ولكن الحديث عن مؤلف “زوربا” هذه المرة له مناسبة سارة، فقد صدرت الترجمة الكاملة لروايته الملهمة “المسيح يصلب من جديد” عن دار آفاق للنشر والتوزيع فى نحو 575 صفحة، ترجمها المخضرم شوقى جلال عن الإنجليزية والفرنسية، الرواية ببنائها وأسئلتها وشخوصها لا يمكن مقارنتها فى رأيى إلا بأعمال ديستوفيسكى الكبرى، وتحديدا برواية “الإخوة كرامازوف”. بين العملين ذلك التماسك الفنى الذى منح الروايات مكانتها التى تتجاوز الحكاية الى ما ورائها، بينهما هذا الإستدعاء الذكى للحديث عن الله والدين، فى حين أن معضلة الروايتين هى الإنسان وتناقضاته والشر الذى يعشش فى داخله، بين الروايتين ذلك الإمتزاج الذى يصعب فصله بين الفن والفكر، نحن نتذكر الشخصيات بكل تفاصيلهأ ينفس الدرجة التى نتذكر بها الأفكار والأسئلة التى تعبر عنها، إنه المزج الناضج بين التجريد والتجسيد فى لوحة واحدة متسقة الألوان والعناصر، وهو أمر شديد الصعوبة والتعقيد، ولا يتأتى الوصول إليه، سوى لأصحاب مواهب استثنائية، تمتلك ناصية فن الحكى ، وتمتلك أيضا فلسفة خاصة عن الحياة والإنسان.
أعود فأقول إن “المسيح يصلب من جديد” و”الإخوة كرامازوف” ليستا فى الحقيقة روايات عن قيامة الدين أو المسيح، ولكنهما تبحثان عن قيامة افتراضية للإنسان، إنهما تستخدمان الفكرة المثالية التى جاءت بها الأديان عن وجود الإنسان الخير النبيل الشهيد، لكى تختبرها مع الإنسان المعاصر الذى تصطرع فى داخله قوى الخير والشر، الحب والكراهية، والجشع والعطاء. ليس السؤال فى الروايتين عن المطلق، ولكنه عن المحدود، عن مدى قدرة الإنسان على أن يستوعب المطلق الذى خلق على هيئته، وخلق لكى يكون خليفته ،السؤال عن مدى قدرة البشر على أن يكتشفوا الخير فى داخلهم لكى يكونوا أفضل وأرقى. فى “الإخوة كرامازوف” كان دليل وجود الله هو تلك الفوضى التى حدثت وستحدث إذا افترضنا عدم وجوده، وفى “المسيح يصلب من جديد” فإن القيامة تنتقل عبر الزمان من المسيح الى الفقراء، من النبى الى الإنسان العادى، هذا هو مغزاها ودورها الأكبر، لاتستدعى الروايتان الدين من باب التجربة الروحية المجردة، ولكنهما تستدعيان الدين من أجل قيامة ملموسة للإنسان، قيامة معاصرة ومطلوبة بعد أن اختلط الأبيض بالأسود، ولعل أعظم ما فى العملين أنهما يتعاملان مع الإنسان كما نعرفه بكل نقاط قوته وضعفه، لا يصطنعان إنسانا خياليا، لا وجود لفكرة المسيح أو المخلص بدون فكرة يهوذا أو الشر ، لا وجود لطريق صاعد بدون آلام ودماء، المغزى الفلسفى للروايتين فى ذلك الجهاد الداخلى الشاق، فى انتصار الإنسان على الشر فى داخله، بدون ذلك لن نستطيع تحقيق أى انتصار على الشر فى خارجنا، عند “كازنتزاكيس” و”ديستوفيسكى” لا أهمية للدين فى حد ذاته إلا بوصفه معراجا لقيامة الإنسان الداخلية، معجزات المسيح الخارقة والإستثنائية تتضاءل بجانب معجزته الكبرى، التى تحدث عنها “عباس العقاد” عندما قال إن المسيح قام بإحياء مملكة الضمير فى نفس الإنسان.
