ظننت أني على الطريق.. وهو يومئ له قائلا أن ما أظنه الطريق قد يكون محاولة أخرى للتكيفمع ما لا يجب التكيف معه:
“ما يفسد الناس ويجعلهم أشرارًا ووحوشًا وبالتالي يقسمهم ليس النهب أو القتل، ليس الزنى، ليس الغش، بل الكذب، ذلك الكذب المميز للنفاق الذي يقضي في إدراك الناس على الفرق بين الخير والشر، ويفقدهم بذلك امكانية تجنب الشر والبحث عن الخير، يحرمهم مما يشكل جوهر الحقيقة الإنسانية، لذا يقف في طريق أي تكامل للبشر.“
طالما حلمنا ومازلنا – من منا مازال قادرًا بعد كل ما حدث – بالتغيير… بإسقاط ذلك النظام، وقد شعرت منذ مدة أن جوهر المسألة كله يتعلق بتحديد الموقف من العنف، وأوليت هذه المسألة انتباهًا كبيرًا حتى شعرت أن الفارق الحقيقي بين الفكر الإسلامي والفكر المسيحي قد يتعلق بتلك الإشكالية: المحبة – العدل، ودور العنف.
في البداية عرض تولستوي موقفًا شديد الوضوح.. شديد الوضوح حتى أني ضحكت من فرط المفارقة. يقضي تعليم المسيح في الموعظة على الجبل بعدم مقاومة الشر تحت أي ظرف من الظروف بالشر، وعدم استخدام العنف إطلاقًا ومسامحة الأعداء. كيف يمكن لأي مسيحي التوفيق بين ذلك وبين الخدمة العسكرية؟ بالطبع تعرض تولستوي لكافة الأراء التي ترد عليه بخصوص الدفاع عن الآخرين وضياع الدولة وووو….. . عبر تحليل منطقي شديد الوضوح بين أن كل تلك الدعاوي هدفها الوحيد الحفاظ حقيقة على الدولة والنظام القائم فالجيش لا يحمي الشعب، بل يحمي الدولة، وكل الشرور القائمة والمظالم سببها ذلك العنف المتزايد من الدولة حتي يقولها صراحة:
“المسيحية في معناها الحق تقوض الدولة. فقط منذ اعتناق رؤساء الدول مسيحية اسمية ظاهرية بدأوا بابتكار كل تلك النظريات المعقدة المستحيلة التي يمكن بموجبها الجمع بين المسيحية والدولة. لكن لأي شخص صادق وجاد في زماننا لا يمكن ألا تكون جلية استحالة الجميع بين المسيحية الحق – تعليم الوداعة وغفران الإساءة والمحبة – وبين الدولة بإكبارها العنف والإعدامات والحروب. إن المسيحية الحق لا تنفي فقط امكانية الاعتراف بالدولة بل وتقوض أسسها”
ويستطرد تولستوي في عرض مفاهيمه عن العنف وإشكاليته وعدم قدرته على تغيير الواقع بأية طريقة من الطرق، وأن الحديث عن إلغاؤه ليس حديثًا مثاليًا بل هو كلام ينبع من صميم الواقع. وأخذ تولستوي في تحليل مفهوم الدولة وكيف نشأ… الكلمات بسيطة ومباشرة حتى الألم. كيف إذن أمكن التوفيق بين كلمات المسيح وبين ادعاء دول أوروبا الحكم المسيحي فترة طويلة من الزمن؟
هنا تأتي الصدمة التي لا مفر منها.. الأمر كاملا يتعلق بوجهات نظر تولستوي الدينية. لقد رأي أنه هناك نوعان من المسيحية: تلك المسيحية الحقيقية التي تجلت في الموعظة على الجبل، ويمكن لتعليمها أن يفهمه اي إنسان فهي تستجيب لمطالب الفطرة الإنسانية فلا يحتاج أحد إلى مجهود ليفهم مبدأ أن يعامل الآخرين بما يحب أن يعاملوه به… هذا مبدأ بسيط وينسجم مع الحياة، ولكن أتم افتراض أن تعليم المسيح لا يبلغ للبشر كأي حقيقة أخرى وإنما بطريقة خاصة خارقة، إذ أن حقانية فهم الدين لا يمكن إثباتها من خلال توافق الرسالة مع متطلبات العقل ومجمل طبيعة الإنسان، وإنما عبر عجائبية التبليغ التي تعد برهانًا دامغًا على حقانية الفهم. وقد نشأ هذا الافتراض من عدم الفهم وكانت نتيجة ذلك استحالة الفهم. ومن هنا تكونت نظريات لاهوتية غريبة ومعقدة عن التثليث والتجسد والفداء…. إلخ.
