– وبعد أن أريكم يمكنكم الانضمام لمدرستي لتعليم ذلك الفن المندثر.
كانوا مستمتعين ومنهم من يصور ما يفعله ، أحضر أتباعه تابوتاً فتحوه عن جثة مسجاه داخله لرجل بدا في منتصف العمر. اقتربنا ونظرنا إلى الجثة بينما هو يقول:
– تحققوا منه. تأكدوا أنه ميت.
أخذنا بالفعل نتحقق من نبضه من اليد والرقبة والصدر وهناك من فتح إحدى عينيه وسلط عليها نور من هاتفه النقال ليختبر استجابة البؤبؤ للضوء، بينما اكتفت امرأة بوضع مرآتها تحت أنفه.
– والآن.. ابتعدوا..
ابتعدنا والعيون متعلقة بالجثة ومن يدعي بأنه سيحييها.مد ذراعيه نحو السماء وكأنه يستعطفها. أخذ يتمتم بأشياء غامضة ويشير إلى الجثة حيناً ثم يعود ليترجى السماء. فجأة هدأ وقد بدا ضوء أزرق يتشكل حول يده حتى صار كرة زرقاء بحجم قبضة اليد قذف بها فجأة نحو الميت فقام هذا شاهقاً وكأنه كان تحت الماء وخرج منه أخيراً لينقذ نفسه.
سادت لحظات من الصمت. حتى العائد للحياة كان صامتاً يتأملنا. أخيراً صفق أحدهم في شك ثم أتبعه الأخرون.
– والآن يا أصدقائي.. هل منكم من يريد الانضمام لمدرستي؟
في ظرف دقيقتين غادر الجميع في صمت. بعضهم ترك عدة ورقات نقدية من فئة الدولار واليورو والاسترليني. لم يبق غيري ، ومعي أبريل.زوجتي التي تتهمونني الآن بقتلها. أنا وهي جمعنا شيئ وهو أننا لم نكن في بانجوك من أجل المتعة. كنت في رحلة عمل بينما هي في مدينة الإله بوذا لتبحث عن دين يناسبها بعد أن هجرت المسيحية ولم يعجبها الإسلام ولا الهندوسية.
نظر إلينا باعث الموتى ذو الملابس المضحكة. استدار للميت وقال:
– يمكنك الذهاب لمنزلك يا أوتشا.
قام المدعو أوتشا سعيداً وقال باعثه :
– مسكين.. كل مرة يظن أنه لن يقوم وسيترك للجوارح لتاكله.
سألته أبريل:
– هل كان ميتاً فعلاً.
ابتسم بعينيه فقط دون أن يستشعر الإهانة وقال:
– هذا الرجل مات أكثر من خمسين مرة. هكذا يعيش.
سألته أنا هذه المرة:
– وكيف….
– حقنة هواء. لا نريد تشويهاً في جسده.
سألته أبريل:
– هل ستعلمنا حقاً؟
– بالطبع. كدت أن أيأس من أن أجد في هذا العالم من أمنحه فني. استعدا. غداً عند الغروب سنبدأ.
اعترف كل منا للآخر أنه غير مقتنع وغير مصدق لخرافات المعلم العجيب. لكننا فحصنا الميت وتأكدنا من موته. قالت أبريل:
– أكيد في الأمر علم ما أو طقس لا نعرفه يستطيع به إيقاف أعضاء الجسد ثم إعادتها.
– ولكن لم يريد تعليمنا؟ لو كان مجرد عرض لاكتفى بالتصفيق والمال.
صمتت قليلاً وكأنها لا تجد إجابة.قضينا الليلة نتحدث ونتعارف. لم أتعجل النوم معها فالأيام ستأتي كثيرة.. قضينا النهار التالي كله معاً وعند المغرب كنا هناك.
– حسناً . أخبراني أولاً ماذا تعلمان عن بعث الموتى؟
– يقال أن المسيح كان يبعث الموتى.
