من يتابع “بوستات” إبراهيم فرغلي على الفيسبوك لن يعرفه. أعني لن يعرف فيه المبادر إلى تكوين صداقات بألفة بحسد عليها. وهو ما سمح لي على غير عادة أبدا أن أغفو دون أن أشعر بعد أن تناولنا الغداء معا في منزلي أحد الأيام. انفجر إبراهيم في الضحك “انت نمت يا حاج؟”. كنت كأنما عرفته عمرا كاملا لا أتحرج أمامه من توتري، كما لا يتحرج أيضا من التهكم على خرقي. تبدو أحكام إبراهيم قاسية ومستهينة، لكن هذا وجه واحد فقط، وجه دفاعي أمام ما يمكن أن تعتبره شذوذا. كنت أحكي لابراهيم مرة عن أحد أحلامي حين واجهني برأيه المنزعج حول تذكر أو إعادة تذكر الاحلام. كأن الحلم وحش حقيقي، وحش لا عقلاني . لا ليس هذا هو الموضوع، بل وحش يبتلعك ويستغرقك، وتصبح حياتك الفعلية مجرد صدى له. الروح العملية لدى إبراهيم كانت تريد وضع هذا الوحش في قفص. هكذا صار يكتب روايات. هذا في رأيي طبعا.
عرّفنا على “كوفي بين” كافيتيريا لطيفة في شارع يالم المبارك ، الوحيد الذي يذمكن أن يذكرك بشوارع وسط البلد في مصر. المكان المخصص للتدخين كان مطلا بواجهة زجاجية طويلة، ما يسمح لك بمتابعة جو الكويت المتقلب، أمطار، رياح مغبرة، رطوبة تتحول إلى خيوط لامعة على السطح الخارجي للمقهى. نأتي مصادفة أحيانا فنجد إبراهيم جالسا في الركن الأقصى أمام اللابتوب يكتب.. كانت هذه هي بروفة “أبناء الحبلاوي”.
مشروع مربك. لأنه لا يريد فقط أن يحكي، بل أن يواجه، وما يواجهه ليس المجتمع بالذات، بل بالأخص “مجتمع الكتابة”.
هكذا ستجد الابتعاد الحاد عن السير الشخصية، عن كل ما له علاقة مباشرة بالواقع، على محاولة موجعة لخلق خيال متكامل، ولتوليد النماذج الانسانية بعضها من بعض. ثم عودة أيضا لما يمكن أن تسميه الأفكار الكبرى ليس في الصورة البانورامية التي تعرضها الرواية فحسب بل في اختيار نجيب محفوظ ليكون المعادل لها، للتاريخ الأدبي الكلاسيكي الأكثر حقيقية من الواقع والأكثر تجسيدا له، كما في طبيعته الرمزية الموحدة، والمعوضة عن غياب أي أرض مشتركة للواقع.
على مستوى شخصي تماما أكثر ما يلفت نظري في كتبات إبراهيم هو حساسيته العالية في اختيار والتعامل مع نماذجه النسائية. وفي تعليق. نساء إبراهيم فرغلي لسن غريبات الأطوار فقط، بل حقيقيات أحيانا إلى درجة جارحة.
في تعليق لي على مجموعته القصصية “شامات الحسن” في ندوة عقدت حولها قلت انالمجموعة رغم أنها تريد كسر “الذكورية” إلا إنها تقريبا مكتوبة بنفس ذكوري واحد. وفي بعض قصصها لا تكاد تعثر على “ذكر” بخلاف الراوي أو المروي عنه. مع هذا لم يكن حكمي دقيقا. كان هناك نوع من الافتتان بالمرأة، وبغض النظر عن “ذكورية” هذا الافتتان وربما بسببه كان هناك نوع من التسليم في وصف حالات المرأة بشذوذه وغرابته في عين الراوي. ها هو إبراهيم يتقبل غموض العالم إذن. هو الحلم الوحشي يتجسد في الحقيقية نهما وعاشقا وعدائيا ومجرما أيضا. مع صور المرأة يتصالح إبراهيم مع الغرابة ويترك لها أن تبتعله وأن تدهشه وأن تتولى زمام المبادرة كاملا.
مهمة الكتابة في مجتمع معرض للانهيار قد لاتكون إبداع عالم جديد بقدر الحفاظ على قيمة تتبدد. لكن هذا بحد ذاته يخلق إشكالات من نوع آخر، إشكالات تقسيم العالم إلى مبددي تراث الانسانية والمحافظين عليه، النور والظلمة، ظاهر الأرض وباطنها، قبضات الأصوليين، و”أنامل الحرير”
الرؤية الكابوسية تعود في “معبد أنامل الحرير” مع تولي محمد مرسي وجماعة الأخوان الحكم (أعتقد أن الرواية كتبت في هذا التوقيت). وكما كنا في “أبناء الجبلاوي” أمام عالمين يختلط فيهما الروائي بالواقعي. نتابع هنا أيضا عالمين أحدهما يتسيد الأرض الرقابة والعنف والانتهازية والصمت، وآخر يعيش في انفاق مع الأنماط الفريدة للحياة. لكن هذه المرة لا يدور الأمر في إطاره المحلي فحسب، فالقصة “المحلية” إذا صح التعبير تدور هي نفسها في إطار حكاية أكبر تربط بين أشكال الفساد والاقصاء والجريمة في علاقة عالمي الشمال والجنوب.
لا أريد أن أتحدث باستفاضة عن الرواية هنا فلهذا موضع آخر. لكن ما ما يجيب الالتفات إليه في إطار خبرة “الربيع العربي” هو كم أن حركة التاريخ لم تعد مرتهنة أو محجوزة بإطار محلي، وأن القوى التي فشلت في تحقيق الثورة كانت الأبعد عن فهم تشابكات هذا الوضع المعقد والمربك. بينما جماعات السلطة من الاخوان أو السلطة التقليدية للدولة ذات الطابع البيروقراطي العسكري كانت الأقريب لفهم هذه التشابكات.
لا أعرف إن كان من الموفق أن تجعل “رواية” هي التي تحكي الأحداث الخارجة عنها. أعني أن تصبح الرواية راويا ليس لما يدور فيها من أحداث بل ما يدور خارجها كأنها تملك وعيا مستقلا. لكن الخطة مفهومة: الكتابة هي المنقذ، أو هو العالم الحقيقي الذي يستحق أن يتكلم، عوضا عن عالم تكلس وأصبح هو نفسه مجرد فصل في رواية.