كثير من شخصيات الرواية وتفاصيلها وقائع تاريخية، ولكن استحضار إليف شافاك للتاريخ بشكل عام كان واعيا الى حد كبير، وجاء الخيال ليعيد سبك تلك الوقائع، وليعيد تشكيل الزمن من جديد فى إطار فكرة إنسانية شاملة، هنا طموح يستحق التنويه، يجب أن ننوه أيضا الى تلك اللمسة الإنسانية العابرة للأجناس والأديان، فرغم أن الأحداث تدور فى إسطنبول، و فى بعض المدن العثمانية، ورغم أن فصولا قليلة فقط تدور فى الهند أو فى البندقية، إلا أن هناك دوما هذا الكرنفال من الأجناس والأديان والألوان، سنان المهندس الشهير نفسه كان مسيحيا، ثم أصبح كبير المعماريين الذى شيد عددا ضخما من المساجد، وجهان مروض الفيل الهندى سيصبح أحد تلاميذ سنان الأربعة الكبار، وفى حديقة الحيوان الملحقة بالقصر أشكال وألوان من المروضين القادمين من مصر وسيبريا وأفريقيا، وهناك رجل يهودى له دور هام فى تثقيف جهان، ورجل غجرى له دور أكبر فى إنقاذ حياة البطل الهندى أكثر من مرة، والعمال الذين يبنون المساجد من كل الأديان، أفضل ما فى الرواية هذا الموزاييك الإنسانى الذى تظلله قبة واحدة، وهذا هو جوهر الفكرة، التى دعمها كبير المعماريين الفذ سنان الذى لم يبن فقط المنشآت العظيمة، ولكنه حاول أن يبنى بالتوازى شخصيات مساعديه الأربعة، وهو الذى يحوّل جهان من لص يعمل لحساب شخص شرس أقرب الى القراصنة الى مهندس قدير يشارك فى نهاية حياته فى بناء تاج محل فى الهند، بعد أن طاف أوربا يبنى ويشيد ويبدع.
هذا الجزء بين المعلم وتلاميذه هو عصب الرواية، ثم دخلت على الخط مؤامرات القصور، وتقلبات السلاطين، وحكاية حب باهتة للغاية ، ومن طرف واحد بين جهان سائس ومروض الفيل شوتا ، ومهرماه ابنة السلطان سليم القانونى، أخذنا نتأرجح بين دروس سنان العميقة، ومغامرات عجيبة أقرب الى الألاعيب والمقالب، لم يفعل جهان شيئا خارقا لإنقاذ حبه البائس لابنة السلطان، ثم يكتشف فى النهاية أنها كانت تتسلى به، ومع ذلك يتحدث جهان فى النهاية عن الحب لا عن الخداع، بل إنه يقول إن مركز الكون ليس فى الشرق أو فى الغرب، ولكنه يوجد حيثما استسلمت للحب، الحقيقة أن العلاقة بين جهان ومهرماه ( إذا كانت تستحق أصلا أن توصف بأنها علاقة) كانت شاحبة، وأضعفت الرواية تماما بدلا من أن تقويها، أرادت إليف شافاك أن تمنح بطلها الهندى وجوها كثيرة أثقلت السرد، فجعلته مروضا للفيلة ومهندسا معماريا وعاشقا ومغامرا ولصا وتلميذا فى وقت واحد، وكان ذلك فى رأيى فوق طاقة الشخصية البائسة، وفوق طاقة ما يسمح به عصر ملىء بالقيود والمحظورات، لم نجد فى الرواية حكاية حب قوية، وإنما وجدنا كلاما عن الحب، بينما بدت حكمة كبير المعماريين فى المقابل جزءا من التجربة العملية، وليست منفصلة عنها، هذا الرجل قرر أن يستمر فى البناء رغم كل شىء، والأهم من ذلك أن البناء لديه ترجمة لفلسفة عميقة، تربط بين هندسة النفس وهندسة الأحجار، يقول لتلاميذه :” شيّد الله قصر أجسادنا وأعطانا مفاتيحها”، ويضيف :” خًلق الإنسان على صورة الله، فى وسطه ثمة نظام وتوازن، انظر الى الدوائر والمربعات، انظر الى مدى تناسقها، ثمة أربعة أخلاط: الدم والصفراء والسوداء والبلغم، ونحن نشتغل بأربعة عناصر هى الخشب والمرمر والزجاج والمعدن”، يقول سنان المهندس الحكيم أيضا :” الوجه هو الواجهة والعينان هما النافذتان والفم هو الباب الذى ينفتح على الكون، أما الساقان والقدمان فهى السلالم”، وينصح سنان تلميذه قائلا:” لهذا السبب ينبغى لك أن تحترم المرء إذا رأيت إنسانا سواء أكان عبدا أم وزيرا، مسلما أم كافرا، وتذكر أن الشحاذ أيضا يملك قصرا”.
