لم يكن غونتر غراس أديبا عالميا فقط، وإنما مفكر إنساني ومناضل سياسي من أرقى طراز. فقد وقف مرارا وتكرارا ضد السياسة الأميركية، مثلا. كما ووقف ضد السياسة التركية التي أرادت محاكمة الكاتب الشهير أورخان باموق عام 2005 بتهمة النيل من الهوية القومية لتركيا. وكان ذلك بعد أن نشر مقالة اعترف فيها بمسؤولية بلاده عن المجازر ضد الأكراد وكذلك مسؤوليتها عن مجزرة الإبادة الجماعية ضد الأرمن. وهي التي حصلت عام 1915 أي قبل مائة سنة بالضبط. ومعلوم أن بابا روما أثار عاصفة من الغضب في تركيا أخيرا عندما اعترف بهذه المجزرة الكبرى واعتبرها أول مجزرة للإبادة الجماعية في القرن العشرين. ولكن الحكومة التركية ترفض الاعتراف بذلك حتى الآن، بل وتعتبر ما حصل آنذاك بمثابة حرب أهلية فقط! لحسن الحظ فإن الصحافيين والمثقفين الأتراك المستنيرين ابتدأوا يتحركون ويدعون للاعتراف بها بل والاعتذار من الأرمن ولو بشكل متأخر. وقد تجاوزت توقيعاتهم على الإنترنت عشرات الألوف.. شكرا للتنوير التركي فهو قادم لا ريب فيه!
هذا من جهة. وأما من جهة أخرى، فعندما اندلعت قضية الرسوم الكاريكاتورية السيئة الذكر عام 2006، فإن غونتر غراس وقف إلى جانب المسلمين وندد حرفيا بعنجهية الغرب واحتقاره الضمني أو الصريح للثقافة الإسلامية. وبالتالي، فالرجل يقف مع الحق حيثما وجده لا يفرق بين شرق وغرب. وهذا موقف من النادر أن يتخذه مثقف أوروبي في مثل حجمه وأهميته. فأغلبيتهم هاجت على الإسلام والمسلمين بحجة حرية التعبير، وهي كلمة حق أريد بها باطل. وبالتالي فيحسب له أنه وقف ضد موقف القطيع والجموع؛ أي ضد موقف أمته وقوميته وعصبيته. وهنا يكمن المعيار الذي لا يخطئ على الفرق بين الكاتب الكبير والكتاب الصغار المؤدلجين، فالكاتب الكبير هو وحده القادر على أن يقف ضد جماعته أو ضد التيار العام إذا لزم الأمر، أما البقية فيجرفهم التيار زرافات ووحدانا. وقد كلفته مواقفه السياسية متاعب حقيقية في أغلب الأحيان. واتهموه بالمشاغب والعرضة للجدل.. إلخ، وحاولوا تشويه سمعته.
في عام 1999 هاجم الرأسمالية الجديدة أثناء مناظرة تلفزيونية مع عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو، وقال: وحدها الدولة الديمقراطية الاشتراكية يمكنها أن تضمن العدالة الاجتماعية والاقتصادية لمواطنيها.
وهذا هو موقف بيير بورديو أيضا الذي شن حملة شعواء على الدول الغربية الغنية التي تسمح بوجود بؤر كبيرة للبؤس والفقر المدقع الذي يشمل شرائح واسعة من السكان. وليسوا كلهم من المغتربين العرب والأفارقة البائسين، وإنما بينهم فرنسيون أصليون كثيرون. في تلك المناظرة الهامة دعا غونتر غراس إلى إعادة فتح النقاش حول الفلسفة الكونية وحوار الثقافات اللذين ورثناهما عن عصر الأنوار.
لقد أراد هذا الكاتب الألماني الكبير دائما الدفاع عن المضطهدين والمعذبين في الأرض.
فمثلا وقف إلى جانب الشعب الفلسطيني المقهور والمقموع من قبل الحركة الصهيونية العالمية. وهاجم مرات كثيرة سياسات الحكومات الإسرائيلية ذات الطابع العدواني والحربي عموما. ومعلوم أنه أصدر في 4 أبريل (نيسان) من عام 2012 أي قبل 3 سنوات بالضبط قصيدة نثرية في إحدى جرائد ميونيخ. وكانت بعنوان «ما ينبغي أن يقال». وفيها يتهم إسرائيل صراحة بأنها دولة تهدد السلام العالمي، وقد أدى ذلك إلى إثارة فضيحة ضخمة، وكذلك عاصفة من ردود الفعل الهائجة ضده. كيف يتجرأ على نقد إسرائيل قدس الأقداس في الغرب العظيم؟! هل هو مجنون؟ من يتجرأ على ذلك لم تلده أمه بعد. ومع ذلك فهذا ما حصل. ذلك أن غونتر غراس كاتب شرس وعنيد من أجل الحق. ولا تأخذه في ذلك لومة لائم، يضاف إلى ذلك أنه قد يمكن لجميع كتاب العالم أن ينتقدوا إسرائيل ما عدا كاتب واحد، هو الكاتب الألماني. فبسبب عقدة النازية والمحرقة اليهودية، فإنه مضطر لاتخاذ موقف واحد تجاه الصهاينة: الانبطاح الكامل.
