(الطلياني) رحلة سقوط مثقف يساري في زمن الحبيب بورقيبة من النضال في أيامه بالجامعة ضد السلطة وضد التيارات الإسلامية إلى صحفي يعمل في جريدة تملكها الدولة, لكن الكاتب لم يكتفِ بتلك التيمة المُغَلِفة للعمل, فالتفاصيل مختلفة تماما, وليست التيمة هي ما يحدد قيمة العمل الروائي واكتماله, وإلا فكل التيمات الأدبية قد اِسْتُهلكت مرات ومرات, وإنما الفلسفة الكامنة وراء العمل, والأسلوب واللغة والسرد الذي يأخذ الأنفاس في العمل حتى تجد نفسك وقد التهمت أكثر من ثلاثمائة وأربعين صفحة من السرد المدهش.
يفاجئنا شكري المبخوت منذ الوهلة الأولى للكتابة بحدث هو العقدة الرئيسة لروايته: اعتداء عبدالناصر (الشهير بالطلياني) على الإمام والشيخ علالة وسبه ولعنه في مقابر الأسرة وقت استعداد الإمام لدفن الحاج محمود والد عبدالناصر. ثم تكون الرواية كلها بحثا وفحصا للرحلة الطويلة التي خاضها الطلياني في حياته وصولا للحظة التي دفعته لانتهاك حرمة الدفن وقدسية الموت. والراوي للعمل الباحث عن السر وراء فعل الطلياني صديق وجار له مشارك في أحداث الرواية لكنه لا يتدخل إلا نادرا في ما يجري مما يجعل فعل الروي في العمل أقرب لتقنية الراوي العليم.
يقودنا شكري المبخوت على لسان راويه إلى نشأة عبدالناصر في بيت من بيوتات أسر الطبقات المتوسطة في تونس لأب ذي أصول تركية وأم من أصل أندلسي, ولهذا تَمَتَّع عبدالناصر بوسامة ظاهرة جعلت أقرانه يلقبونه ب(الطلياني).
النقلة الكبيرة في حياة الطلياني تأتي من دخوله الجامعة والتحاقه بكلية الحقوق ومن ثم قيادته لتنظيم يساري ناقم على أوضاع البلد في ظل الحكم الاستبدادي لبورقيبة وقبوله بمواءمات أعطت -من وجهة نظر الطلياني ورفاقه في التنظيم- فرصة كبيرة للتنظيمات الإسلامية الراديكالية أو الإخوانجية (كما يقول الراوي) لتحقيق شعبية كبيرة, والتغلغل في الحياة الجامعية للكثير من الطلبة. ثم تحين اللحظة المهمة للطلياني عندما يلتقي ب (زينة). تلك الفتاة المناضلة المثقفة المستقلة ذات الأصول الريفية الفقيرة, والناقمة على كافة التيارات السياسية من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين داخل الجامعة. تتحول المعرفة بين الطلياني وزينة إلى قصة حب تبدأ بإعجاب متبادل سرعان ما يتحول للحب مع أول قبلة يقتنصانها وهما مطروحان أرضا تحت وابل هراوات أعوان الأمن في الجامعة.
تدفع قصة الحب هذه بالطلياني إلى التخرج في الجامعة أخيرا بعد أن طالت به رحلته داخلها كقائد للتنظيم اليساري يحس بمسؤوليته تجاه رفاقه وتجاه التنظيم الذي يخشى عليه من الانهيار إن هو تخرج وتركه. ورغم أن قصة الحب نفسها تملؤها هواجس زينة ومشاكلها النفسية التي نكتشفها مع أول مطارحة غرام بينها وبين الطلياني. ومن ثمَّ نعرف على لسان زينة أنها قد تم الاعتداء عليها وهي صغيرة من أبيها أو أخيها وهو ما ترك في نفسها جرحا غائرا لم يندمل أبدا حتى وهي تعيش مع الطلياني قصة الحب. وزينة الطالبة المتفوقة الطموحة عكس الطلياني تحلم بمستقبل أكاديمي مرموق, ما يدفعها للقبول بعقد قرانها على الطلياني (الذي تعتبره صوريا عكس ما يعتبره هو) حتى تستمر في تونس العاصمة للعمل وإنهاء أطروحتها الجامعية (أو التبريز كما يقول المؤلف)
علاقة الطلياني المضطربة بزينة وانشغالها عنه بمشروعها الأكاديمي يقوده لخيانتها مرات عدة, أهمها على الإطلاق مع صديقتها الأعز (نجلاء). وفي ليلة حدوث الخيانة في بيت الزوجية المشترك وعلى سريرهما يقود زين العابدين بن علي انقلابا أبيضا ناعما على المجاهد الأكبر بورقيبه ويزيحه عن السلطة. وهو تطور مهم وذكي في أحداث الرواية وربط عبقري من المبخوت بين فعل الخيانة الزوجية للبطل وفعل الخيانة السياسية الأهم في تونس.
