أبناء الجبلاوي المتخيل المحفوظي كواقع روائي

أبناء الجبلاوي المتخيل المحفوظي كواقع روائي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

1

"المتخيل" المحفوظي، هو واقع رواية "أبناء الجبلاوي" لإبراهيم فرغلي (دار العين، القاهرة). المتخيل أيضاً، هو البطل هنا، وليس "محفوظ " نفسه، الواقعي أو الأقرب للواقع، الذي يملك أغلبنا تصوراً واقعيا مقبولا عنه ، خاصة و أنه كان بيننا إلى وقت قريب . على جانب آخر ، فإن " ما فوق المتخيل " نفسه فيما يخص الذوات الروائية في " أبناء الجبلاوي " حاضر .قانون لعبة الرواية يحاك أمامك مرة تلو أخرى ، كأنك ترى الرواية ــ أو سيرتها ــ لحظة صنعها . في لحظة تتجاور الذوات " الفنية " ، كونها من أصل واحد .. فيلتقي " كبرياء " بـ " رادوبيس " ــ ابنة سلالته في الفن الروائي ــ بينما لا يلتقي " كاتب الكاشف " مثلاً بـ " محفوظ " ــ رغم أنه ابن سلالته في سياق صناع الفن  ذاته ! تلتقي هذه الذوات وفق " واقع " الرواية ،و شروط الخيال ، فكلها شخصيات من ورق .. و رغم ذلك ، تدهشك كمتلقٍ  ، كأنها يجب ألا تلتقي ، و كأنها تحولت إلى كائنات واقعية بشروط الواقع المحدودة و نسبيته المتفق عليها!

إنها مغامرة سردية متسعة تجسدت فيما يقرب من خمسمائة صفحة . مغامرة توفرت لها ــ فيما أظن ــ أغلب المقومات التي تحتاجها رواية مختلفة : فكرة مدهشة ، تقوم على فرضية غير معقولة ، يتكفل الأداء السردي بمنحها معقوليتها المبتغاة ..أصوات تتناوب السرد ، تتبادل زوايا الرؤية فيه و تشتجر حوله ، تهدمه و تعيد بناءه مرة تلو أخرى .. أفكار مشبعة بالفلسفة و بمساءلة الوجود .. و فضلاً عن كل ذلك : هناك سؤال الكتابة نفسه ، المدوخ المحير ،  في تجرده و تعريه .    عالم لا معقول ، يقدمه ” ابراهيم فرغلي ” بحرفية ، و لاتفلت منه اللعبة رغم اتساع رقعتها و تكاثر خيوطها .

2

   لنجرب العبور إلى هذه الرواية عبر عتبة أولية ، هي الصفة النوعية التي رآها ” إبراهيم فرغلي ” الأنسب لتدل على عمله : سيرة رواية .

. نحن إذن حيال سرد على سرد ، لاحق يستحضر سالفاً . و بهذا المنطق ، فإن أبناء الجبلاوي  تنتمي لل ” ميتا فيكشن ” .

    إذا اتفقنا أن سيرة شخص هي حياته بعد نهايتها ، عقب اكتمالها ، فإن سيرة رواية ما تكون حياة رواية انتهت بالفعل ، تمت و اكتملت بحياتها و فنائها ..فهل ” أبناء الجبلاوي ” وفق هذا المنطق حكي يستحضر نصاً غائباً ؟ نصا اكتملت حياته قبل ذلك و تستعاد الآن ؟ .بشكل ما ، أرى أن الإجابة : نعم .هذه سيرة رواية ، حكي متحقق على حكي متحقق قبلاً ، ربما يكون حكي ” محفوظ ” و سيرة شخوصه . . وربما يكون حكياً ما أتمه ” فرغلى ” نفسه وشاء أن يسرد سيرته .أبناء الجبلاوي سيرة تسرد حياة رواية أسبق ، بقدر ماهي رواية آنية ، تحققت تواً .تحيل الرواية ــ في مغامرة كبرى ــ الواقع الافتراضي ، ممثلاً في كتب نجيب محفوظ و شخصياته الروائية ، إلى واقع حقيقي .. في الوقت نفسه الذي تحول فيه ما يفترض أنه الواقع ، بمنطق المحاكاة ، إلى فرضية . إن شخصيات محفوظ في النص تتجسد ، و يصير حضورها أقوى من حضور كبرياء و نجوى وجيسيكا و كاتب الكاشف و كافة الشخصيات  التي تمثل “واقع ” هذا النص ، حتى و إن اعترفنا أنه افتراضي بدوره . لعبة صعبة ، مركبة ، و مجهدة ، أن يتنامى الوهم و يتعملق في رواية ليصير الحقيقة .. و في المقابل ، تخفت الحقيقة فاقدة عنصر حياتها الوحيد ، بالمنطق المحاكاتي ، المبتذل في ظني في الحقيقة ، و هو المصداقية .