– الله سيبعث الموتى.
– إذن كلاكما مقتنع بأنه من المستحيل أن نبعث الموتى لأنه إما أسطورة أو يتطلب قدرة إلهية. حسناً القدرة الإلهية الوحيدة هنا هي المعرفة. الإله- أياً كان اسمه- يعرف كيف يستدعي الأرواح وكيف يرسلها للأجساد. لو أوتيتم هذه المعرفة فقط ستكونون مسيحاً جديداً.
قالت أبريل في صوت لا يخلو من الحماس:
– أو آلهة.
ابتسم المعلم وقال:
– الإله يعرف كيف يستدعي جميع الأرواح مرة واحدة. هو يأمرها فتطيع نحن نطلب فنجاب.كما أن للإله صفات كثيرة تكمل بعضها. لو أوتي- مثلكم- بعث الموتى فقط. فسيفعل مثلما ستفعلون، سيفكر في نفسه فقط .
مازالت تلك الكلمات تطرق أذني كلما فكرت فيما فعلنا بعدما تعلمنا . السر كله كان يكمن في الإغراء كما أخبرنا. يجب أن تغري الروح بالبحث عن جسدها والعودة إليه. صعوبة الأمر أن ترضى الروح بعد تحررها أن تعود لسجن الجسد مرة أخرى. في بداية الموت يكون الأمر أسهل كثيراً لارتباط الروح بأهل الأرض لذلك من السهل أن تعود لتعيش مع أحبائها ، وأحياناً يكون الأمر مجرد أمور عالقة ترغب الروح في إنهائها. لكن كلما مر الوقت فقدت الروح ارتباطها بالأرض فلا ولد تتذكره ولا شأن تهتم به.
– يقولون أن مسيحكم بعث رجلاً من عهد الطوفان. بفرض صحة الأمر فهو صعب جداً ولا ينفع مع إغراء بل هو الأمر فقط. لا أقول أنه مستحيل فبالخبرة والمعرفة تستطيع أن تأتي بأي روح تشاء برغبتها أو دونها. لكن هذا سيتطلب سنوات من الدراسة.
بعد هذه المقدمات النظرية بدأ التعليم عملياً. لم يكن الموضوع بالبساطة التي أداها بها في المرة الأولى. صرنا نقيم معه في منزل ليس به ادنى وسائل الراحة. منعنا من شراء الطعام أو احتساء الخمور. كان يعطينا ما يكفي ليبقينا على أرجلنا.أراد كما قال أن ينسينا الجسد لكي تظهر أرواحنا فهي وسيلتنا للاتصال بالأرواح الأخرى. طبعاً كل ما منيت به نفسي من ممارسة الجنس مع أبريل ذهب هباء ولم أعد أفكر فيه عندما وصلت لمرحلة من الهزال أن لا شيء يهمني إلا تلك الأرواح. أثناء تلك الفترة كان يعلمنا اللغة السنسكريتية لأنها لغة الأرواح ، وكان من الحزم أن صار لا يحادثنا إلا بها فصرنا نقضي الليالي جوعى أو عطشى أو نكاد نموت من البرد لأننا لا نعرف كيف نطلب طعاماً أو شراباً أو غطاءاً بالسنسكريتية .وبدأ بعد عدة أشهر حين كانت لغتنا تتحسن وأجسادنا قد بلغت العظام، بدأ يأتي بجثث مات اصحابها خلال اليوم . اخبرنا أنه معروف في المدينة لذا يأتيه البعض بجثث ذويهم لعله ينجح في إحيائهم ولو يوم واحد . أحياناً ينجح خاصة مع ذوي الموت المفاجئ ممن لم تتح لهم الظروف وداع أهلهم أو ترك وصية أو إنهاء مهمة. أما هؤلاء الذين تعذبوا في موتهم جراء مرض عضال فكانت أرواحهم لا تستجيب للعودة للعذاب.
