فى هذه الرواية الهامة نقرأ عن صاحب الكتابة ولا نسمعه أبدا، تنوب عنه بجدارة روايته التى تتخلق مثل جنين مشاكس، سرعان ما يمتلك هوية وإرادة وحلم، يبحث عن مبدعه، ثم يمتلك القدرة على أن يكمل الحكاية.
فى “أبناء الجبلاوى” اختفت روايات نجيب محفوظ وسط مجتمع ظلامى، فظهرت شخصياته حية بين الناس لتدافع عن نفسها، وفى “معبد أنامل الحرير” تصبح الرواية التى لم تكتمل بديلا عن كاتبها، تكتبه، وتستعيد سيرته، وتدافع عنه مثلما تدافع عن وجودها، يصبح الفن أقوى وأكثر خلودا من مبدعه، ويبقى النص حتى لو اندثر صانعه، يعيش البشر تحت الأرض، لكى ينسخوا حصاد ما كتبه البشر الأحرار، ويالها من تحية عذبة تستحق التأمل.
لا يمكن الدفاع عن حرية الفن والفكر إلا بطريقة حرة، وبأسلوب فنى ممتع، الى حد كبير نجح إبراهيم فرغلى فى تحقيق ذلك، من حيث البناء فإن الراوى فى “معبد أنامل الحرير” هو صوت رواية بعنوان “المتكتم” كتبها رجل اسمه رشيد ولم يكملها، الرواية نفسها هى التى تحكى، وهى أيضا التى ستعرفنا على مغامرتين ومعانتين: مغامرة ومعاناة رشيد فى كتابتها بعد حياة مضطربة عاشها، ومغامرة سفينة هائمة فى البحر المتوسط، وصلت إليها الأجندة التى كتبت فيها سطور الرواية الناقصة. على السفينة شخصيات ومناورات ومعاناة وصراعات مع مهربى المخطوطات والقراصنة وعصابات تهريب البشر، بحثا عن فرص للعمل فى بلاد جنوب المتوسط الأوربية.
أتاح هذا البناء المركب حرية كاملة فى السرد، تتسق مع موضوع يتغنى بحرية الفنان، كما أتاح أن يقدم للقارئ مستويين من فنون الرواية ( العمل بأكمله تحية لهذا الفن بكل أنواعه)، ذلك أننا ننتقل من رواية مغامرات على سطح السفينة، الى رواية أفكار عندما يقطع نص “المتكتم” وشخصياته السرد الخاص بأحداث السفينة. الكاتب الأصلى رشيد لن يظهر إلا من خلال ما تحكيه عنه الرواية، التى أصبحت كائنا مستقلا تماما، ذات حرة تتأمل ما كتبه مبدعها، وتبحث عن سر صنعته، وتربط بين وقائع أحداثه التى عاشها، وبين ما فعله خياله لإنجاز رواية “المتكتم”، بل إن الرواية ستكمل ما نقص من حياتها.
هذه إذن حيلة سردية تحقق أهدافا متعددة، مثل كرة البليادرو التى تضرب عدة كرات بضربة واحدة. أصبحت رواية “معبد أنامل الحرير” فى جوهرها هى سيرة رواية اسمها “المتكتم”: كيف صنعت؟ وكيف صارت كائنا حيا عابرا للمخاطر، ومتحديا للموت؟ وسيرة فنان اسمه رشيد كان يحلم بالطيران، وأصبح مرشدا سياحيا، وعاش أكثر من قصة حب، وقادته الحياة الى شتوتجارت فى ألمانيا وبالى فى أندونيسيا، ثم وجد ذاته أخيرا فى الكتابة، كتب حياته، ثم كتب روايته، ثم اختفى فوق سطح سفينة فى طريقها الى إيطاليا. “معبد أنامل الحرير” هى أيضا سيرة زمن افتراضى ظلامى بامتياز، يمكن أن نصل إليه لو استمرت تلك الغزوة الرجعية، والتى سترى تنويعة لها فى “أبناء الجبلاوى”، وقد كانت أيضا سيرة رواية، تملك شخوصها نفس قدرة مؤلفيها على الحياة والخلود، وعلى الفعل والتحقق بإرادة حرة مستقلة.
المتاهة هى إحدى مفاتيح رواية “معبد أنامل الحرير”: السفينة متاهة، كلما توغلنا فى الأحداث سنكتشف فيها أشياء غريبة وراء مهمتها كسفينة ركاب، فى الطابق السفلى مهاجرون تعساء، بيت الفن الذى أقام فيه رشيد فى شتوتجارت أيضا متاهة، استلهمها عندما تخيل فى رواية “المتكتم” مدينة للأنفاق، يهرب إليها الفنانون والعشاق والشعراء، وعندما استلهم مدينة المخطوطات التى يتم فيها كتابة النصوص الممنوعة، بعيدا عن سطوة المتكتم وأعوانه الذين استولوا على مدينة الظلام، رشيد اصطنع من حياته الواقعية عالما حرا موازيا تحت الأرض، ومنح أبطاله أسماء مختلفة وغير تقليدية مثل كيان وسديم ونيرد، واحتفى بتجربة هؤلاء الهاربين عشاق الحرية: ناصر ومنتصر ومنصور.
