كهف ولوحة

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

على مهل ، ولسنوات طويلة ، كانت لدي رفاهية تخيل العالم والطفلة التي أحلم بها ، كنت أهدم وأبنى في ذهني مئات المرات خيارات الحياة ، وأجرد مشاعري من الرغبات مرات ، أو اترك لها العنان ، أفكر في دراستي التي أحببتها ، وفي عملي الذي لم يشبه شيئا من أحلامي ، وأفاضل دوما بينه وبين محبتي للمجاذيب ، كنت سأبدو أكثر راحة هناك وسط تلك الفوضى وذلك العدم والتيه الذي حتما يجد طريقاً ورحلة حقيقية تبقى في القلب ، أفكر كثيرا في علاقاتي التي تشبه موج البحر ، تمتلئ وتثور وتبلل الرمل ، تنسحب وتبدأ دورتها من جديد ، بقع الشمس الكالحة على قلبي ، وحكايات السماء والبحر التي تملأني ، الجنيات الصغيرات اللاتي يطفن في عالمي يصلحن ما أفسده الوقت ، يتنكرن في شكل فراشات خضراء أراها كل يوم ، أو في صوت صديقة عبر الهاتف ، أو في جلسة من تلك التي أحبها وتملأ قلبي بالطاقة والنشوة جلسة منفردة مع السحاب والقمر والنجوم والصمت . أو جلسة وسط ضوضاء وحميمية دفء الأحبة والاصدقاء والأهل .

كان لديّ كل الوقت لأحزن ، لأجرجر خيباتي كوحش مصاب يجرجر ساقه وفريسته ويعود للكهف ، حيث هناك أمل في التداوي والحصول على بعض الراحة والأمان .

يبقى الكهف ذاته بجدرانه ووحشته ورحابته ومعرفتي الجيدة بشقوقه ومتاهاته ، وجهلي لطرقه حيث أبقى طوال الوقت مهددة بالضياع والفقد ، الكهف الذي يملك وحده تعويذة نجاتي من الحزن والشر والموت .. ” كهف الكتابة ” حيث تعود كل الوحوش المسالمة مثلي لكهوفها ، تكتب وتعربد ، تحزن وترقص من النشوة ، تموت في قوة وشموخ ، وفي ذل وخزي .. المعادلة واحدة وثابتة .

لسنوات طويلة بدى العالم داخل الكهف ، مؤلم … ذلك الوجع الذي يصاحب الميلاد وممارسة الحب ، الألم الذي يشبه تجسيد جوني ديب لشخصيات أفلامه ، معتم وقاتم وفني لأقصي درجة .. ينتابني ذلك الشعور كأي مصاص دماء غرس أنيابه في رقبه بيضاء تظهر عروق الدم عبرها بلا أي مشقة .

لسنوات أتقبل ذلك القدر ، وأحبه … ومن حين لآخر أخرج لوحتي وأضيف ابتسامة غامضة على وجه الصغيرة .. ربما حبة مشمش صغيرة على وجنتها .. تنكمش مع الوقت ويصبح للبنت عبق المشمش وروحه .. كنت أتخيلها كثيرا تربط شعرها بشريط أزرق أو بنفسجي ، وترتدي فستان حكايات ، كذلك الذي ترتديه الأميرات في كتب المكتبة الخضراء .. تجرجر خلفها كيسا من القماش كان في حياة أخرى كيس وسادة منقوش عليه زهور باهته ، يضم مقتنياتها الثمينة من أخشاب صغيرة وبلاستيك وبقايا ألعاب نجت من معارك كثيرة كانت البنت فيها طرفا ضد اللعبة .. في اللوحة كنت أعيد رسم ابتسامتها كثيرا .

كنت تقريبا في كل يوم أفتح الورق ، وامسح ابتسامة اليوم السابق ، وأرسم فرحة جديدة .

عندما جاءت الصغيرة الحقيقية ، كانت ابتسامتها أحلى من كل ما رسمت ، فعندما صنعها الله وصارت جاهزة للمجئ ، اقترح ملاكها الحارس هدية لها ،   غاص إصبعه في خدها الأيمن قليلا ، فصارت الضحكة بنغزة على الخد .

صارت مدهشة ، وصغيرة بشكل يبهج القلب ، الكائنات الصغيرة التي تشبهنا لها كل القلب ، تجرجر خلفها وهي تحبو كيسا مليئا بأوراق وقطع بلاستيكية وريموت قديم وسماعة هاتف منزل وزجاجة ماء فارغة تحتضنها ليلا عندما تنوى أن تنام وعروسة تضع أصابعها الصغيرة في عيونها ، صغيرة تجرب الحروف وتسمعني اصواتا مثل دادادادا / باب بابااااااابببااا

وتتشاجر معي إذا تركتها في فراشها دقائق لفعل اي شئ بلغة سريعة وغاضبة لا املك أمامها إلا الإستسلام والعودة لحملها والمضي بها هنا وهناك .

عندما تراني قادمة ومهما كان غضبها وصراخها تتوقف فورا عن الضوضاء ، تبتسم وترفع يدها نحوي ، كأنها ابتهال صغير ودعوة للسماء.

كهف الكتابة يزداد وحشة ، وآلفة .. والصغيرة تتجسد في المزيد من الحكايات .. وقلبي يملؤه ذات الأنين الغامض والقلق .

وانا أمضي دوما كالمجذوبة في اتجاه الكهف وفي يدي تلك الصغيرة التي صارت اخيرا من لحم ودم .

مقالات من نفس القسم