“الكونج” لحمّور زيادة .. قرية تحترف الوهم !

"الكونج" لحمّور زيادة .. قرية تحترف الوهم !
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

لعل اللعبة الذكية التى قدمها الروائى السودانى حمّور زيادة فى روايته اللافتة "الكونج" (صدرت مؤخرا فى طبعة ثانية عن دار العين، وكانت طبعتها الأولى عن دار ميريت فى العام 2010) هى أنه استخدم السرد لكى يكشف شخصيات قرية فقيرة منعزلة بنفس طريقة أهلها الملتبسة. تاهت الحقيقة فى الرواية مثلما تاهت فى القرية، وتلونت الأحكام بتلوّن أصوات كل شخصية، واستُخدمت وقائع جريمة قتل غامضة لتفجير نميمة طويلة فى شكل رواية محكمة البناء. الوهم الذى تعيشه قرية الكونج، هو فكرة اللعبة كلها، أما المشكلة التى يترجمها السرد فهى أن كل شخص ينظر الى الآخر، ويتجاهل النظر الى ذاته، وأن مرض القرية فى علاقة أهلها بعضهم ببعض، وليس فى جريمة بشعة ارتكبت فى أحد بيوتها.

“الكونج” بهذا المعنى لاتبحث فى وقائع جريمة، رغم الضبط الجيد للحبكة التشويقية، ولكنها تبحث فى عالم قرية منعزلة،: شخصياتها، وحياتها المغلقة، وروابطها التى تبدو قوية لأول وهلة، ولكنها تصبح واهية تماما كخيوط العنكبوت عند أول اختبار. لم يكن هذا الإختبار فى الرواية سوى استيقاظ قرية “الكونج”، التى تكاد تكون نموذجا لقرى نيلية “متفانية التماثل” على حد تعبير حمّور زيادة، على صوت صراخ من منزل السائق السرّ بلّة، المنعزل مكانه فوق ربوة نائية . عندما يهرع إليه جيرانه، يكتشفون أن شامة، أم زوجته رضوة جبريل، ممدة بلا حراك، مقتولة، ومفصولة الرأس عن الجسد. جريمة قتل مرّوعة فى قرية تختلط فيها الحقائق بالأوهام، والموتى بالأحياء، ويحترف أهلها النميمة والزراعة!

الجريمة رغم محوريتها فى السرد، إلا أنها تقوم بمهمة المغزل الخشبى الذى تدور حوله الرواية، مما يمّكن السارد أن يكشف من خلال  الجريمة خريطة الشخصيات والعلاقات والنفوس. هناك سارد عليم، ولكنه لايعلم كل شىء، بل إنه يتعمد أن يكثف واقعة القتل فى عدة سطور افتتاحية قليلة، لا نعرف من خلالها اسم القتيلة، ثم يتيح هذا السارد لعدة أصوات من القرية أن تحكى من وجهة نظرها، ولكنه لايتركها تتكلم قبل أن يقدمها. هذا المزج بين السرد الذاتى والموضوعى منح النص حيوية بالغة، وحقق للكاتب هدفا مزدوجا: الإحتفاظ بالتشويق فى متابعة البحث عن قاتل العجوز شامة ( يوهمنا السارد فى البداية أن القتيلة ربما تكون الزوجة المتمردة رضوة جبريل وأن القاتل هو زوجها الضعيف السرّ بلّة)  ، والغوص فيما وراء الشخصيات من أفكار، أى البحث فى النفوس، والبحث عن سكان القرية أنفسهم. هما إذن حركتان : إحداهما خارجية تتابع رحلة اكتشاف قاتل، والثانية داخلية لاكتشاف عالم “الكونج” الداخلى، والحركتان ممتزجتان فى ضفيرة واحدة متماسكة. حموّر زيادة فى الواقع هو قصاص الأثر الفعلى  فى الرواية، سواء فى متابعته للقاتل، أو فى تعرية الشخصيات، ولذلك وصفت بناء الرواية بأنه محكم وذكى.

القرية بأكملها تفرغت للبحث عن قاتل شامة العجوز، حضر العسكرى ابن القرية عوض الكريم ليعاين الجريمة، وسارت القرية وراء قصاص الأثر بكرى العربى متتبعة آثار أقدام القاتل. رغم الوصول الى منزل المتهم العربجى الفقير على صالح، واعترافه بالجريمة، بل وتسليمه السكين التى قتل بها، إلا أن الغموض يظل سائدا حتى النهاية، سواء بتراجع على صالح عن الإعتراف، أو بادعائه أنه حلم بقتل العجوز، ولكنه لم يقتلها بالفعل، ثم عودته الى الإعتراف، أو بعدم الوصول الى أسباب قتل العجوز. كل ما نعرفه فقط هو أن على صالح كان عشيقا لرضوة جبريل، القرية كلها كانت تعرف، أما لماذا قتل أمها ولم يقتل زوجها فهو أمر غامض، تفسره كل شخصية وفقا لما يتراءى لها.

عندما ننتقل من الجريمة الى عالم القرية سنكتشف كما يقول الطاهر نُقد إحدى اصوات الرواية أن “على صالح ليس مجرما إلا بذات قدر إجرام  كل هذه القرية الملعونة”. ربما يكون هذا التعبير قاسيا ومرتبطا بظروف رجل كان يعمل فى البريد، وفقد ابنه وعروس ابنه محترقين فى حادث سيارة، ثم فقد إبراهيم نُقد عينيه عندما عاين امرأة الجبل، أو الجنيّة التى تسكن الجبل، رأى الرجل أيضا مأساة أخيه الراحل الذى بترت ساقه بسبب داء السكرى، ثم دفن الأخ بعد ذلك الى جوار الساق المبتورة. ولكن أصوات الشخصيات المختلفة، وما يقوله السارد الموضوعى العارف ببعض التفاصيل، كل ذلك يكشف عن قرية مضطربة الرؤية، وعن عيون تراقب بعضها، وتحكى عن الآخر طوال الوقت، ولديها استعداد فورى لتعليق كل الخطايا على شخص بعينه. تقريبا لا يفعل الناس سوى الثرثرة، لا تعنيهم الحقيقة، بقدر ما يعنيهم ألا تلوك القرى الأخرى فضائح الكونج، يبدو على صالح وكأنه قام بتلخيص حياة قرية ممزقة الأوصال، وكأن جريمته قد كشفت جرائم أخرى لا يعاقب عليها مثل الكراهية سوء الظن وتتبع الأخبار والنظرة الدونية لبعض الفئات. المرأة مثلا تضرب وتصفع فى أى وقت، هكذا كان يفعل خضر الجزار المصرى الذى استوطن الكونج، والذى يضرب زوجاته الثلاث كل ليلة، هناك أيضا نظرة دونية للبدو الذين يعيشون فى الصحراء، ويمثلهم بكرى العربى ، قصاص الأثر، الذى يبادل أهل القرية نفس النظرة المحتقرة، بل إن بكرى لا يشعر بالسعادة إلا وهو يقود القرية كلها مقتفيا أثر الجناة بين وقت وآخر، هنا يشعر بالتفوق على الجميع، ويصف القرويين دائما بالحماقة والغباء.

جريمة على صالح الغامضة فضحت قرية متعتها الوحيدة أن تجترّ سيرة معلّمة اسمها ابتسام كانت تواعد شباب القرية لتشبع شهوتها، رحلت المعلمة منذ زمن طويل، وما زالت القرية تتحدث عنها، وكأنها تعلّق كل أخطائها على ابتسام الغائبة. جريمة القتل إذن لم تكن فعلا غريبا فى قرية نموذجية كما توهمنا فى البداية، ولكنها نهاية طبيعية فى مجتمع إمام المسجد فيه نسوانجى معروف يدعى أستاذ مدنى، وتتزاحم فيه الشخصيات المتنافرة من نور الدايم المدع الفخور، والعسكرى عوض الكريم الذى يوحى للجميع بأهمية زائفة، الى د إبراهيم الأستاذ الجامعى الذى اضطربت أحواله، فأصبح أضحوكة القرية، وانتهاء برضوة الزوجة الخائنة، والسر بلّة الزوج الصامت والضعيف، و إبراهيم نُقد الذى يكره الجميع، وبالذات نور الدايم. حتى ياسمين، الفتاة التى أحبها مالك ،صاحب الدكان الشاب ، حبا رومانسيا، سنكتشف أنها تواعد طلاب المدارس، بصورة بعيدة عن البراءة.

كل شخصية تبدو عالما مستقلا عن غيرها فى بلد يصفه إبراهيم نُقد بأنه “يخدع نفسه” ، بلد لا تتركه النخيل “إلا عجزا عن الهرب” ليس إلا. وهناك دوما مزيج عجيب بين الوهم والحقيقة، بل إن حليمة ، الزوجة الثالثة لخضر، تؤمن بأن الموتى يعودون. هى نفسها لم تتزوج من خضر إلا بناء على نصيحة والدها الذى جاءها بعد موته بشهر، وهى لا تختلف  فى ذلك عن إبراهيم نُقد الذى يؤمن بأن لقاءه مع امرأة الجبل هو سبب فقدانه للبصر، أما الأحجبة والتمائم فيتكفل بها شيوخ الوراريق الذين يُشدُ إليهم الرحال، عندما تتأزم الأمور.

مقتل شامة وفصل رأسها ليس أخطر مشاكل “الكونج”، وكل “كونج” أخرى، المشكلة الأخطر فى البشر، فى حياتهم وكأنهم بدون رؤوس. المشكلة فى الأقنعة التى يرتديها الجميع تقريبا، لذلك ستبدو الجريمة بعد كشف القاتل وإعدامه مثل جملة اعتراضية يتم القفز فوقها بعد مرور الزمن. ستعود القرية الى الثرثرة  وكأن شيئا لم يكن “عن الزراعة، ومحطة الكهرباء الريفية، وسعر التمباك، ومنصرف المشروع الزراعى، وعشق البنات، ومنسوب بحر النيل، وأغانى الطنبور، والحشرة القشرية، ولجنة الزكاة، وشجارات البيوت، وسيارات السوق الأسبوعية، وفضائح أستاذ مدنى، ومضاجعة المراهقين للجحوش فى الزرائب، والزحف الصحراوى” .

تبدأ الرواية بصرخة رضوة بعد مقتل أمها، وتنتهى بقرية تسترد طمأنينتها، وتعود لتنام من جديد. رغم التعرية المقصودة، ورغم نميمة حدّ الزين ، زوجة نور الدايم ، التى فضحت كل مخازى القرية، ورغم بشاعة قتل شامة، إلا أن حموّر زيادة يخفف من حدة المأساة بلمسات فكاهية رائقة، كما يبدو متفهما لسلوك شخصيات فى مجتمع مغلق ومعزول وبسيط، علاقته بالعالم تتلخص فى تليفزيون فى نادى القرية، والعاصمة مجرد عالم كبير، أما مباهج العيش فلا تزيد عن ثلاجة  صغيرة يشربون منها فى بيت نور الدايم، ودكانين صغيرين،  وطابونة تتعطل أكثر مما تعمل، ونخلات عاليات أمام النيل الجارى، وجلسات نهائية للثرثرة والحكايات.   هذه هى الكونج التى صنعت جريمة على صالح .

مقالات من نفس القسم