البعد الوجودي في ديوان “مشنقة في فيلم كرتون”

البعد الوجودي في ديوان "مشنقة في فيلم كرتون"
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

  إبراهيم النحـّاس  

تتميز تجربة الشاعرة: عبير عبد العزيز في في ديوان "مشنقة في فيلم كرتون"، بملمح خاص يقوم على المغايرة لما هو سائد ومألوف, فالديوان بدون إهداء وبدون فهرس كما هو معهود في معظم الدواوين الشعرية, كذلك يتكون الديوان من خمس قصائد لا تحمل أيّ منها عنوان الديوان, كما وضعت الشاعرة تصديراً أو مقدمة نثرية قبل عنوان كل قصيدة وليس  مفتتحاً بعد العنوان كما هو متبع. كل هذا يصدم القارئ للوهلة الأولى ويجعله يشعر أنه أمام ديوان شعريّ مختلف ويقوم على مفهوم المغايرة والإزاحة أو الانحراف الدلالي .

وبالنظر إلى العنوان باعتباره أحد عتبات النص نجد (مشنقة في فيلم كرتون)  فكلمة (مشنقة) وما توحي به من دلالات: أهي الموت؟ أم الانتحار؟ أم الهروب من واقع مؤلم إلى الموت ؟ وبتكملة العنوان (في فيلم كرتون) نجد استخدام الرمز sympol لأن فيلم الكرتون هنا ما هو إلاّ رمز أو معادل موضوعي للحياة في صورتها الهزلية. ليختصر العنوان وبدقة موقف الذات الشاعرة من العالم داخل الديوان, وهذا إن دلّ على شئ فإنما يدل على وعي الشاعرة وقصديتها في تحديد العنوان المناسب للديوان من ناحية, وإبراز رؤيتها الموجودة داخل الديوان حتى من قبل قراءته من ناحية أخرى.

كما يشير العنوان ضمنيًا إلى بعض آليات التشكيل الفني داخل الديوان كالاعتماد على الرمزية وتقسيم القصيدة إلى (مشاهد / مقاطع) قصيرة , مع استغلال التشكيل البصري من خلال كلمة (فيلم) والاستفادة من الفنون الأخرى مثل إدراج صور من مشاهد أحد أفلام الرسوم المتحركة في كل صفحات الديوان تقريباً وهي من  فيلم manipulation للمخرج دانيال جريفز.

كل هذه المساحات الدلالية التي يوحي بها عنوان الديوان يدل على أننا أمام عمل شعري يقوم على التجريب ويتبنى خصائص جمالية ما بعد حداثية وصفتها مارجريت روز بأنها ((تتطلع إلى الأشكال المفتوحة المرحة والطموحة والانفصالية والمتروكة أو غير المحددة لتكون خطاباً مؤلفاً من شظايا أو تكوين أيديولوجية التصدع التي تعمد إلى الحل والنقض وتستنطق الصمت)) (21)

يتعامل الديوان مع الموت باعتباره تجربة وجودية حتمية لكنها ليست الصورة الرومانسية القائمة على السكون والتشاؤم بل صورة تقوم على الحركة , فمن الموت تولد الحياة التي تفضي إلى الموت الذي يفضي إلى الحياة في حالة ديالكتيكية مستمرة:

يسيرون مع الزهور جنباً إلى جنب

بين موائد مضاءة بالشموع

وموسيقى ناعمة

في أروقة بيضاء

بين أسرّة في انتظار ساكنيها

تسير رافعة الرأس..

بين قبر وآخر

فى نظام حذر

يذهبون وتبقى الزهور

يذهبون وتستمر الزهور في المجئ

يذهبون وتمر الزهور

بآلاف الجنازات السرية. ( 22 )

هذا التعامل الوجودي مع الموت يجعلنا نتفق مع الرأي القائل

(لَمّا كان الإبداع فعلاً مضاداً للموت والفناء – كما يرى سارتر- كانت الكتابة مشروعاً

مستقبلياً , والإضافة والتجديد نوع من تحقيق الذات وتعبير عن وجهة نظر فلسفية وذوقية

تتطور من فترة إلى أخرى) ( 23)

هذا ما فعلته الشاعرة  فالأشياء حولها كساعة الحائط والسجاد النظيف والزجاج والستائر وأطباق المطبخ يتم توظيفها فنياً للتعبير عن الموت باعتباره بُعداً وجودياً:

           لتدق الساعة كما يجب

          حتى يستقيم الحائط

          مواجهاً سقوط ألوانه البلاستيكية

          فارداً ذراعيه

          لأية بادرة جديدة

          أو لاحتضان بلدوزر أخير.