– رغم أن إعادة روح شخص مات بالأمس أسهل ،إلا أن فرصة حياته ليست كبيرة لعطب جسده.
– ولو كان مات منذ مئات السنين؟
– لا أعلم حقا يا فتى.. فأنا لم أعرف عن شخص عاد إلا الذي أعاده مسيحكم من العدم.
كنت قد استقلت من عملي برسالة على الهاتف لمديري. لم أقلق من الإقامة والشرطة فأنا مختبئ عند معلمي. بمرور الوقت اعتدت الحياة على طريقته . ورغم فشلنا اليومي إلا أن حماس أبريل لم يفتر على عكسي. وكان أداؤها في تقدم على عكسي أيضاً ،ولكنني لم أستطع ترك كل هذا وترك أبريل.كانت أبريل بالنسبة لي هي كل ما تبقى بعد سنة من الانعزال عن العالم.
– سر فشلك أنك لا تحاول أن تعرف صاحب الروح التي تستدعيها. زميلتك تحاول الحديث مع عائلته ومعرفة شيء عن حياته.
كانت أبريل فعلاً تحاول أن تصل للروح بالتعاطف مع الأسرة و معرفة مدى حاجتهم إليه ولو للوداع. ومن خلال ذلك ومع كثير من المحاولات نجحت في استدعاء الروح وأقناعها بالعودة لكنها فشلت في توجيهها للجسد وتولى المعلم ذلك عنها. بينما أنا ظللت أحادث نفسي طوال الشهور معتقداً ان هناك روح تسمعني.
النقلة النوعية في حياتي ، والتي جعلتني ما أنا عليه الآن، جاءت بالصدفة. حين كان المعلم يؤدي عرضه أمام السياح مع أوتشا. عندما انصرف الجميع ، ودخل المعلم إلى المنزل بصحبة أبريل ، بقيت مع أوتشا. خطر لي أن أسأله عن شيء شغلني منذ أن وقعت عيناي عليه. لذلك سالته بما أعرفه من تايلاندية:
– أوتشا.. بماذا تشعر عندما تموت؟
نظر إلي أوتشا وكأنه مندهش أن هناك من يهتم لوجوده. قال في ارتباك:
– حين أموت وحين أعود للحياة أشعر كأن سيفاً يثقبني من عنقي لقدمي.
– أعني بعد أن تخرج روحك.. هل تذكر شيئاً وأنت مجرد روح؟
هز رأسه وقال:
– أنا لا أموت أكثر من ساعة وهي فترة تقضيها الروح في الغرفة . كما أني أعلم أنني عائد فتظل الروح في نفس المكان وتركيزها على استدعائها.
لم أجد في كلامه ما يحمسني وكدت أن أتركه لكنه قال:
– لكن تلك المرة كان الأمر مختلفاً.
التفت إليه وسألته:
– أي مرة؟
أشار بيده وكان الأمر معروفاً:
– المرة التي مت فيها فعلاً. حين أتت زوجتي للمعلم راما ، والذي كان بدأ يقدم نفسي كباعث للموتى. بكت زوجتي عند قدميه لكي يعيد لها زوجها الذي صعقته الكهرباء فمات. كنت أول شخص يبعثه راما في المدينة. لذلك بقيت معه عرفاناً بجميله.
– ماذا حدث عندها؟
– لبثت يومين قبل أن يعيدني راما لجسدي الراقد في الثلج. خلال اليومين كنت قد صعدت في السماء بالفعل وبدأت أنسى ما يربطني بالحياة. ثم استدعاني راما فعدت.
– نعم ولكن.. كيف شعرت وأنت في السماء.
– لا شيء. أخذت أهيم فيها بحثاً عن جنة أو جحيم ولكنني لم أجد . لم ألتقِ روحاً طيبة أو شريرة فأدركت أنني عائد.
– كما أعادك المعلم؟
– لا .عائد لجسد آخر. فرصة أخرى.
– أتعني عندما استدعاك..