فى “الإخوة كرامازوف” يمثل قتل الأب بمعناه الحقيقى ، و بمعناه المجازى الدينى، بداية اكتشاف المغزى الصحيح لوجود الأب، وفى “المسيح يصلب من جديد” فإن تمثيل مجموعة من الأشخاص البسطاء لمسرحية عن آلام المسيح وقيامته، سيكون بداية اكتشافهم لمغزى الألم والقيامة. فى قرية “ليكوفريس” الصغيرة، تعودوا كل سبع سنوات على اختيار من يمثل الحكاية، سادة القرية هم من يختارون أبطال المأساة: المسيح والرسل الثلاثة الكبار بطرس ويعقوب ويوحنا، ونموذج الشر يهوذا الإسخريوطى، ومريم المجدلية، منذ اللحظة التى يجتمع الأعيان لتوزيع الأدوار على الفقراء، تتحدد أطراف اللعبة، وتتعدد زوايا الرؤية تماما كما حدث فى “الإخوة كرامازوف”: المسرحية لدى الأعيان مجرد عيد سنوى للبهجة، دعوة للإحتفال بذكرى منقرضة بعيدة، بينما يعيش الفقراء الذين تم اختيارهم أدوارهم بشكل حقيقى، خلال فترة الإعداد السنوية للمسرحية، ستحل الشخوص القديمة فى قلوب البشر المعاصرين، حتى الرجل الفظ الذى اختير لأداء دور المسيح، أصبحت القرية تعامله كرمز للشر، أما مريم المجدلية فلم تكن سوى عاهرة القرية الفعلية.
كازنتزاكيس لم يستدع الماضى لكى نراه ممثلا على خشبة المسرح، ولكن قرر أن يجعله يحلّ فى قلب الحاضر، يختبره، ويعيد تأمله، ليقول لنا إن معركة المسيح لم تنته لا بصلبه ولا بقيامته، المعركة أصعب وأخطر، لأنها فى داخل الإنسان فى كل زمان ومكان، كل أيقونات القصة الدينية يعاد بناؤها من جديد، ولكن فى إطار معاصر، يجرد الصراع ليصبح بين من يستغل الإنسان ومن يأكل لحم أخيه حيا، بين الفقراء وملح الأرض فى مقابل المرائين والجشعين والفريسين الجدد، “كازنتزاكيس” العظيم نفذ الى جوهر الدين كفكرة أساسها أن تحاسب نفسك، وأن تقاوم شرورك، وأن تتألم وتضحى فى سبيل ذلك، أن تحمل صليبك على ظهرك، لو اضطررت الى ذلك. مسرحية المسيح وآلامه وقيامته تُنصب فى قلب كل فرد من افراد القرية، ولأن إنسان عصر المسيح، هو نفسه إنسان عصرنا، بجشعه وحماقته، بنظرته الضيقة، وببخله وبنزقه، فإن من الطبيعى أن يصلب المسيح من جديد، وأن يعانى الراعى الفقير الذى اختير لدور المسيح، نفس معاناة المسيح، ينتصر الجشع، وتنتصر الكراهية، فيشعر القارىء بالقلق، تنكسر الأيقونة، ونكتشف أن وجود الدين وحده لا يكفى، وجود الطقوس وحدها لا يجعل الإنسان أفضل، لا تغيير إلا أذا اقتنع الأنسان بأهمية الحب والعدل والخير، لاتغيير إلا بقيامة كل إنسان، وإلآ بهذا الجهاد الحقيقى والأصعب وهو مواجهة شرور الذات، الصراع الحقيقى فى الدين بين الله والشيطان ليس على السلطة السياسية، ولكنه على قلب الإنسان، وهذا هو أيضا جوهر فكرة مسرحية “فاوست” لجوتة.
