ولذلك فكل ما فعلته لحظة عرَّفني إلى “مها” عندما فاجأتهما، قبل عام، تحت ظل شجرة مورقة بحديقة الأورمان هو أن حركت لساني بعبارة واحدة :
_ فرصة سعيدة.
حتى لو لم تجعلها كذلك موجات الغبار التي أثارتها خطوات “مها” السريعة، بساقيها الطويلتين، مثل مسلتين أثريتين، وثوبها الواسع مثل جاروف يُقلب طبقات الأرض، ولا الركض الذي اضطررت إليه، على سبيل اللياقة، كي لا أتخلف عنها وهي تثرثر بحديث لا معنى له يؤكد أن التقاءها بشادي حدث مصادفة لا أكثر، رغم الكذب البادي في عينيها.
الشجرة التي التقيتهما تحتها في العام الفائت لم تورق هذا العام، أما الصفصافة العتيقة التي كان يتجمع تحتها أبناء الحي كي يلعبوا الاستغماية فمازال يقف تحتها صبي يشبه شادي في مرحه وفي ألوان قمصانه، وصبية ذات عينين واسعتين لا تريا سواه، يحدثها فتصغي إليه بكل اهتمام قلبها، وتدخل كلماته إلى أذنيها مثل سجع اليمام، وربما هو الآن يصرح لها بمكان سري للاختباء لا يخطر على بال أحد.
من المرجح أن “مها” وهي تهبد أرضية الحديقة بقدميها لم تكن تعرف شيئاً عن الجرح الذي أصاب ركبة شادي اليسرى قبل سنوات، إثر مشاجرة صبيانية مع واحد من أبناء الحي المجاور المعروفين بعنفهم وشراستهم، تمزق أثناءها بنطاله الجينز الكحلي _ ماركة “ويل” الأصلية الذي كان قد أهداه إليه خاله المقيم بولاية كاليفورنيا _ من أول لبسة، واضعاً كرامة الصناعة الأمريكية في حيص بيص، كما أصيبت ركبة شادي اليسرى، من تحت البنطال، بجرحٍ قطعي عميق، خاطه له طبيب الحي، بسرعة وارتباك، سبع غرزٍ مازال توترها _ جراء السير السريع _ يبعث من نظرته بريقاً برتقالياً وأليماً، ولا سبيل لمقارنته بذلك الوميض السماوي الرقيق الذي يصاحب أوقات ارتياحه وبهجته.
ربما لم تكن تعرف أيضاً أن الغبار صار، في السنوات الأخيرة، يثير خلايا رئتيه ويصيبه بنوبات من السعال لا تستجيب لشفاعة عصير الليمون أو العقاقير الحديثة، ولا تتوقف سوى بعد بضعة أيام، يظل شادي خلالها محروماً من الأشياء التي يحبها كالتسكع أمام فترينات المحلات في شوارع وسط البلد واحتساءالشاي على أنغام العود الشرقية داخل مقهى “الحرية”، محروماً كذلك من الاستمتاع بمشاهدة الأفلام الاجتماعية والرومانسية، التي يحبها، في السينما القريبة.
الغبار الذي أثاره هبد مها للأرض لم يتورع أيضاً، في ذلك اليوم، عن النيل من قميصه المخطط بالأخضر فوق أرضية بيضاء، لم يصمد بياضها طويلاً.
لو فعل شادي خيراً في ذلك اليوم، ربما لو كان مرتدياً قميصه الكاروهات المقسم بدرجات الهافان الداكن، لما كان ثمة مشكلة، نفس الشيء بالنسبة للآخر المشجر بدرجات البيج والبني، والمميز بأزرار صدفية صغيرة، أو الأسود السادة ماركة “مونتيير”.
