والمعاش أمثال ما قدمه
” إبراهيم أصلان / يحي الطاهر عبدا لله …. الخ “
وسوف نجد أن المفاتيح موجودة وفاعلة داخل هذا العمل الروائي ، موجودة من خلال الشخصيات التي أشرنا إليها من الإهداء وفاعلة بهذا التواجد المحكم الذي اكتسب البعد الزمني الجديد .
” بريا الناصر سطوته باتت في الجامعة التليدة وقبضته قبضت علي رقاب العديد من شيوخه فصاروا تابعين له ولما يريده هذا الخبيث اللئيم وليسوا تابعين للكتاب والسنة والشرع القويم . الشيخ عطية بعد أن هري عددا الشيوخ سخرية لتبعيتهم
…. ” ثم ” … انتقل واثبا ليلطش شيوخ المراحيض والحيض وتبوس بلغ مانحي الدينار وان كانت تبعية في الآخرة غضب الله والرمي في النار ” سوف نلاحظ هنا أن الفكر يحاول كشف الخداع وتعرية الحقيقة وسنجد أن السلطان باباي جاء إلي دكة السلطنة كسلطان مؤقت حتى يتخلص كما يعتقد كل أمير من خصمه ولكن السلطان عمل كما نصحه ” بريا الناصر ” علي سرقة شعبه ورمي الفتات لهم وأشار إليه بريا أيضا أن يضحك علي عقولهم فيرمي إليهم هذه الأشياء التافهة مثل الدنانير وبناء المساجد وذل المسيحيين فأصبح السلطان المسلم رغم أن رائحة الخمور و ألزني تفوح من قصره وبعلمه وحاول أن يزيد من نفوذه ليتفوق علي المماليك الكبار الذين يحشدون مماليك أقوياء مختارين بعناية ، وأيضا سنجد أن العوام ليسوا بأفضل من حكامهم ، فعزبة الشحاتين وحارة البرجلة ، الفساد والتواطؤ والجهل والعلم والإخلاص مجتمعين وسوف نجد أن الفساد والفقر ينجبا مجموعة من الأمراض والعاهات
” الشخصية وموقعها ” و ” الشخصية كمفتاح “
الرواية تعتمد أيضا علي الشخصية الفاعلة التي تستطيع من خلال موقعها أن تحول الرؤية الكلية أو تتوقف لعمل ربط وكثيرا ما نجد الشخصيات المتباعدة تتلاقي وتتحاور ، وقد نجح الكاتب في تحطيم حدود الأماكن والأزمنة ، مثل لقاء ” جيفري ” أو سوا سوا والعابد المقيم بالإسكندرية فهذا قتل من المسلمين باسم الدين وهذا قتل من المسيحيين باسم الدين ، الشخصية في هذه الرواية بحجم عصر أو دولة أو جماعة من البشر أو فكر جماعي ، الشخصية هنا تكاد تكون خارجة من عاديتها ، أو عادية جدا مثل الأقلام المأجورة للأخوين ( مصطفي وفكري ) أو ( حمرا ) أو ( اكسوم ) … الخ . الشخصيات هي عبارة عن دول تشكل عالم تحت سماء الفكر والصراع والأطماع ، ان الشخصية عند حجاج ادول تنجح في الحفاظ علي توازي الشخصية الواحدة مع نفسها فتصبح شخصية عادية في موقعها الأول وشخصية فاعلة تكشف الرؤية عند الالتحام مع الحدث أو عند مرورها علي المفاتيح الكثيرة التي تغير مسار الحدث عند المستوي الثاني أو الثالث من التلقي
( الشكل واللغة )
الشكل هنا أقرب إلي الشكل التقليدي واللغة تؤكد هذا أيضا حيث أن الرواية تعتمد علي لغة استثنائية سوف نجد لغة ( الف ليلة وليلة ) ولغة ( الكتب البحثية ) و( لغة الكتب التراثية والتحقيق ) ولغة الشارع واللهجات كالكتابة بالمنطوق لبعض الشخصيات مثل ( سوا سوا )
وسوف نلاحظ تقسيم الرواية ككتاب تراثي قديم
” منظرة علي حوض البحر الوسيط “
” ذكر ما كان في حكاية الأصدقاء الثلاثة “
” من اين أتت حمرا ” و ” من أين أتي أكسوم “
وأيضا سوف نجد المشاهد الخلفية إن اختلاف اللغة من شخصية لشخصية هنا و أن دل يدل علي الصدق الفني وأيضا يصنع الفواصل بين الشخصيات الكثيرة لفض ودمج هذا التشابك
سوف نجد أيضا في الرواية الشتائم البذيئة وهي كثيرة جدا معبرة عن حياة الناس اليومية منقولة بصدق ولها ضرورة فنية خادمة وأيضا الحكم وآيات القرآن الكريم وفقرات منقولة من الكتاب المقدس والأغاني والشعر والأمثال وكل واحدة من هؤلاء تلعب دورها المرسوم بإتقان من أجل الوصول الي التكامل ، إنها ملحمة روائية تسعي إلي تقديم العالم بتاريخه وحاضره وفكره البناء وتجاوزاته وخداعه وصدقه من خلال هذا الموقف المحايد والرؤية العميقة التي تعتمد علي مرجعية ثقافية ، هي بالتأكيد رواية مغايرة جادة تستحق الاحتفاء والتقدير والاهتمام فهي رواية تجعلنا نفسح لها مكانا بالمكتبة ونضعها بجوار أعمال كبار الأدباء.
رواية ” خوند حمرا “
المؤلف ” حجاج ادول “
الناشر ” الحضارة للنشر “
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* روائي وناقد مصري