– لا .. أنا من ظننتها حياة أخرى.
كنت أسمع عن تناسخ الأرواح.. لكنني لم أظن أنه بتلك الأهمية. وأخيراً وجدت طريقتي. لن أستعطف الروح وأذكرها بما كان لها. سأعدها بفرصة أخرى.
لم يصدق المعلم ولا أبريل في اليوم التالي أنني بعثت شخصاُ خلال دقائق معدودة. وفي الأيام التالية لم أفشل مرة واحدة. تفوقت على أبريل بل شعرت أن المعلم ذاته ينظر إلي بقلق. وعندما نقلنا للمرحلة التالية حيث الموتى أقدم و أصعب من أن يتم مناشدتهم بالعودة من أجل الأسرة وأمور الحياة، حينها عادت أبريل مجدداً للمحاولات الفاشلة بينما انطلقت وحدي محلقاً . كانت أبريل سعيدة بنجاحي أكثر من حزنها لفشلها . والمعلم مازال ينظر إلى عملي بقلق. عندما نجحت أبريل بصعوبة في إعادة روح شخص مات قبلها بأسبوع أبلغنا أننا قد أنهينا تعلمنا وصرنا قادرين على نشر هذا العلم وحدنا. وجدتها أبريل مناسبة جديرة بالاحتفال.
لم أكن أعرف كم مر علينا منذ ذلك اليوم الذي قضيناه أنا وأبريل سوياً.بدونا أغراباً وقد اتسعت علينا معظم الملابس حتى بدونا كشحاذين في صحبة رجل بملابس مضحكة. ولكننا احتفلنا. أكلنا و شربنا حتى السكر ورقصنا.لم يشاركنا المعلم مرحنا وإن بدا سعيداً بنا. عدنا معه لمنزله لجمع حقائبنا والرحيل صباحاً. في الصباح وجدته فوق رأسي. ألقيت عليه التحية فابتسم وقال:
– أردت وأنا أودعكما أن أقول لكل منكما نصيحة.
– بالطبع..
– لا تكذب على الأرواح.
انتظرت منه أن يكمل حديثه لكنه تركني وذهب. في حالة من حالات الاعتراف بيني وبين أبريل بعد ذلك الحديث بخمس سنوات علمت أنه نصحها ألا تتزوجني. لم ينفذ أينا نصيحته. أنا كذبت على الأرواح وهي تزوجتني. استأجرنا شقة عشنا فيها نحاول تدبر أمورنا ولو أننا قضينا الفترة كلها في ممارسة الحب الذي فاتنا طوال عامين . كنا نشعر بالحاجة لمكان آخر لنبدأ منه .كان يجب أن نرحل عن تايلاند. كان أول ما يواجهنا هو أن نفسر للسلطات اختفاءنا طوال عامين . حلق كلا منا رأسه وحاجبيه . وفسرنا غيابنا بانضمامنا لجماعات الرهبان السانجا وقيامنا بالتسول والعمل في المزارع . كنا قد تعلمنا الكثير من المعلم فاستطعنا اقناعهم والخروج من تايلاند إلى ماليزيا. هناك تزوجنا وسافرت معها للولايات المتحدة مقتنعين أنها المكان الأفضل. في البداية كانت أحلامنا مثالية. أن نبعث ضحايا الحروب. شهداء الظلم. من يتركون أماً ثكلى أو أبناءً يتامى. لكنا صرنا نتناقش ونتجادل في جدوى كل هذا. كانت أبريل محدودة الحلم فهي لم تستطع بعث الأموات القدامى مثلي، وأنا احتفظت بالسر لنفسي، و بدأت أحلم بمعجزات كأن أبعث قادة عظماء أو مفكرين كبار أو فلاسفة أو حتى أنبياء. لكنني