المتاهة أيضا فى المعبد البوذى الذى زاره رشيد فى جزيرة بالى، وفى معبد الكرنك، بل إنها فى حياة رشيد وأحلامه، وفى بناء الرواية الأم “معبد أنامل الحرير” التى تضم عدة روايات معا: رواية عن رشيد، ورواية عن رواية رشيد، ورواية عن السفينة التى تحمل رواية رشيد، وهذه السفينة ستحمل للقارىء مفاجأة مدهشة فى الصفحات الأخيرة، نستطيع أن نتكلم عن” سرد فى كل الإتجاهات”، وبكل الأساليب، ما بين واقعية مباشرة وفانتازية محلّقة، والمبهج أن العمل الذى يحتفى بالسرد والساردين، يحافظ الى حد كبير على تماسكه، باستثناء بعض الإستطراد فى حكاية يوديت ورشيد فى شتوتجارت، وفى قصة الفتاة الأثيوبية ميهريت على السفينة/ اللغز، وباستثناء بعض لحظات الإنتقال القليلة غير السلسة بين نص رواية “المتكتم”، وبين ما يجرى على السفينة فى عرض البحر.
نحن إذن أمام كتابة عن كتابة، وسطور تحكى عن سطور، ورواية قررت أن تصنع رواية عن نفسها وعن كاتبها وعن مكانها وزمانها، “معبد أنامل الحرير” هى فى إحدى مستوياتها قصة وعى واكتشاف: اكتشاف الفنان رشيد لنفسه وللآخرين وللعالم ولموهبته، واكتشاف رواية “المتكتم” لكيانها ولطريقة خلقها ولذاتها، واكتشاف سكان مدينة الأنفاق لمباهج الحرية، واكتشاف كيان / بطل رواية “المتكتم” لقيمة تمرده على عمله كرقيب سابق فى مدينة الظلام، واكتشافنا نحن كقراء لمعنى الخواء إذا افتقدنا الحرية، وإذا صمتنا فى مواجهة أولئك “الزومبى”، أعداء النور والحرية، أولئك العائدين من قبور الماضى، الذين يريدون أن يحكموا الحاضر من المدافن.
فى رواية “451 فهرناهايت” للكاتب راى براد برى كان لدينا عالم مواز للهاربين بالكتب من الفاشية، أصبحوا هم أنفسهم كتبا تحمل ذاكرة وحرية الفن والفكر، وفى رواية “المتكتم” تتطور فكرة النسخ فى معبد بأنامل من حرير، الى الكتابة على الأجساد العارية، التى سرعان ما ستقوم بغزو مدينة الظلام: فتيات تحملن نصوصا مكتوبة فوق جلودهن الرقيقة المكشوفة، أفكار حرة منقوشة على أجساد حرة، المتكتم وأتباعه تأخذهم المفاجأة، ولكن رشيد لم يكمل روايته ، اختفى تاركا الأجندة المكتوبة فوق سفينة مريبة، الأجندة ستروى وستحكى وستكمل، ستمارس أيضا حريتها، وستمد خط الحرية الى نهايته، ستربح أنامل الحرير المعركة، ولكن بعد مغامرة شاقة، لا يوجد أنتصار دون معركة، ولا يوجد إنسان يستحق اسمه وجنسه دون حرية، ودون دفاع عن تلك الحرية.
يجتزئ إبراهيم فرغلى فى “معبد أنامل الحرير” فقرات من نصوص ممنوعة، يدمجها فى حكايته، يقدم التحية لها ولمؤلفيها، ويترك فرغلى متعمدا مساحات واسعة لخيال القارىء ، يتركنا نخمن سيناريوهات كثيرة لعلاقة رشيد مع صديقه قاسم، وارتباطهما أو عدم ارتباطهما بعالم تجارة المخطوطات، يتركنا نخمن : هل يعلم قبطان السفينة رؤوف بحكاية تهريب المهاجرين أم لا؟
هناك حرية موازية للقارئ تعادل حرية الكاتب فى السرد، هناك محاولة لكى نكون شركاء فى المتاهة، هناك شخصية تحمل اسم “الكاتب الشبح”، وهو تعبير يطلق على الكاتب الذى يكتب سيرة أحد الأشخاص بأسلوب احترافى نيابة عنه، يوجد فى “معبد أنامل الحرير” فى الحقيقة أكثر من كاتب شبح، حتى السطور أصبحت تكتب وتشهد وتحكى وتثور، تبدو إذن فكرة التكتم والكتمان سخيفة وعبثية ولا معقولة بشكل يفوق ظهور قراصنة صوماليين فى البحر المتوسط، وما لوحة النهاية الفاتنة إلا ترجمة لفكرة انتقام الفن والفكر من سجانيهم البلهاء، ذلك أنهم لم يدركوا أن الكلمات تمتلك لعنتها، وأن الروايات تبث الحياة فى الكائنات، وأن الأفكار عابرة للمكان وللزمان، وأنها تطير بلا أجنحة، ممتلكة إرادة البقاء، حتى لو ذهب المفكر أو الفنان.
“معبد أنامل الحرير” رواية فى حب الحرية، وفى عشق الفن والفكر، وتحية فن الرواية والسرد القصصى، وفى هجاء الحمقى من المتكتمين، وربما تكون هذه الرواية نفسها هدفا لهم، وضحية لعبثهم، فيثبت الفن من جديد أنه يشهد على زمنه، ويفضح أغبياءه، وأنه لذلك يستحق الخلود والبقاء.