    لعبة معقدة ، يديرها أداء سردي لا يقل تعقيداً . عبر أربعة أجزاء ، مقسمة بدورها لأقسام ، مقسمة لوحدات مرقمة تصل إلى 83 وحدة في إجمالها .لست بحاجة إلى أن أقول ، إن محاولة تلخيص عمل مثل ” أبناء الجبلاوي ” ضرب من الانتحار ..ليس فقط للثراء الشديد في الأحداث ، لكن أيضاً لأن كل صوت يتولى السرد ، مستلماً إياه من سابقه ، يعيد كتابة مجمل الوقائع و يضيف إليها بشكل مختلف ، يجعل لا وجود لواقعة أكيدة .

    يسرد ” كبرياء ” شطراً ، نتعرف فيه بشكل أساسي على طبيعة علاقة غرائبية تربطه ب ”  رفيق فهمي ” نزيل دار المسنين ، الذي يتولى كبرياء كتابة مذكراته ، و الذي نعرف أنه منحه اسمه بعد قصة تيتم غريبة . . و كذلك ب نجوى حبيبته غريبة الاطوار . في القسم نفسه نعرف طبيعة عمل كبرياء ، و تنطلق واقعة اختفاء كتب محفوظ . إنه قسم تأسيسي ، ينتقل بعده السرد لراو غرائبي ، هو ” قرين كبرياء ” ، الذي يتقدم بالسرد للأمام ، لتتسلمه منه ” قرينة نجوى ” .قبل أن نتعرف على شيطان كتابة غرائبي يحيل ل “كاتب الكاشف ” مؤلف الرواية التي يفترض أن كبرياء بطلها ، إنها لعبة سرد مدوخة ، تيه من الأشخاص و أطياف الأشخاص تتبادل المواقع . رواية تكتب في كل مرة من جديد ،يسطو عليها في كل مرة راو مختلف ، لنكتشف في النهاية أننا ، و بقدر مانحن أمام رواية ” متعدية ” لجسدها ، و متجاوزة ــ حتى ــ لشروط وجودها ، فإننا في الوقت ذاته أمام رواية لم تكتب بعد .

3

    إن تسليم و تسلم الحكي يبدو إحدى المغامرات الجوهرية في هذه الجدارية ، و يبدو ــ كما يقدمه النص نفسه في غير موضع ــ فعلاً لصيقاً بفكرة ” السلطة ” . يؤكد ” قرين ” كبرياء : ” قراري هذا يبدو مشبوهاً باغتصاب سلطة ليست من حقي ، هي هنا سلطة السرد ، و هذا صحيح إلى حد ما . لكني ، بأمانة ، لا أعتبر نفسي مغتصباً لسلطة ، أي أن المسألة لم يسبقها صراع بيني و بين صاحب حق السرد الأصلي . كما أنني لم أقم بانقلاب ثوري لانتزاع هذه السلطة . تم ذلك بشكل ، أظنه ، أقرب ما يكون لانتقال سلمي للسلطة ” ص 89 ، 90 . ثم يجيء انتقال آخر للسلطة ، ليدي قرينة ” نجوى ” ، التي ، لا تنقض فقط صور قرين كبرياء للسلطة ، بل تنقض ما شيده من سرد ” لن أعتذر عما فعلت ، فبوصفي قرينة نجوى كان علي أن أتسلم ناصية السرد من قرين كبرياء ، و لن أستخدم كلمات كبيرة كالتي يستخدمها هو مثل استيلاء أو انتقال سلطة السرد ، و غير تلك المعاني الكبيرة . كنت أستمع إلى مغالطاته ، و أكتم غيظي ، على أمل أن يعود إلى صوابه ” ص  135 . ثم يجيء ” شيطان كتابة ” لينقض بدوره كل السابق .. بعدها ننتقل من جديد لحكاية كبرياء في مسار يشبه المسار الذي بدأت عليه ، عبر راو ، يديره كاتب الكاشف .

