الحكمة
أحمد سمير سعد
أخبره معلمه عندما كان صغيرا أن الحكمة ذبابة زرقاء، يمضون العمر في البحث عنها لكنها تحط على كتف من تشاء...
لذا عندما استيقظ من قيلولته وهو ابن العشرين بلباس الحرب ووجد تلك الذبابة الزرقاء على صدره، اختلج فؤاده لكنه كتم استثارته وبيد ثابتة انقض عليها وأمسك بها في قبضته، بحث على عجل عن وعاء، ثم حبسها فيه.
أبلى في المعركة بلاء حسنا، يعلم أن الحكمة صارت بين يديه وفي أغراضه، راوغ بحكمة، صد سيوفهم بحكمة، سدد طعناته بحكمة.
أخرج الوعاء من بين طيات الثياب، لا أزيز هناك، فتحه، لا شيء، قلبه لتسقط الذبابة الزرقاء ميتة.
ما كان للحكمة أن تموت، بحكمة ابتلع الذبابة الزرقاء الميتة، ستصير في لحمه ودمه وكذلك الحكمة..
في صباح اليوم التالي انفرد بصديقه الذي كان قد أخبره بعثوره على الذبابة الزرقاء والحكمة، ذهب به إلى ركن قصي من أرض المعركة وقتله بحكمة، الحسد الذي رآه في عينيه سبب موت الذبابة وربما ضياع الحكمة، غير أنه ولأن الحكمة ممددة بين يديه تصرف بحكمة وابتلعها قبل أن تتحلل.
بالإضافة إلى أنه وبعد أن ابتلع الحكمة وجرت في دمه رأى في صديقه العارف بالسر تهديدا بإفشاء ما لا يجوز ومن الحكمة اجتثاثه ولسانه.
كانت الحكمة مصاحبة له في كل حركة أو فكرة أو تصريف وهو يضرب بالسيف، يقسم الغنائم ويحتفل بالنصر ويهدي سيف الملك العدو للأمير وهو يحيك المؤامرة تلو المؤامرة وهو يطيح بالوزير وهو يمارس الجنس وهو يعتلي صهوة جواده وهو ينكل بالخائنين وهو ينحر الأمير ويعتلي كرسيه وهو يضرب أتباع الأمير المنحور وهو يوزع العطايا والرتب ويزرع الرعب.
لذا وبينما كان يجلس بين حاشيته جحظت عيناه واصفر وجهه على غير عادة.
كان وبحكمة بالغة ورغبة في التندر والسخرية والتنكيل والبقاء، قد رأى ما لم يره أحد، جعل في حاشيته لص تائب وشاعر لعان وقصير مكير وصاحب ناب أزرق وشيخ بندر التجار ولوطي وفقيه نفعي وعالم حدسي وفلكي خبير يقرأ الطالع ومواقع النجوم وصبي أجرد ومدمن بوظة ومهرج عبوس شق ابتسامته بسكين وشاعر ألثغ وحكاء مهووس، لا يبدأ الجملة إلا من منتصف سابقتها وجلاد ألبسه ثياب الملائكة، يعلق أجنحتهم...
بينما كان يجلس بينهم جحظت عيناه واصفر وجهه، دقق النظر ثم أعاد التدقيق، في غير تريث وبلا حكمة نهض منتفضا.
كان قد رأى ذبابة زرقاء تستقر على جبين الصبي الأجرد، وماذا عن تلك التي ابتلعها وابتلع معها كل الحكمة..
قفز نحوه في غير حكمة، ضرب رأسه ثم صدغه لكن كفه لم ينل منها..
كان بينهم يعد العدة لهجمة تالية على العدو ويحكم في شئون الخلق حين ظهرت الذبابة وقفز..
الذبابة طارت مبتعدة لم يصبها كفه، جرى وراءها محدقا في السقف، تبعها حتى غابت، طارت خارجا وطار وراءها قافزا من الشرفة...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أحمد سمير سعد روائي وقاص مصري،
صدر له "سفر الأراجوز" ـ رواية عن دار فكرة ـ 2008
و"الضئيل صاحب غيّة الحمام" عن دار أكتب ـ 2014