          دليل وحيد

          على أن الأيام تمر

          نظافة السجاد

          لمعان زجاج الموائد

          رفرفة حواف الستائر

          غير مصدرة

           صوتا ترابيا واحدا

           أكوام الأطباق المنتظمة

           في الخزانة

           تعلن جميعها

          أن اليوم ما عاد قائما (24)

مع ذلك الإيمان والإحساس بالموت يبرز جانب آخر في الحياة وهو الاختلاف والتباين بين البشر وتعقد الحياة وتنوعها:

           النحاتون

           كل يبدأ نحته

           من موضع غير الآخر

           كل ينتهي نحته

           في موضع غير الآخر

          حتى لو كان جوادا صغيرا

           كل جواد

           يحكي عن صاحبه

           شيئا غير الأخر ( 25)

كما تعلن الشاعرة عن نظرتها المختلفة للأمور في أكثر من موضع , نظرة تقوم على عمق فلسفيورؤية مغايرة:

          العجائن تثير فينا مرونة

          دونما أن نشعر

          فقط ملمسها

          يدربنا على التعانق

          رائحتها

          كائنات لاتساع جديد

          كثيرون منا

          لا يقتربون

          إلاّ للخبز الساخن

          لم يتمتعوا بعجين

          يختمر تحت الفراش ( 26)

   حتى أمنيتها في الحياة ترتبط بتلك النظرة المغايرة فتصبح رغبتها هي النوم في حديقة عامة كما يأتي البحث عن الجمال والهروب من القبح معادلاً موضوعياً للتواجد والتحقق الذي يمثل الحياة باعتبارها المضاد الحقيقي للموت:

         نهرب جميعا من القبيح

          حواسنا

           تسير باتجاه آخر

           كأنه عجلات قطار

           نخشى أن نكون تحته .

           القبيح من يرهبنا

            لأننا

             عندما نراه بأحلامنا

             غير مكترثين

             لا نلحظ

             أنه يستقبلنا بحفاوة بالغة

             بكل ود واهتمام

             بتفاصيله الصغيرة

             دون كذب

             كم كنا بلهاء

             حتى إننا

             لم نعطه فرصة واحدة

             ليقدم لنا نفسه ( 27)

هذا البحث عن الجمال والهروب من كل ما هو قبيح مرجعه كما يرى البعض هو أن  ” الشاعر لا يُعبّر عن الحياة لكنه يخلق حياة أخرى معادلة للحياة وأكثر منها صدقاً وجمالاً” (28)

   فجاء الديوان خالقاً لحياة افضل حتى التعامل مع متاعب الحياة اليومية والنقد السياسي في بعض القصائد جاءت كلها في نسق يخدم البعد الوجودي داخل الديوان ويبرز الرؤية الفلسفية للحياةوالموت :

          “فالآية القرآنية على الحائط تبتسم دائما لها, والمفتاح العاري دائما ينعم بساعات طويلة معها , وجارتها تشبه رائحة الليمون وملمس الزبادي, والناس متعجلون كسر البيضحتى الصمغ جاءت نظرتها إليه على النحو التالي:

              الصمغ بلاد

              بسحرها النافذ

              تعيد تكوينا ما

              تربط بين أشياء متنافرة

              لكنها تتشابه عند الاقتراب

              ذكرني بحمرة خدٍ أثناءالضحك

              حمرة تكفي

               لآلاف القـُبل

               التي يبقى ظلها في الذاكرة (29)

لكن مع هذا الجمال وذلك التفاؤل تبقى العلاقة جدلية بين الموت والحياة فهما في حركة مستمرة وكلاهما في حضور وتواجد مستمر بلا توقف لأحدهما , حركة أشبه بحركة القطار الذي لا يتوقف:

             الجميع في القطار

             القابع لبعض الوقت

             نوافذه ممرات ودهاليز

             تربكهم أحيانا

             دخانه الأبيض مسرع

             أمسكت ُ به حبلا

             ملقى في الفضاء

              نسير معا

              نعلو معا

              نهبط معا

              على قضيب واحد لا يتغير

              لكن عجلات البخار

              تسير للخلف ( 30)

وإذا كانت الحركة تشمل الجميع فإن العلاقة مع الموت تبقى جبرية تخرج عن إرادة الإنسان

فالإنسان سيظل في كل وقت يشعر بالعجز التام أمام لحظة الموت تلك اللحظة التي ستفجؤه على أية حال ودون أيّ اعتبار لهذا الشعور بالعجز أمام تلك المواجهة غير المتكافئة بين لحظة الموت والإنسان , تجعل الآخر في محاولة يائسة للفرار” ( 31)

لكن الشاعرة كما ذكرنا لا تتعامل مع الموت بهذه الصورة القاتمة بل في إطار وجودي لكنه يؤدي أحيانا إلى الإحساس بالفقد , فقد الكثير ممن أحبتهم الذات ((فالفقد قادر على تفجير منابع البوح عن المعاناة الإنسانية  وهو محرك أساسي لهذه الصورة التي تأسرنا , ولعل فكرة الأمل نفسها تفجر إحساساً بخوفٍ من فقدٍ ما , والفقد حالة شعورية إنسانية عامة لا تخلق الإبداع فقط بل تحدد أشكال التلقي)) ( 32 ) لهذا تنتشر في الديوان بورتريهات لأحبة رحلوا وأخذهم الموت في شعور أقرب إلى النوستالجيا:

      مات جدي

       ترك ميراث الفرح

       كان يزرعه كل يوم

       على  بوابات أومأ إليها

       طرق لم تسمع

       إلاّ رنين شفتيه .