    التأكيد على الانتقال ” السلمي ” من راو لآخر إنما هو في الحقيقة تأكيد على احتمالية الفرضية النقيضة : ألا ينتقل السرد إلا بإراقة الدماء ، و بانقلاب غير مأمون العواقب . ديمقراطية السرد ، تحضر هنا ــ ممثلة في تناوب السلطة ــ مقابل ديكتاتورياته الكثيرة ، و إقطاعياته المعدة سلفاً .

 نحن أيضاً أمام ” ألف ليلة و ليلة بامتياز ” ،وهي نفسها نص كبير  تناص معه ” محفوظ ” طويلا في عدة أعمال ، أسمى أحدها ” ليالي ألف ليلة ” . الحكاية الإطار ، التي رغم وجودها الأولي الكثيف ، و حلولها في الصدارة ، ليست إلا تكئة لسرد قادم من رحمها ، يعود إليها في كل مرة ، فقط لالتقاط الأنفاس ، قبل أن يواصل توالده الذاتي . هذا بالضبط ما تقدمه لنا قصة ” كبرياء ” المبتسرة التي تفتتح العمل ،لتسمح ببقية الأصوات بالظهور ، و إعادة سرد الحكاية ، أو التعريج على حكايات أخرى .. نعود لكبرياء و نجوى ، لرفيق ، لنغادرهم . و كلما ابتعد الإطار اشتد وجود الحكاية الكبرى ــ التي لا تُصدَّق ــ و التي تتحلق حول اختفاء كتب محفوظ من جهة ، بالتزامن مع ظهور شخصياته ، متجسدة ، من جهة أخرى .

4

    لنتأمل هذا الخيط قليلاً . تختفي روايات ” محفوظ ” لتظهر شخصياته . تتحول الشخصيات الخيالية إلى شخصيات واقعية ، عندما يختفي ” الدليل ” الوحيد على كونها شخصيات تنتمي فقط للمخيلة . و كلما تغلغل خبر اختفاء الأعمال ، و صار أكثر قابلية للتصديق ، على استحالته ، كلما ظهرت شخصيات جديدة ، ومضت في الشوارع ، مستعيرة من الذوات الإنسانية وجودها البشري . بالمقابل ، و بنفس المنطق ، كلما اختفى الرواة ، و كذلك ” كاتب الكاشف ” توهج وجود أبطالهم ، كبرياء و نجوى … الخ .. و كلما زاد حضورهم ، و حضرت سطوتهم ،خفتت شخصياتهم ، بل و اختفت . إنها إيديولوجيا لا يمكن ــ في ظني ــ العبور عليها دون تأمل . ايديولوجيا تتسق و كلام المؤلف الواقعي ” إبراهيم فرغلي ” ، الذي وضعه كتعقيب في نهاية العمل : ” إنه كاتب الفلسفة المتكئة على شخصيات تسير بها و تطوف .. ” . الفلسفة التي تتكيء على شخصياتها ، أي أنها أسبق ،و ليس العكس . إذا اختفت الفلسفة ، و الفنيات ، تعود الشخصيات لواقعيتها ، تفقد فنيتها ، و كثافتها ، لتتمتع ب ” عادية ” الشخصية الواقعية ، و من ثم حتمية فنائها .

    ثمة توازٍ هنا ، بين مفارقة كتب محفوظ و شخوصه ، و مفارقة رواية كاتب الكاشف و شخوصه . يهيأ لك أن الشخصيات ــ كما لو في سياق كارتوني ــ هربت من الكتب لتتنزه .سيحضر بالفعل ” السيد أحمد عبد الجواد ” و ” رادوبيس ” في علاقات مع “كبرياء ” ، و ستحضر شخصيات أخرى لتنضم لرواية أخرى ، هي الرواية التي نقرأها الآن ، كاللاعب الذي يقبل بإعارته لناد بعدما فقد ناديه فجأة ! .

 المعمار ــ و هو هنا هائل متشعب ــ يشبه المتاهة .. كل الطرق تصلح للدخول و الخروج . و هو يتسق مع التعددية الصوتية ، و المفارقة بين الماثل و الخفي .

    ثمة نقض ــ في البنية المجردة للرواية ــ للمركز الذي تنجذب نحوه الأطراف و تلتم في مداره .