هذا الأسود هو الوحيد الذي يتميز بقدرة فريدة على الاحتفاظ بعبق العطور، خاصة عطر الليمون المولع به شادي والذي يبقى متغلغلاً في ثنايا النسيج حتى بعد خطوات الغسل والكي والتعليق في الدولاب انتظاراً للموسم التالي، أما عطر القرنفل فلا يحبه كثيراً، ولهذا يكتفي منه ببختين وحيدتين عند الضرورة. المدهش هو أن البنفسج _ الوحيد الذي لا يطيقه شادي على الإطلاق _ هو الذي وقع عليه اختيار “مها” لتقدمه له في عيد ميلاده الأخير. اختارت معه زوجين من الجوارب الحريرية المشغولة بنقوشاتٍ دقيقة، كان يستحيل تبيان خطوطها المتدلية فوق حبل الغسيل الممتد بطول النافذة الجانبية لغرفة شادي، المتعامدة على النافذة الأخرى “الأمامية” التي وضع شادي فوق إفريزها أصيص ريحان مقابلاً لريحانتي الموضوعة على إفريز نافذتي، حيث ظلت، لفترة طويلة، النافذتان مفتوحتين، لتجعلا من الغرفتين غرفة واحدة من قسمين، لم ينفصلا إلا في تلك الليالِ التي بدأ يظهر فيها طرف عباءة “الست منيرة” والدة شادي، وهي تتعمد إخفاء وجهها في ثنيات الستارة، كي لا تضطر إلى إلقاء التحية على الجيران الذين لا يروقون لها، فيما تمد يدها وتغلق النافذة.
ضوء الشمس آخذٌ في الأفول، وظلال الصفصافة تمتد إلى مدى أوسع، ويأتي دور الصبية واسعة العينين في اللعبة فترى الحب والإخلاص بعينيّ حبيبها قبل أن فتغمض عينيها وعندما تفتحهما تجد جميع شركائها.. فيما عدا ذلك الذي يشبه شادي، وبكل اهتمام قلبها تبحث.. ولا تجد، تنادي ولا تسمع سوى رجع صوتها.
ولأنني بذلت جهداً كثيفاً ومريراً لكي أحرر نفسي من رذيلةٍ بشعة إسمها الفضول، فأنا لم أسأله عن السبب في إذعانه لأوامر “الست منيرة”بغلق النافذة، أولمن صار يفضي بأفكاره وأسراره بعد أن توقف عن قذف نافذتي بمشابك الغسيل كما كان يفعل لأعرف أن لديه ما يريد أن أن يقوله لي؟ ولم أفهم كيف احتمل الكف عن الذهاب لدار السينما التي كانت تسحرنا وتجعلنا نتبارى في حفظ مشاهد وحوارات أفلامها ونحن جالسان في المقعدين اللذين جعل تكرار جلوسنا عليهما قاطع التذاكر يمتنع عن منحهما لسوانا؟ ولا كيف روض نفسه على مشاهدة المسلسلات التليفزيونية التي لا يحبها مطلقاً وهو جالس بين امرأتين تفننتا في تبديد ذلك الوميض السماوي الرقيق من عينيه؟عدا أني أحياناً ما أضبط نفسي أتساءل: هل تترك له “مها” المقعد القريب من الشاشة كما كنت أفعل؟ هل سهرت مرة طوال الليل كي توقظه في موعد الامتحان؟ هل اقترضت يوماً من صديقاتها ما قيمته تجاوز مصروفها لعام كامل كي تشتري له هدية عيد ميلاده؟
لكنه سيتزوجها …
هل قرب منها كتفه لتسند عليه رأسها كما كان يفعل معي؟ هل اقتربت شفتاه من شفتيها؟ هل اشتمت رائحة رجولته؟ هل سمحت له أن يقبلها أم صفعته عندما اقترب؟ هل كان يجب أن أفعل ذلك ثم أنحني كي أحظى بتصفيق جمهور الغرف المغلقة بقبول الأمهات اللائي يروضن أبناءهن على أن يحبوا من تختارهن قلوبهم، ويتزوجوا من تختارهن أمهاتهم!؟
لا أعرف، ولا يهمني أن أعرف.
لست ثرثارة، لذا لم أخبر أحداً كيف صار حالي بعد أن هبت عاصفة مفاجئة وسطت على سجع اليمام الذي كان لي!! كما لن أخبر أحداً عن الجحود وما يفعله بالقلوب الرهيفة، كقلب تلك الصبية التي تعلمت أن تخفي وجعها ولوعتها وتتظاهر باللامبالاة.
أنا لا أكره أحداً بالوجود بقدر ما أكره أولئك الذين يسطون على ما ليس لهم، أولئك الذين يتسللون وينتزعون من عينيكِ ألوان القمصان وإشعاعات العيون التي تحبينها، أولئك الذين يجبرونك على هجر صدقك وثقتك وبساطتك والإبحار إلى الشاطئ الآخر.
لن أقول مبروك، ولن أهدهد الصبية التي تقف وحيدة تحت الصفصافة، بل سأعاونها في اختيار الزي المناسب للحفل التنكرية.. حفل زفاف شادي.. إبن الجيران.