سنان الذى كان يترك عيبا متعمدا فى كل مبنى لأن الكمال لله وحده، كان يرى أن الحكمة لا تنبع من السماء، ولكن من الأرض، من العمل الشاق. هو الذى غيّر حياة تلاميذه، أفلح مع بعضهم، وجعل من فتاة هاربة مساعدة له متنكرة فى زى رجل، ولكن أحد التلاميذ لم يكن مخلصا له، أراد سنان منشآت متألفة مع الطبيعة، ولكنه لم يهتم بمصدر تمويل مشروعاته، كما أنه رضخ لمشيئة كل سلطان ونزواته، يؤمر ببناء مرصد فيفعل وينفذه مع تلاميذه، ثم يؤمر بهدم المرصد، فينفذ فورا، دون أن ينسى أن يطلب من تلميذه جهان أن يسرق الكتب الموجودة داخل المكان للإحتفاظ بها!
تظل مع ذلك شخصية سنان هى أكثر شخصيات الرواية تماسكا، بينما تبدو شخصية جهان متذبدبة ومتعددة الوجوه، علاقة ثرية تربطه بالفيل شوتا الذى اعتبره شقيقه فى الرضاعة، ولكن تحولات جهان من مروض الى مهندس تثير العجب، وهو يستمر جامعا بين ترويض الفيل وبناء المساجد، ويدفن ما تبقى من شوتا بما يليق به، فى أجزاء من الرواية يبدو جهان أقرب الى اللصوص، وتراوده أحيانا أحلام العودة الى قريته بالهند لينتقم من عمه وزوج أمه الذى قتلها، لانستطيع أن نستوعب حديث جهان فى النهاية عن الحب، رغم أنه اكتشف أن ابنة السلطان كانت تلهو به، يؤكد كل ذلك ما قلناه من قبل بأن ضخامة الرواية، واتساع رقعتها الزمنية، لم يعملا فى صالح البناء، بل يراودنا شعور قوى بأن الرواية انتهت فعليا مع وفاة المعلم العظيم سنان، وما تلا ذلك هو إغلاق لخطوط مفتوحة، تليق بمسلسل تليفزيونى تركى سرمدى، ولا تناسب عملا يريد أن يتأمل فى هندسة الإنسان وفى هندسة المبانى.
“الفتى المتيّم والمعلّم” عمل طموح محوره الإنسان الذى يستظل بقبة واحدة، ومع ذلك لا يتوقف عن الصراع الأجوف، مشكلة الرواية أن القبة التى بنتها المؤلفة عظيمة وهائلة، وتطرح مشكلات وجودية مؤرقة، أما الأعمدة التى تحمل القبة فهى ضعيفة، ذلك أن مادتها من مغامرات لا يخلو بعضها من سذاجة، أحسب أن سنان لو كان على قيد الحياة، لاكتشف بسهولة الخلل فى معمار الرواية، مثلما كان يكتشف الخلل فى معمار البيوت والمساجد، وفى نفوس تلاميذه المتنافرين.