    إن سؤالاً جوهرياً يكمن هنا : أي “مركز ” ، أية “نواة ” صلبة ثابتة يمكن أن يدور في فلكها النص ؟ هنا ، نواجه نص ” تفكيك ” بامتياز .. حيث لا دوال تحيل إلى عالم جاهز وراءها ، لا شخوص يمكن فضها و تلخيص أدوارها .إنها ــ من جديد ــ سيرة الرواية ، الأبعد من ” الرواية ” ك ” شفرة ” مؤقتة ينتهي فضها دلالياً بالانتهاء من تلقيها . سيرة الرواية ، هي ” اجتهاد ” لقراءة الرواية عبر الكتابة ، ليبقى الاحتمال قائماً لكتابات لا منتهية .

    بتعدد الرواة ، تتعدد المراكز . الرواة أنفسهم يتألبون على طبيعة الراوي المتفق عليها ، فعدد منهم وجوده شبحي ، ميتافيزيقي بالأساس .يتجاور الراوي ، الذي تفترض معقولية وجوده الاتفاقية ، مع الراوي غير القابل للوجود المتجسد .فقط ، قد نتمكن من تحديد ماهية ” المؤلف الضمني ” ، الذي يستعيد ال” وهم ” المحفوظي ك ” واقع ” جديد . هذه البوليفونية من الأصوات الساردة ، لا تختلف فقط في وجهات النظر ، بل ، بالأساس ، في طبيعتها من فيزيقي لماورائي .. و هي تجربة أظنها الأولى في الرواية العربية .

    إنه معمار لبنته مواد متنافرة ظاهرياً ، غير أنها تقوم معاً بمنطق ” التوليف ” الذي يجعل الفصل بينها في النهاية ، مستحيلاً .

    الزمن سؤال آخر . زمن السرد في تقطعاته غير المنتهية ، و زمن الواقع .هناك  زمن الرواية التي تسرد ” كبرياء ” و شخوص حكايته ، الذي يتقطع ، وفق ” نسبية ” الرواة ، بحيث نتأمل اللحظة ذاتها من عدة وجهات نظر . هناك أيضاً زمن الحكاية الموازية ، التي تخص اختفاء أعمال محفوظ ، و هو أشد سيولة في تحققه المضطرد ، رغم أن تمليه يأتي  داخل الرواية نفسها ، كونها جزءاً منها بالأساس . إنه لعب شديد الصعوبة بالزمن ، بالتعامل بأكثر من منطق حيال ” زمنية ” نص ، بالتمكن من فصل وقائعه للتعامل مع كل منها وفق تقنية زمنية مستقلة .. و هو أحد وجوه إدهاش ” أبناء الجبلاوي ” و فرادتها .

    لا يقف طموح ” أبناء الجبلاوي ” عند هذا الحد ، فهي تبدو ــ في رهان فني آخر شديد الجموح ،  لايقل صعوبة ــ عصية حتى على منحك مزاجاً عاماً يمكنك أن تخلق وفقه آليات ثابتة لقراءتك . إنها توفق بين الثقل و الخفة ، الدراما الأرسطية في موضع و الميلودراما الهشة ــ بقصدية ــ في موضع آخر ، التهكم العابث المعتد بالخفة ، و التفلسف الجاد المشدود للثقل .. الإيهام الكامل ، و كسر الإيهام بكل قسوة . كل انحرافة في ” أبناء الجبلاوي ” تبدو صدمة جديدة غير متوقعة ، غير ممهد لها ، إنها رواية “تلقي ” تخاصم القاريء المتسق ، و تدير ظهرها ــ بقسوة ــ للراغب في شروط تؤسس من البداية لقراءته بالكامل .هذه ” الوعورة ” ، و هو اللفظ الذي أشعر به الأنسب لوصف تضاريس الرواية ، تخاصم ، فيما أظن ، التلقي ” الشعوري ” ، كونها تستبعد ” الانسجام ” ــ كقيمة حداثية ــ لصالح عدم الانسجام كخصيصة ما بعد حداثية بامتياز . في أبناء الجبلاوي ثمة ذهنية المعمار ، ذهنية تحكم حتى ما يبدو مرتجلاً وليد الإلهام . حتى الانحناءات البسيطة ، أو النتوءات التي تبدو غير منسجمة ، هي جزء من لحمة الجسد الشاسع ، من صنعته ، ومن قلق بنيته المقصود .

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم