“الشيطان امرأة” و”مخاوفى السبعة”.. روايتان مختلفتان من تركيا والبوسنة

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

روايتان محكمتا البناء والصنع صدرت ترجمتهما مؤخراعن دار العربى للنشر والتوزيع. تقدم الروايتان تجارب سردية لافتة، لاثنين من الكتاب الموهوبين: روائية من تركيا، وراوئى من البوسنة. قد يكون العنصر المشترك بين الترجمتين فى التعامل مع أفكار معتادة ، ولكن بطرق وتناولات جديدة: "الشيطان امرأة" رواية تركية عن آثار الحب، تتميز ببراعة وصف تقلبات الأهواء والعواطف، وعمق الدراسة النفسية للشخصيات، بينما تقدم الرواية البوسنية "مخاوفى السبعة" صورة كابوسية مدهشة لآثار ما بعد الحرب، وبطريقة تدمج غرابة الواقع فى غرابة الفانتازيا.

الشيطان امرأة

الشيطان امرأة

“الشيطان امرأة” للكاتبة التركية هاندى ألتايلى بترجمة ياسمين مصطفى، عمل ذكى يرصد بدقة فوضى وتقلبات عاطفة الحب، التى تبدو مثل قيد لا فكاك منه. بطلة الرواية “آشلى” ومنْ حولها يتبادلون المواقع والمواقف، العلاقات بين الرجال والنساء فى الرواية متحولة وزئبقية، رسم الشخصيات جيد للغاية، والسؤال يبدو بلا إجابة، ذلك لأن الإنسان كائن معقد، المعارك داخله، وليست خارجه، والغرابة جزء من عالمه.

مشكلة “آشلى” مربكة للغاية، لقد أحبت رجلا كان فى الأصل عشيقا لخالتها الراحلة “جوليد” التى قامت تقريبا بتربيتها. عندما يحدث الحب، يبتعد العقل تماما، وتقبل “آشلى”، التى كان لها صديق، أن تكون امرأة الظل ل “عمر” الذى يمتلك محلا لبيع السيارات، بل إنها توافق على أن يحتفظ بزوجته! شخصية “عمر”، محور الصراع، تبدو أيضا غريبة ومتقلبة، هو يحب “آشلى”، ولكنه يرفض الإنفصال عن زوجته، فى لحظة كبرياء تتركه “آشلى”، وتبدأ حياة عملية جديدة، ولكن يظل شبح “عمر” يطاردها، حتى يعود وقد أصبحت “آشلى” فى الثالثة والثلاثين من عمرها.

تبدأ الرواية بحادث سيارة يعكر صفو “آشلى”، اصطدمت بسيارة قمامة فى الطريق، ويفتح هذا الحادث باب الحكاية ، ويتيح للكاتبة فرصة تشريح مجموعة من الشخصيات المحيطة بحياة “آشلى”، صديقاتها، خالتها المتمردة، رئيسها الأحمق، وعشيقها الذى حاولت نسيانه دون جدوى . تنتمى “آشلى” الى عائلة ثرية، فقدت أمها، ولم  تتكيف مع والدها، فعاشت مع خالتها المتحررة، يطارد “آشلى” هذا الشعور  المستمر بالوحدة، تشعر بالذنب بالتأكيد لأنها وقعت فى حب عشيق خالتها الراحلة، تكاد تكرر حكاية الخالة بأن تتبع قلبها، فى الخلفية يتحول المجتمع بين نهاية التسعينات، والسنوات الأولى من القرن الحادى والعشرين. يفترض أن تصبح “آشلى” أكثر نضجا، ولكن حياتها تتعقد بسبب العشق، تخوض معركة وسط خيانات واكتشافات وفشل فى بناء حياة مستقرة مع رجل يرغب فى أن يتزوجها، المشكلة مزدوجة : فى الإنسان، وفى زوايا الرؤية المراوغة : ” لا تتغير الأشياء، ولكن تتغير نظرتنا إليها. سيكون لك وجهة نظر مختلفة تماما إن كنت صديق حبيبة أحدهم أو كنت صديق زوجة أحدهم. ربما تبكى تعاطفا مع شخصية فى فيلم، لكن إن قابلته فى الحقيقة فربما يثر ضحكك. ولن يبدو لك الحبيب القديم جذابا كما اعتدته حال دخولك علاقة جديدة. تتغير الأضواء بينما لاتتغير أنت، أو الشخص الذى تنظر إليه. شىء محزن، لكنك لن تحزن لو كنت تكره المتوفى. وإذا نظرت من وجهة نظر الديدان، التى تأكله، فالموت شىء عظيم. عجز الجميع عن رؤية الموقع المحدد للآخرين أو لأنفسهم، أمر مزعج، فحاضرنا وماضينا، احلامنا وإحباطاتنا، أحزاننا ونقصنا، يسحبوننا للأمام وللخلف طوال الوقت. ليس هناك شىء جلى أو مطلق ، كلنا ضائعون”.

