وتمضي رومنز فتقول: تحوَّلت تجربة قراءة مجموعته الأخيرة، “أسد مستر فتنجنشتاين” إلى مغامرة مبهجة. كنت أعرف أين أنا، لغويا، ولكنني كنت أشعر بسعادة الوجود “بالخارج” في قلب حساسية جديدة، وفي حالة محكمة من الترقب والدهشة”.
معنا هنا قصيدة من هذه المجموعة الأخيرة.
***
نقاشون
كأن كل واحد منهم بُعث لكي يلوِّن العالم
ويلوِّن بين كل مطر ومطر
فتثبت الألوان هكذا نفسها
على الجدران والأنابيب والنوافذ.
وحينما تمطر
تجد النقاشين بأرديتهم المبقعة
وأحذيتهم المبرقشة بالألوان
جالسين في الشاحنات
ومن فوقهم سلالم الشغل
كأنها أجنحة مطوية.
يشربون قهوة بيضاء بملعقتي سكر
ويهيئون أنفسهم على كعك المخبز البلدي
المحلى بالسكر والقرفة.
وفي الليل يحلمون بحواف الدقة البالغة.
يحبون فعل الخريف في الشجر.
أعمارهم قصيرة،
فمن كل لون يدهنونه
ينبعث بخار سام
كأنه تنهيدة
هي التي تنتشر وتجفف وتجعل حياتنا تبدو
حقيقية.
ويقِلّ كلام النقاشين
كلما أحكمت الأبخرة سيطرتها.
وتنظر إليهم زوجاتهم وأبناؤهم
وكأنهم عفاريت من عالم آخر.
وإن سألتهم ماذا نفعل في علب الطلاء المتبقية يقولون
ليس الأمر سهلا
فالألوان قادرة أن تبقِّع البحر
وتقتل السمك.
ولكن هناك أماكن عميقة، وقذرة،
ينبغي أن يذهب الطلاء إليها
حين نزهد لونه
هكذا سيقولون
فتشعر أنهم أعداء اللون الذي يحبونه.
وأنها قلوب عفاريت
تلك التي تنخطف بداخلهم
مع كل ضربة فرشاة
في حائط أو سياج أو مقعد في طريق.
***
تقول كارول رومنز: لا شك أن هناك غواية أكيدة في النظر إلى هؤلاء النقاشين بوصفهم فنانين حقيقيين، بل شعراء على وجه التحديد. ولكن تلك قد تكون القراءة الأكثر سهولة. فلعلهم رمز لكل متفانٍ، سواء كان عاملا يدويا أو عالما أو جراحا أو نبيا، أو أي شخص متشبث في عمله، وحريص على تغيير العالم، أو إدراكنا له في ثنايا تشبثه بعمله.
تشي القصيدة ـ كما تقول رومنز ـ بأن قائل القصيدة يرى هؤلاء النقاشين للمرة الأولى، أو أنه ينقل إلينا خبر ظهور نوع جديد مثير للاهتمام. وتقدم لنا القصيدة هذا النوع أو السلالة بوصفه نوعا عاديا من الناس نراهم جميعا. لولا أن القصيدة ترى سلالمهم أجنحةً مطوية من فوقهم. ولولا أنها تشبههم في بعض مواضعها بكائنات أسطورية من عالم آخر، تتحرك فراشيهم في عالمنا كما تتحرك الشخصيات السحرية في قصص الأطفال.
***
وبعيدا عن قراءة كارول رومنز التي طال اتكاؤنا عليها. في القصيدة التفاتة أخرى، يقول الشاعر إن “الألوان قادرة أن تبقِّع البحر، وتقتل السمك”. ويقول إن بخارا ساما ينبعث من كل لون، وإنه يحكم سيطرته على العالم. ويقول إن ثمة أماكن عميقة وقذرة هي التي ينبغي أن تنتهي إليها بقايا الطلاء. وإشارات كتلك هي التي تحقق للقصيدة تحدِّيها. فمن الصعب أن نرى النقاشين ـ مع هذه الإشارات ـ رسلا مبعوثين لتحقيق الجمال، أو الجمال وحسب. ثمة نيّة مبيّتة على تأكيد حقيقية العالم وواقعيته. ثمة تضحية يبذلها هؤلاء النقاشون، إذ يرضون بالنظر إليهم كعفاريت أو كائنات من عالم آخر، في سبيل أن يبيّنوا لنا أن البحر نفسه يعجز عن احتمال الألوان التي نطلي بها العالم، وفي سبيل تعريتهم لعالمنا هذا، وفي سبيل كشفهم لنا عن أماكن أعمق وأقذر ينبغي أن تكون مقابر للبقايا.
لعل تلك مشكلة كل من قالوا الحقيقة، أو زعموا أن قولهم هو الحقيقة. لعل ذلك هو مصدر الإزعاج في كل من جاء إلى العالم برسالة جديدة. ولعل ذلك ما جعل قوم كل نبي ينبذونه ويعادونه. ضعوا أنفسكم مرة مكان الكفار. تخيلوا أنفسكم جالسين في بيتكم في المساء، تشاهدون روتانا سينما، عاجزين ـ مصداقا للشعار الرائج ـ عن إغماض أعينكم، ثم يطرق الباب شخص، ويستأذن في الدخول: إن في يده مكنسة، وإن على كتفه قطعة من قماش، وإنه يقول لكم إنه متبرع بأن يجعل بيتكم نظيفا.
هذا لا يعني فقط أنه رجل كريم بوقته وجهده. هذا يعني أيضا أن بيتكم قذر.