لا يكتفي المبخوت بالسرد البسيط المباشر في ثنايا الرواية, وإنما ينوع كتابته ما بين المباشرة والمجاز أحيانا, فيصف فعل الخيانة بين الطلياني ونجلاء بلغة مجازية رشيقة تحكي عن الفارس والفرس, ثم هو لا يكتفي سرديا أبدا حتى يدخلنا عالمه الأكاديمي الخاص, بل وينفث من ثقافته الشخصية ومعرفته باليسار وتجاربه ونقده, ويطوف بنا في عوالم ثقافية واسعة مع أسماء مثل حنا أرندت وبيار بورديو.
وهكذا فكما جاءت بداية الرواية هي في البحث عن العلة وراء تصرف الطلياني المنافي للتقاليد والآداب تجاه الشيخ علالة في لحظة دفن والده, وجدنا الراوي المشارك الثانوي في أحداث الرواية هدفه الوصول لمعنى لما حدث وتشريح أسبابه ودوافعه, ولذلك أخدنا في رحلة طويلة مع الطلياني وصولا للحظة التي حكى فيها بنفسه دوافعه للفعل وخلفياته مع التأكيد على إن تجربته الحياتية نابعة من تجربة القهر الجسدي التي مر بها وهو صغير. نعم عزيزي القاريء هذا ما نكتشفه في نهاية العمل, فالشيخ علالة المعتدى عليه في الجنازة معتد جنسيا على الطلياني صغيرا, ويصبح السؤال البارز للعمل الروائي ككل والذي يبحثه شكري المبخوت في طوافه وتطوافه بنا هو:
هل يستطيع الجسد المقهور أن يحقق تجاوزا لقهره ويجتاز علته وصولا لمراده في الحياة؟ أم أن القهر الجسدي يغلب الإنسان ويمنعه من التجاوز حتى يسقط في دونيته؟
الأبطال إذن في (الطلياني) يشبهون أبطال الميثولوجيا الإغريقية بمعنى ما, هؤلاء الجناة المجني عليهم الذين يرتكبون خطأهم التراجيدي المأساوي -حتى رغما عن مشيئتهم- ثم يُعاقبون دوما على خطئهم مهما حاولوا تجاوزه أبدا.
لا يتركنا شكري المبخوت دون معرفة المصير النهائي لأبطاله (عبدالناصر وزينة) قبل حتى الوصول لحل عقدة الرواية. فزينة لا تنجح في الوصول لهدفها والحصول على شهادة التبريز, بعد أن يتعمد أحد أساتذتها إسقاطها لرفضها مواطأته لتنجح كفعل رشوة, وتنتهي قصتها معنا بالسفر لخارج تونس دون الحصول على درجة جامعية عالية, وتكتفي بالعيش في كنف أستاذ جامعي فرنسي تعرفت عليه قبل أن تلتقي بعبدالناصر, واستمرت في مراسلاتها معه حتى طلبها للطلاق من الطلياني رغم رفضه, ثم سفرها لفرنسا. يقول المبخوت في أحد حواراته بعد الفوز بالبوكر: إنه رأف بحالة زينة واختار لها المنفى كمآل, فما مرت به في حياتها كان كافيا لدفعها للانتحار أو ربما الجنون. أما عن عبدالناصر (الطلياني) فبعد أن يغرق في عالم من العلاقات الجنسية السيئة وبعد أن يمارس الصحافة كمراسل لوكالات الأنباء العالمية فمندوب لبعضها في عدة بلاد يعود لتونس ليؤسس شركة للدعاية والإعلان ولكن جرح تركه لزينة يظل يطارده طوال حياته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حاتم عبد الفتاح
كاتب وشاعر مصري