       عندما تأتي سيرته

       يعم الضحك والترحم

       قليل من الأسى .( 33)

   تستمر القصيدة في عرض حالة النوستالجيا من خلال الحديث عن الجدة وذكريات الشاعرة معها, وتنتشر في الديوان تلك الصور, فها هي صورة الأب الذي مات , والأخ الذي عانى  لسنوات من  الصداع المزمن, كما في قصيدة (موسيقى سيرك) ص67

    تدرك الذات بكل شجاعة أن النهاية هي الموت , لكن الحياة يجب أن تستمر وتسير نحو الأفضلوالأجمل, ويحضرني هنا الربط الذي قم به ستيفن سبندر بين ذلك الفكر الوجودي والشاعرية حين قال: ((الشاعرية هي هذا الذي يغتبط بالوجود لأجل الوجود , والشاعر هو الشخص الذي يحققفي فنه وجوده ووجود الآخرين ووجود الطبيعة خارجه)) ( 34)

    لذا كان عدم تحقق الذات يساوي الموت نفسه:

       عندما دخلت الصفر

       وجدته فوهة مدفع

       حفرة ندفن بها أحياناً( 35)

الصفر هنا رمز لعدم التحقق وعدم الوجود وهذا يدل ضمنياً على أننا من يصنع الواقع والحياة

   حتى لو كان الاستمرار مجرد تسلية:

     من تركونا سريعاً

      دون أن يكملوا الحكايات

      تركوا لنا مسافة طويلة

      كي نخترع العديد والعديد .

     الاستمرار تسليتنا الوحيدة ( 36)

    بقي التنويه على أن تجربة عبير عبد العزيز الشعرية الثرية تحتاج إلى المزيد من التناول النقدي لجوانب ضاقت مساحة ورقة تلك القراءة عنها مثل آليات السرد الشعري والتشكيل اللغوي كذلكمدى الاستفادة من الفنون الأخرى , وعلاقة فضاء الصفحة والتشكيل البصري بالدلالة لأنها تجربة تتسم بالثراء وتنوع زوايا التناول النقدي لها .

ــــــــــــــــــــــــــــــ

الشواهد:

ـ (ما بعد الحداثة) مارجريت روز. ترجمة أحمد الشامي, سلسلة الألف كتاب العدد153الهيئة المصرية العامة للكتاب ص 65-66

  ـ ديوان (مشنقة في فيلم كرتون) عبير عبد العزيز. دار شرقيات للنشر والتوزيع القاهرة 2009ص 55

ـ القصيدة التشكيلية في الشعر العربي) د. محمد نجيب التلاوي. مكتبة الأسرة 2006, الهيئة المصرية العامة للكتاب, ص265

ـ ديوان ( مشنقة في فيلم كرتون ) ص46-47

ـ المصدر السابق ص 49

ـ  المصدر السابق ص12

ـ المصدر السابق ص 20-21

ـ (الرؤية والعبارة . مدخل إلى فهم الشعر) عبد العزيز موافي . مكتبة الأسرة 2010الهيئة المصرية العامة للكتاب  ص 81

ـ ديوان ( مشنقة في فيلم كرتون ) ص 120

  ـ المصدر السابق ص 80

  ـ (وجوه ومرايا) د. عبد الحكم العلامي . ثقافة القاهرة . 2003 الهيئة العامة لقصور الثقافة ص 44

ـ (المشهد الشعري الراهن) أبحاث مؤتمر أدباء مصر , الدورة الرابعة والعشرون , محافظة الإسكندرية ديسمبر 2009 بحث بعنوان ( تداخل الأنواع فلسفة الحياة والكتابة اليوم ) د . أمجد ريان, الهيئة العامة لقصور الثقافة ص99

ـ ديوان (مشنقة في فيلم كرتون) ص26-27

ـ (الحياة والشاعر) ستيفن اسبندر . ترجمة د . محمد مصطفى بدوي . مكتبة الأسرة 2001 الهيئة المصرية العامة للكتاب ص 64

ـ ديوان (مشنقة في فيلم كرتون) ص 39

ـ المصدر السابق ص 25

ــــــــــــــــــــــــ

إبراهيم النحـّاس – ناقد – مصر 

مقالات من نفس القسم