لا نستطيع القول إن كازنتزاكيس متشائم بسبب تركيزه على الطبيعة الإنسانية ، التى تكرر أخطاءها بلا كلل أو ملل، لكن يمكننا القول إنه واقعى إذ يرى الصراع من منظور معقد للغاية يرتبط بتعقيد الإنسان الداخلى، يقول “كازنتزاكيس” فى روايته العظيمة إن المعركة ليست سهلة أبدا، ولأن الشر قوى وقادر، فلابد أن يكون الخير قويا وقادرا، فقراء الجبل المنبوذين سيحاولون أن يحصلوا بأنفسهم على الأملاك التى وهبت لهم. طالما وجد المسيح، سيكون هناك يهوذا، وستكون هناك خشبة للصلب، ولكن سيكون هناك أيضا حواريون، وامرأة تائبة عن بيع جسدها، وستكون هناك كذلك فرصة للقيامة الداخلية، فى الرواية هناك قس انتهازى وجشع فى مقابل قس يخلص الأرواح، ويحمى الفقراء، هناك رجل بخيل مقابل شاب ثرى يتخلى عن أملاكه للمعوزين، هناك راع يريد أن يحتذى خطوات المسيح، فى مقابل رجل فظ وسكير وقاتل يمثل يهوذا المعاصر، هناك عمدة سىء فى مقابل بائع فقير وطيب لا يمتلك سوى حمارا بائسا، هناك من يؤمن أنه لا يمكن أن يعيش إلا إذا امتص دماء الأخر، ولكن هناك أيضا من يؤمن أنه لايمكن أن يعيش حقا إلا إذا اقتسم ما يملك مع الآخر، هذه هى الطبيعة الإنسانية بكل تضاريسها ووجوهها، طيبون وجشعون، أخيار وأشرار، مسرحية آلام المسيح تنقلب بصنعة فن الى مسرحية اكتشاف الإنسان، كيف يموت وهو حى، وكيف يمكن أن يحيا بعد أن مات، وفى إعادة صلب المسيح الجديد ما يحفز على الغضب والمواجهة، وليس فيه ما يدعو الى اليأس، إنها فى رأيى النهاية الأكثر ثورية إن جاز التعبير، ذلك أن انتصار الخير يعطى انطباعا غير صحيح بنهاية الصراع، الذى نعلم جيدا أنه لن ينته إلا بنهاية العالم.
“المسيح يصلب من جديد” ليست رواية عن المسيح فى الكتاب المقدس، ولكنها رواية عن المسيح (وما يمثله من قيم) فى داخلنا، عن الأديان كفكرة وليست كمجرد طقوس شكلية، الحب والعدل والخير و القلوب الطاهرة هى قيامة الإنسان ومعجزته الكبرى لو أراد، إنها رواية عن قدرة كل منا أن يخلّص نفسه والعالم أيضا. “المسيح يصلب من جديد” تريد للخير أن يكون أسدا هصورا، وتريد أن تجعل للعدالة أنيابا ومخالب، فى مواجهة شر لا يرحم، يحلم “كازنتزاكيس” فى روايته العظيمة بإنسان مختلف، يرفض الخوف، ويكره الجهل، ويؤمن بالحب، “كازنتزاكيس” هو قارع الأجراس الحقيقى فى كنيسة الإنسان البسيط، يصرخ الروائى الإستثنائى على لسان القس “فوتيس” ليحذرنا جميعا : ” لا جدوى يا يسوع، لا جدوى، مضى على صلبك ألفا عام، وما زال الناس يصلبونك من جديد، أى يسوع ربى، متى ستولد يا إلهى ولا تصلب ثانية، ولكن تعيش بين ظهرانينا خالدا الى الأبد؟” ، أما إجابة السؤال فهى تخص كل فرد فى كل زمان ومكان، يكفى فقط أن نتذكر هذا الحوار البديع الذى دار فى موضع آخر من الرواية، عندما سأل الفقير “مانولى” القس “فوتيس” : ” كيف لنا أن نحب الله يا أبانا؟”، فقال “فوتيس” : ” بأن نحب الناس با بنى” ، سأل “مانولى”:” وكيف لنا أن نحب الناس؟” ، رد “فوتيس” : “بان نقودهم الى الصراط المستقيم”، سأل “مانولى” من جديد: ” وما هو الطريق المستقيم ؟” ، فرد “فوتيس : “الطريق الصاعد” .
وما رواية “المسيح يصلب من جديد” سوى محاولة معاصرة لا كتشاف الطريق الصاعد فى داخلنا، حتى لو كان اسمه الحقيفى هو “طريق الآلام”.