لم أتخذ خطوة واحدة . زرت مقبرة لوثر كينج بأتلانتا وفكرت أن أبعثه . وجدته كتب على مقبرته “حر أخيراً شكراً يا إلهي” فكرت انه لا شيء سيغري هذه الروح للعودة. زرت كثير من مقابر العظماء . أي منهم لن يعود ولو عاد لما فعل شيئاً . ما الهدف إذن. كانت أبريل تزور المستشفيات. تقتنص الأرواح الصاعدة للشباب أو الأطفال لتعيدها وسط صراخ الأهل من المعجزات التي تحدث. وبدأت الصحافة تلتقط الخيط وتتحدث عن كثير من حالات العودة للحياة بعد الموت. ولكن كما قال المعلم كانت العودة للجسد المعطوب بلا داع فلم تدم المعجزات إلا أيام قليلة. صرنا نتخبط في فشلنا ونتساءل عن جدوى تلك الموهبة . لماذا لم يخبرنا المعلم عن ذلك؟ عندئذ قررنا أن نفعل مثله، ونعرض خدماتنا على من يريد أن يرى من يحب وخطفه الموت. قررنا أن نعيدهم ولو يوماً واحداً لينجزوا وعداً أو يتركوا وصية او يسموا قتلتهم.لكن كيف في بلد كبير كهذا نبدأ . ومن هنا أتت الفكرة التي شهرتنا في العالم كله: العروض الحية. وحين عرضنا الأمر على مدير مسرح وضحك من جنوننا قررنا أن نريه دليلاً. ولكن من الميت؟ كان من الجنون البحث عن متبرع لذلك قررنا ن يكون أحدنا. وحينها طلبت ابريل أن تكون هي الميتة فأنا أفضل منها وأضمن . ومن هنا بدأ انحدارنا. طلبنا من مدير المسرح أن يتماسك قبل أن أغرز حقنة الهواء في رقبتها. ارتعدت وهي تواجه الموت للمرة الأولى. تشنجت وصرخت حتى كاد الرجل أن يجن ويهجم علي لينقذها. كنت قاسياً كحجر وأنا أقتل زوجتي . و عندما سكنت دق قلبي بعنف وأنا أتخيل أي ظلام ألقي فيه نفسي. جربت أن أناديها وأستعطفها كما تفعل هي وكما يفعل المعلم، متخيلاً أنها كأوتشا تنتظر حولنا لتعود، لكن لم اجد جواباً. عدت حينها لطريقتي فناديتها أنني سامنحها فرصة جديدة لحياة اخرى أفضل. حينها ظهرت في يدي كطيف أزرق دافئ ألقيته على جسدها الميت فقامت شاهقة.
كان مدير المسرح كأنه عاد هو الآخر من الموت. كان شاحباً غارقاً في عرقه وهو لا يصدق أن الميت عاد للحياة وأنه لن يكون شاهداً على جريمة قتل. ظل دقائق ينظر إلى أبريل وهو يتنفس بسرعة كمن خرج لتوه من سباق عدو. بعد عدة دقائق هدأ وإن ظل صامتاً يقلب عينيه بيننا ثم هز رأسه وقال:
– لا أعتقد أن عرضكم سيكتب له النجاح.
نظرت إلى أبريل ولكنها كانت صامتة. استطرد:
– ما فعلته كان عظيماً ولكنه أيضاً مخيف. لا أستطيع تخيل رد فعل الجمهور. لو كان واثقاً أنها خدعة فلن تنجح. ولو تأكد من أنها ميتة فلن يتركك تكمل عرضك. وطبعاً لن تجد من يتبرع لتقتله.
خطرت لي طريقة المعلم راما فقلت:
– لن أميتها امامهم . سأدخلها ميتة في تابوت و أجعلهم يتأكدون من موتها.