وهذا ما رفضه غونتر غراس بالطبع، فإن تهمة معاداة السامية كانت جاهزة لكي تلصق به فورا، ولكن ما همه إذا كانت الحقيقة وحدها هي أفقه وديدنه ومعبودته؟ هناك أناس مغرمون بالحقيقة وكأنها عشيقة، هؤلاء لا دواء لهم ولا علاج، إنهم مستعدون لأن يضحوا بطمأنينتهم وأحيانا بأنفسهم من أجل سواد عيونها، من بين هؤلاء غونتر غراس العظيم الذي رحل قبل يومين.
والواقع أنه في ذات القصيدة يقول بأنه طالما سكت على فظاعات إسرائيل خوفا من أن ينعت بمعاداة السامية، ولكن طفح الكيل. فيما بعد تأسف، لأن نقده شمل إسرائيل بشكل عام، وليس فقط سياسة حكومتها. ولكن ذلك لم ينفعه كثيرا ولم يشفع له عند برنار هنري ليفي الذي يدافع عن المضطهدين في شتى أنحاء العالم ما عدا في فلسطين. فقد انقض عليه كالصقر الجارح واتهمه بأنه رائد نوع جديد من معاداة السامية لم يسمع به بشر قط حتى الآن. وما هو يا ترى؟ إنه رائد معاداة السامية الجديدة المكبوتة! فافهم إذا كنت قادرا على الفهم!
لحسن الحظ فقد تصدى لليفي مفكر آخر هو الفيلسوف اليهودي المحترم دانييل سلفاتور شيفر الذي دعا إلى التفريق بين شيئين منفصلين تماما هما: معاداة الصهيونية، ومعاداة السامية. هل تسمعون به؟ حتما لا. إنه مؤلف كتاب: «نقد الجنون الخالص» الذي انقض فيه انقضاضا رهيبا على برنار هنري ليفي فهشمه تهشيما كاشفا عن نواقص ثقافته الفلسفية إن لم أقل هشاشتها. أنا الآن بصدد قراءته للمرة الثانية أو الثالثة حيث أكاد أموت من الضحك في كل مرة. أتذكر أني ابتدأت بقراءته في الطائرة أثناء إحدى عوداتي المتكررة من فرنسا إلى المغرب قبل بضع سنوات. لكن لنعد إلى غونتر غراس ووقوعه في المغطس الذي لا مخرج منه. فقد وصلت الحملة الهوجاء عليه إلى أبواب أكاديمية نوبل في عرينها باستوكهولم في السويد. وطالب الغوغائيون أعضاء الأكاديمية بسحب جائزة نوبل فورا من هذا الشخص المجرم وربما النازي الجديد المعادي للسامية. فرفضت الأكاديمية الموقرة قائلة: بحياتنا كلها لم نسحب الجائزة من أي شخص منحت له سابقا. هذا شيء لم يحصل في الماضي حتى الآن. ولا نريد إحداث بدعة أو سابقة جديدة.
يضاف إلى ذلك أننا منحناها له ككاتب كبير أي لعبقريته الأدبية وليس لآرائه السياسية. نقطة على السطر. من المعلوم أنهم عندما منحوه الجائزة الشهيرة عام 1999 برروا ذلك عن طريق القول بأنه أحد رجالات الأنوار في وقت تعبت فيه أوروبا من العقل والأنوار.
وهذا كلام جميل جدا ودقيق ويدل على مدى العمق الثقافي بل والفلسفي لأعضاء الأكاديمية الذين يتهمهم البعض بالجهل والشيخوخة! لنتذكر عنجهية جان بول سارتر وهجومه عليهم أيام زمان بعد أن منحوه الجائزة ورفضها. ثم أضافوا: «لقد منحناه إياها لأنه كاتب فريد من نوعه: فهو يقف دائما إلى جانب الضحايا والخاسرين في التاريخ. بربكم: أليس ذلك رائعا؟ من يستطيع أن يقول أفضل من ذلك؟ تحية لغونتر غراس كاتبا ضخما ومفكرا جريئا لا يشق له غبار.