ربما يعيب الرواية الإسراف فى تلك العبارات التقريرية المباشرة مثل العبارة سالفة الذكر، والتى تبدو كما لو كانت حكما مأثورة، على طريقة روايات باولو كويللو. قد يكون السارد عليما بكل شىء، ولكن أن يصبح ايضا فيلسوفا ومتأملا وعالما فى النفس، فإنه أمر مزعج للغاية، ولكن الرواية تقدم فى المقابل بناء سرديا محكما، تجذب قارئها، ولا تستطيع أن تتوقع نهايتها، ذلك لأن قانونها الخاص هو التغير، تغير البشر، وتغير العواطف، وتغير زوايا الرؤية، كما أن الرواية تتميز ببراعة رسم النماذج الإنسانية، وخصوصا النساء. هناك تفصيلات ذكية للغاية عن أحلام النساء، إحباطاتهن، الصداقة التى تنشأ بينهن، الإحساس بالوحدة، “آشلى” وصديقتيها شخصيات حية ونابضة، وكذلك شخصية الخالة الراحلة المتمردة “جوليد”. ليست المرأة فقط هى التى يمكن أن تتحول الى شيطان، نحن أيضا لدينا بذور الشيطنة، ولكننا لم نختبر، وهذا هو معنى الرواية الأعمق، والأكثر جمالا. 

مخاوفى السبعة

عن الخوف والحرب

أما رواية “مخاوفى السبعة” للكاتب البوسنى سلافيدين أفيديتش ومن ترجمة محمد أسامة فهى من أفضل ما قرأت فى السنوات الأخيرة عن آثار الحرب، نشرت الرواية فى العام 2010، واختيرت فى القائمة القصيرة لإحدى أهم الجوائز الأدبية فى البلقان، وترجمت الى الإنجليزية عام 2012، ونافست فى القائمة الطويلة لجائزة إمباك دبلن العالمية للأدب عام 2014.

تبدو الرواية مزيجا مدهشا من خيال محلق، وروح ساخرة عبثية، ولمسة كافكاوية واضحة، بالذات فى رسم شخصية السارد الذى مكث فى فراشه لمدة 9 أشهر ، وذلك بعد أن هجرته زوجته . وسط حجرات شقة منعزلة، يعيش رجل يأكل البسكويت، وينام معظم الوقت، يتامل الجليد من النافذة، ويبدو غير نادم على ما كل ما فاته خلال تلك الفترة، لا يفتقد شيئأ سوى زوجته السابقة، كان بحالة عادية من الناحية الجسمانية، ولكن (كما يقول)  لم يعد لديه دافع  لمغادرة الفراش.    لكن حياة بطلنا تتغير عندما تزوره “ميرنا” ، ابنة “إليكسا”، صديقه المختفى، إنها تطلب المساعدة فى البحث عن والدها، وتربط اختفاءه بما كتبه فى أجندة سوداء عثرت عليها، تحدث فيها عن مقابلته فى أحد المناجم للشبح المعروف باسم “بيركمان”، والذى يظهر لعمال المناجم، إما للتحذير من كارثة قادمة، أو لكى يعرّفهم بأماكن الذهب والمعادن النفيسة.

أحداث الرواية تبدأ فى العام 2005، انتهت الحرب، ولكن آثارها محفورة فى النفوس، وهذا الجنين/ الرجل الذى مكث فى فراشه لمدة 9 أشهر هو جزء من  العالم الغريب، إنه شبح إنسان سيكون عليه أن يبحث عن صديق مختف، من المحتمل أن يكون هذا الصديق قد ذهب  بدوره فى إثر شبح حقيقى اسمه “بيركمان”، هنا رحلتان متقاطعتان: نتعرف فى الرحلة الأولى الداخلية على عالم السارد الغامض، على إحباطاته، وحياته شبه العدمية، ونظرته الساخرة والمؤلمة معا للحياة، وهناك أيضا رحلة رحلة خارجية ومغامرة  بعيدا عن الفراش ، لاكتشاف بقايا البشر فى مدينة خرجت من الحرب فى حالة بائسة، السارد يؤمن أصلا بكل الظواهر الخارقة، بل لعله هو نفسه إحداها، ولذلك لا يتردد فى البحث مع “ميرنا” عن والدها “إليكسا”. حياة السارد تتقاطع أيضا مع حياة صديقه الغائب “إليكسا”: الاثنان عملا فى محطة للإذاعة، السارد كان ايضا صحفيا، ولكنه اعتزل الصحافة والعالم، والاثنان لديهما الكثير من المخاوف التى يكتبانها باستمرار( هى مخاوف كثيرة ومتنوعة) . من خلال اكتشاف أجندة “أليكسا” سيكتب السارد الحكاية كاملة، سيكتب عن نفسه، عن بلدته وواقعها الغريب، عن عالمها السفلى، سيعترف بتفكيره فى الإنتحار، سيكتب عن أولئك الذين مزقتهم الحرب، ستنمحى الفوارق بين عالم غرائبى عن الأشباح، وعالم بشرى واقعى، لايقل غرابة أو إثارة للدهشة.

بطلنا يبدو كما لو كان نموذجا لجيل لم يتحرر بعد من آثار ما بعد الحرب، كما أنه أسير لأحباطاته العاطفية، لإحساسه بالوحدة، ولتأملاته الوجودية، أما النماذج الأخرى فى الرواية فهى أيضا تعانى قلقا، أو تعكس واقعا مأزوما:”ميرنا” وأمها تركتا البوسنة أثناء الحرب،  وهاهى تعود لكى تبحث عن والدها، ثم تفكر فى بيع الشقة التى كان يقطنها والدها للحصول على ثمنها، و”أحمد” صديق الأب يبدو أيضا شخصية غريبة ، يؤمن بالأشباح، ويحقد على “أليكسا” لأن لديه عائلة صغيرة، ثم يحقد عليه مرة أخرى عندما يظهر له شبح “بيركمان”، يتساءل “أحمد”: “لماذا يظهر شبح لرجل ملحد ؟!”. فى الرواية رجل صارخ ينطق بالحكمة فى الشارع يدعى مصطفى، الرجل يدين الجميع، ويتهم المدينة دوما بأنها مذنبة، لاشك أنه من ضحايا صدمة الحرب،سائق التاكسى “إكرام”  سنكتشف أنه  متورط فى أنشطة مشبوهة، وليس مجرد رجل خدوم ومتعاون، والأخوان “بيجاسوس” بمظهرهما الأسطورى هما الحصاد المرير لمجتمع مشوه، خرجا من الكراهية والحرب والعنف، وكانهما “يأجوج” و”مأجوج” معاصرين ، يفتحان الباب أمام يوم القيامة، حتى الرجل / الشبح الذى عثر عليه بطل الرواية فى شقة   “أليكسا”، ليس فى حقيقته سوى شخص قتلوا أسرته أثناء الحرب، وينتظر خروج القاتل من السجن، للإنتقام منه.

رغم أننا أمام عالم كابوسى بامتياز، إلا أن الرواية ليست كئيبة على الإطلاق،  لأن هناك خيالا ممتعا،  وتعليقات ساخرة وذكية، وقد كان رائعا بالفعل الإحتفاظ فى الترجمة العربية ب33 ملاحظة هامشية طتبها المؤلف هى جزء لا يتجزأ من النص. إنها نقاط أساسية تستكمل ملامح صورة السارد، وأفكاره الخاصة، وتكشف عن هواجسه، وحالته النفسية ، وتأملاته، أهميتها فى أنها هوامش عن إنسان مهمش أصلا ، يقول مثلا فى إحداها : ” تجنبتُ الإلتزامات طوال حياتى، وقمت بتأجيلها حتى اللحظات الأخيرة، لن يساور الرجل الرصين شك حيال مسار حياته الأمثل، يعرف دوما طريقه، ومنذ طفولته يشحذ طاقته، ومع أول علاقات البلوغ، يبدأ بتنفيذ الخطة: تعليم لأجل مهنة مريحة_ تجارب حذرة مع المخدرات الخفيفة، والعرى ، والجنس_ وظيفة_ البحث عن الفتاة الملائمة، الصحيحة، الناضجة، الموقرة_ الزواج _ شراء شقة مريحة_ اختيار الأثاث والأجهزة الكهربائية _ ميلاد أول طفل، ذكر لو أمكن_ شراء سيارة_ ميلاد  الطفل الثانى، تكون الفتاة مثالية لاكتمال صورة الأسرة المثالية_ شراء شاليه للعطلات_ العثور على عشيقة عاقلة_ تربية كلب، لإضافة لمسة جمال تكميلية_ الشجار حول التعليم المناسب للأبناء_ وظيفة للأبناء_ دور توجيهى فى اختيار شركاء حياة الأبناء_ السعادة لوصول أول الأحفاد_ تحول شاليه العطلات الى خلية نحل_ الإستعداد للوفاة_ الوفاة . تلزمنى ثلاث حيوات لتنفيذ تلك الخطة، على أقل تقدير، إنها خطة محمومة، بجدول زمنى مزدحم، بلا استراحة، ولا فرصة للتفكير، مع افتراض غياب نوبات الإكتئاب، والجنون، كل شىء محدد وواضح، كمشرط الجراحة، معقم وحاسم” .

هذه الطريقة السردية الممتعة منحت النص حيوية بالغة، سنتابع فى شغف مصير “أليكسا” الغامض، وسنكتشف أن كتابة المخاوف السبعة التى يعانى منها كل إنسان لا تكفى للتغلب عليها، المشكلة أعقد واعمق، إنها فى تلك المسافة الهائلة بين تخيلاتنا وواقعنا المؤلم، فى وجود أكثر من الأخوين “بيجاسوس” على الأرض، فى أننا جميعا من المذنبين كما قال “مصطفى”، تنتهى روايتنا البارعة بسبع صفحات فارغة كان من المفترض أن تكتب بصورة مثالية عن حكاية اختفاء “أليكسا”. هذه حكاية بلا نهاية، تطرح سؤالا معلقا عما يفعله الإنسان بنفسه، وبالطبيعة، وبالعالم، وبعد أن يفسد كل شىء، ينتظر الخلاص من الشبح “بيركمان” ، ومن كل “بيركمان”.                                                      

 

مقالات من نفس القسم