نظر مدير المسرح لأبريل وكأنه يتأكد من موافقتها ولكنها ظلت على صمتها. تم الإعلان عن الافتتاح بتسمية “يوم القيامة على المسرح”. كانت أبريل أكثر هدوءاً. أتيت بها ميتة وطلبت من عشرة أشخاص أن يقوموا ليتأكدوا من موتها. شحبت وجوه بعضهم عندما تأكدوا أنها جثة. طلبت منهم الابتعاد قليلاً ثم جربت طريقتها لتعود ولكنها لم ترد فجئت بها بالكذبة المعتادة.
كان النجاح ساحقاً. وتوالت النجاحات يوماً بعد يوم. تلاشى الهدف الأساسي وهو الانتشار لكي نستطيع أداء رسالتنا، وتلاشى بالطبع هدف راما وهو أن ننقل المعرفة. صرنا مشاهير ومليونيرات في أشهر قليلة. لم أعد بحاجة لأبريل . صار لدي مساعدين بل وهناك مهووسين يتبرعون للمشاركة بالعرض واثقين في قدراتي. سموني باعث الموتى وسموني المسيح الجديد. طلب الكثيرون مساعدتي ولكن ليس كما تخيلنا يوم أن جلسنا نحلم بأن نساعد العالم، فكانت فاتورتي غالية جداً لا يقدر عليها إلا المشاهير والمليارديرات الذين استنجدوا بي لأنقذ ابناً انتحر أو مات بجرعة زائدة أو حادث سيارة . كنت تلافياً للمشاكل المنتظرة أؤكد لهم أنني سأعيد الحياة لكنني لا أضمنها دقيقة واحدة بعدها فلو لم يتحملها الجسم ومات الشخص ثانية فمن العبث المحاولة مرة أخرى. لم ترحمني الصحافة و وحاول أحد السيناتورات اليمينيين ترحيلي من الولايات المتحدة. لكن المشروع توقف حين احتاج سيناتور آخر خدماتي بدون مقابل. انطلقت أطوف العالم ومعي أبريل لكي نقدم عروضنا. لم تعد أبريل مثل قبل. بل لعلها لم تكن كذلك منذ ذلك اليوم الذي ماتت فيه للمرة الأولى. انتهت حياتنا الزوجية تقريباً ولم تكن تشاركني في حياتي المهنية إلا في العروض الخاصة جداً حين يرتفع السعر للسماء مقابل أن يشاهد العرض الأخطر بأن أقتل زوجتي وأحييها. لم أهتم لتغيرها ولا لحرماني منها فقد كانت المعجبات أكثر من أن أفكر في أبريل. عشت حياة جنسية كسلطان عربي وحولي مهووسات تتمنى كل منهن إشارة مني لأنعم عليها بمضاجعة إلهية تقتلها وتحييها. لا أعرف هل خمنت أبريل حياتي تلك أو سمعت بها أم لا ، ولكننا لم نكن نتحدث، حتى ذلك اليوم الذي طلبتني فيه على هاتفي الخاص لتقول لي:
– راما مات.
لم يكن هذا الخبر مما يؤثر في. ولكنها لم تكن تنتظر رداً:
– أوتشا أرسل لي خطاباً ويقول أن راما أوصاه أن يوصل لك رسالة. لا تحاول أن تجامله وتعيده للحياة.فهو لا يريد من خنزير مثلك أن يقترب من روحه.
عندما عدت إلى المنزل في الصباح التالي كانت تنتظرني وفي عينيها آثار البكاء حاولت مواساتها من أجل المعلم ولكنها قالت:
– ليتني سمعت كلامه.
لم أسألها فقد كنت مرهقاً فاستطردت:
– بم نصحك راما وهو يودعك؟
كذبت وأنا اقول:
– لا أذكر.
– أنا نصحني بألا أتزوجك.
تمنيت داخلي لو سمعت نصيحته وأكملت هي:
– قال لي أنك ستصير على ما أنت عليه الآن. لم أفهم لماذا كان يظن بك السوء حتى تلك الليلة.
سألت دون اهتمام:
– أي ليلة؟
– التي أعدتني فيها للحياة أول مرة.