تولستوي يرى أن منظومة الكنيسة هي العدو الأول لتعاليم المسيح، وهذا ليس إساءة تمت في وقت ما أو انحراف أصابها، بل هي في صميمها جسم معاد بكهنوتها وعقائدها الفكرية الكاذبة لكافة تعاليم المسيح، ولم يحدث أن أطاعت تعاليم الموعظة على الجبل بالمحبة والوداعة ورفض العنف إلا من شخصيات شديدة الندرة لا تمثل الكنيسة.
لا يمكن لأي مواطن مسيحي أن يقبل بالخدمة العسكرية… هكذا يقول تولستوي عارضًا لمواقف كثير من الطوائف المسيحية التي لا نعرف عنها شيئًا والتي رفض أبناؤها الخدمة العسكرية.. الجيش هو التجل الأكبر للعنف.. تلك القضية الفاشلة… ليس بمقدور العنف أبدًا القضاء على ما يقره الرأي العام. على العكس يكفي فقط أن ينبذ الرأي العام العنف صراحة حتى ينتهي العنف.
إن كافة معاناتنا والشرور التي تحيط بنا تحكمها القوة، ورأس المال يحميه الجيش والشرطة وخاصة الأول…
” لقد أبطلت المسيحية تعليم “عين بعين وسن بسن وحياة بحياة” لأن هذا التعليم ليس سوى تبرير للأخلاق، وليس سوى تعليم أخلاقي مزيف لا معنى له على الإطلاق. الحياة قيمة لا توزن ولا تقاس، ولا يمكن لأي حياة أخرى قطعها، لذا ليس هناك معنى للقضاء على حياة لقاء حياة. فضلان عن أن أي قانون اجتماعي إنما يهدف إلى تحسين حياة الناس. فكيف يمكن تحسين حياة الناس عبر القضاء على حياة بعض الناس؟ القضاء على حياة لا يحسن الحياة بل هو انتحار. القضاء على حياة شخص آخر لتحقيق العدالة يشبه ان يقوم شخص فقد ذراعًا بقطع ذراعه الأخرى لكي يحقق العدالة.”
إن كافة الاتجاهات الاشتراكية والفوضوية والثورية التي تنتهج العنف هي من منظور تولستوي وقود أكثر ومبرر لاستمرار النظام… أما حان الوقت لتقويض هذا النظام؟ لن يحدث ذلك إلا بتغيير فرد فرد… هذا ما يعتقده الجميع أمرًا مستحيلا، ولكن العكس أثبت التاريخ استحالته حقًا، وهنا يضيف تولستوي أنه إن كنت قلقًا بشأن المجتمع فأنت لست المسئول الأوحد عنه.. فقط لا تورط نفسك في قضية غير أخلاقية بانتهاج العنف والعدوان.
أغمضت عيني وأمواج متلاطمة من الأفكار ترمي بي يمينًا ويسارًا… مازال يحدق في بوجهه الهاديء مؤججًا في الصراع حتى تلك اللحظة التي أخشي أني لن أقوى فيها على الاستمرار…
ماذا علينا أن نفعل؟
يقول هو بصوته الهاديء أن استمرار النظام كله قائمًا على أولئك الجنود والبسطاء الذين يقمعون أسرهم وأصدقاءهم، وبدونهم لا يجرؤ حاكم على التفكير مرة واحدة في اتخاذ أي قرار ضد شعبه… الأمر في أيدينا بشكل ما..
ولكن هل كنت تعلم إلام ستصل التعقيدات يا تولستوي؟ هل كان يمكنك تخيل تلك الدوامة التي يعيش فيها الفرد في ذلك النظام الرأسمالي العالمي؟
– فقط لا تكذب…
يوميء لي بهدوء.
لا أعلم مصدر ذلك الهدوء.. أغمضت عيني وتذكرت ماسبيرو.. تذكرت محمد محمود… تذكرت تلك الجلاليب السوداء واللحى الطويلة تبرر وتبرر وتبرر، بل وتحرض ضاربة الحائط بأكثر تعاليم المسيح مباشرة ووضوح…
نظرت له وتذكرت أن عيد مولده كان بالتاسع فقط من هذا الشهر فقلت له:
– شكرًا على الهدية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يوسف نبيل ـ روائي وكاتب مصري
ـــ