نظرت إليها باهتمام لأول مرة منذ وقت طويل فقالت:
– أنت تكذب على الأرواح.. منذ البداية كنت تكذب على الأرواح.. لم أشعر بذلك حتى تلك الليلة التي وعدت فيها روحي بفرصة جديدة ولم تتحقق.
كانت تلك فرصة لي لأسألها السؤال الذي حيرني من يومها:
– ولماذا لم تعودي بالطريقة العادية؟
– ولماذا تعود الروح لمن أزهقها؟
– كما كان أوتشا يعود..
– أوتشا تطوع لراما عرفاناً بجميله. لقد حكى لي حكايته.
– نعم أعرفها.. لقد كانت حكايته أهم شيء في حياتي.
قلت ذلك وضحكت وأنا أذكر أنني يجب علي مكافأة ذلك المأفون بعد أن صار بلا عمل الآن.
– ولماذا عادت روحك بعد ذلك بنفس الطريقة؟ هل تصدق كل مرة؟
– في المرات الأولى نعم . كل مرة تصدق أنها فرصة جديدة. بعد ذلك لم تعد تطلب منها العودة . صرت تأمرها فتطيع .
لا أدري هل كانت أبريل تقول هذا بالصدفة أم أنها أرادت أن توجهني نحو نهايتي. فقد خرجت من البيت ونشوة السلطة اللانهائية تسكرني. هل صرت أأمر الأرواح حقاً دون أن أشعر؟ أستطيع إذن إعادة أي شخص. أستطيع إعادة راما ذاته لكي أجبره أن يشهد تلك القمة التي لم يصل لها سوى المسيح. وقتها كنت قد بدأت مرحلة الصفقات المشبوهة مع جماعات عنصرية وإرهابية تريد عودة أشخاص بعينهم. موضوع طلب مني كثيراً واعتذرت بأنه فوق قدرتي. ولكن الآن آوانه. لم يكن من الممكن إعادة الجسد كما بدا بعد محاولات كثيرة. لذلك ومع تطور قدراتي العجيب صرت أحلل تلك الأرواح الطاغية في أجساد أطفال أنتزع أرواحهم للعدم. كثيرون من زعماء تلك الجماعات قدموا أبناءهم أو أبناء مخلصيهم للتجارب. تساءلت كيف سيكون شكل العالم بعد ثلاثين سنة وقد كبر الأطفال ليعيدوا الحروب والطغيان والبؤس. كانت فكرة أنني أحيي وأميت تسكرني، فأنا لا أحتاج لحقنة الهواء الآن لكي أنزع الروح صار الموضوع أسهل وأنجح وأكثر إثارة. حينها وفي عز مجدي بدأت الحرب ضدي.
قادت تلك الحرب الصحافة من خلال تتبع بسيط لهؤلاء الذين خضعوا لتجاربي في العروض الحية أو حتى بطلب من أهاليهم. كانت حالات الانتحار لتلك الحالات وصلت لسبعين بالمائة. وادعى الصحفي أن البقية- ومنهم زوجتي- على حافة الانتحار بالفعل.
كان التحقيق بداية فقط ، وبعدها استعرض حكاية بعض الأشخاص ممن أحييتهم. وذكر بعد ذلك أن أهل بقية الضحايا استجابوا وقدم كل منهم بحكايته. جميعهم- أياً كان سبب موتهم وإعادتهم- قد انتحروا. حتى هؤلاء الذي كانوا مرضى وفرصة حياتهم الجديدة ضعيفة وتمت بطلب من الأهل ، حتى هؤلاء لم ينتظروا موتهم الطبيعي، وقرروا استعجال الرحيل. المشكلة أنني اكتشفت ان أحد مساعدي السابقين قد انتحر ، ومساعدي الحالي قال أنه يفكر جدياً في إنهاء حياته فهو يشعر أنه في الجحيم بالفعل وأنه يظن أنني شيطان أو المسيح الدجال!
شكلت الصحافة قوة ضاغطة على الكونجرس . حتى السناتور الصديق الذي خدمته كان قد انقلب علي وصوت مع وقف عروضي فوراً ومحاكمتي . كان يجب أن أهرب، وهيأ الأمر لي أحد زعماء تلك الجماعات الذي حولت ابنه لهتلر. كان هناك جزء كبير من ثروتي في دول أخرى غير الولايات المتحدة. حولتها جميعاً إلى حساب واحد في مصر وهربت ومعي أبريل. لم أتخيل أنها ستهرب معي وهي تكرهني، ولكنها فعلت. وحين قدمت لمصر استقبلت كالأبطال فقد اعتبرني البعض ضحية مؤامرة عالمية لتفوقي عليهم وطالبوا بعدم تسليمي، وطلب مني البعض أن أنزع روح رئيس الولايات المتحدة لو حاولوا القبض علي. أمضيت أسابيع في حفلات ولقاءات وحوارات حتى أعلن أحد رجال الأعمال تنظيم حفل عند سفح الهرم على شرفي يتخلله عرض حي لي مع زوجتي. لم أجد ما يمنع ولم أهتم برأي أبريل وهي لم تعترض. في العرض حاولت انتزاع روحها فلم أستطع. ابتسمت وقالت لي في أذني :
– ليس اليوم. أستطيع التحكم في روحي وهي في جسدي على الأقل.
أعلنت للجماهير أن زوجتي تريدني تنفيذ العرض الأخطر وطلبت حقنة الهواء. لم أشعر إلا متأخراً جداً أي فخ كانت تنصبه لي. عندما تشنجت وصرخت وأنا أغرز السن في رقبتها ، تماماً كما فعلت المرة الأولى. حل صمت قاتل على الجموع التي صدمتها الصرخة. لم يشأ أحد أن يكشف عليها فعلى ما يبدو كانوا متأكدين. أمرت الروح أن تعود فلم تستجب. وعدتها بفرصة جديدة فحامت حولي دون أن تستسلم لي، وكأنها تسخر من محاولاتي. لأول مرة منذ ذلك اليوم البعيد مع أوتشا أشعر بالعجز. كنت أعلم أنها لن تأتي بالاستعطاف. حاولت كثيراً بكل الطرق، وبكل ما أملك من خبرة وقسوة ، حاولت أن أذكرها بالحب القديم وبكفاحنا سوياً وحلمنا بتغيير العالم وحلم راما بمدرسة فن بعث الموتى. لا أعلم كم مر من الوقت حتى انتبه الناس أن هناك جريمة قتل أمامهم. وجدتني محمولاً ثم مقيداً إلى كرسي. لم يتوان البعض عن السباب والضرب والبصق ولكنني كنت لا أزال أحاول معها وقد غطوا جسدها بملاءة. ومازلت حتى اليوم أحاول معها كل ليلة بلا جدوى.
سكت أخيراً ثم أشعل سيجارة وسألني:
– هل تصدقني؟
هززت رأسي فابتسم وقال:
– أي جزء لا تصدقه؟
– الحكاية بالكامل.
سحب نفساً من سيجارته وقال:
– اسأل زملائي المساجين فلقد قدمت العرض أمامهم بالأمس.
– حتى لو كنت صادقاً فهناك قتيل شاهدك الجميع تقتله. أعد له الحياة كما تدعي نطلق سراحك.
تركته وقمت. أشرت للحارس أن يتركه قليلاً قبل أن يعيده للزنزانة. على الشاشة أمامي كان جالساً بهدوء. أخذ يرفع يديه باستعطاف ويتحدث بهمهمات مجهولة. فجأة ظهر طيف أزرق أخذ يلف حول يديه . قرب رأسه من الطيف وكأنه يهمس له. و كما ظهر الطيف فجأة اختفى تاركاً باعث الموتى والمسيح الجديد وقد ألقى وجهه بين يديه وأخذ يبكي.