تأخذ الحياة هنا شكلاً آخر؛ حيث الواحة كائن حي، لديه القدرة على إشعال جذوة النار داخلك، أو قُل هي كتابٌ مرَّ زمنٌ طويلٌ منذ قراءته للمرة الأولى، وبرغم ذلك الغبار المتراكم على غلافه القوي إلا إنه لم يفقد طاقته الموحية، وأعتقد أنه لن يفعل، لأن ذلك الضوء الناعم، الكامن بين دفتيه سوف يسحبك بين دروبه، وفي ظلال نخيله دون أن تنتبه. سترى آثار أقدامك منقوشة على صفحة الرمال البيضاء، بينما ترفرف روحك حُرَّة، خفيفة كريشة طائر، وما إن تتعمق رائحتها في قاع رئتيك؛ ستعرف وقتذاك لماذا قصدتَ تلك البقاع تحديدًا.. أنت هنا الآن، حيث لا أسوار ولا ضجيج، ولا نهاية لشيء.
ربما تنتابك الحيرة، بعد أن تنجو من معترك مدينتك المزدحمة: أنهارٌ من البشر لا تنقطع عن الجريان، وأفواجٌ لا نهاية لها من المركبات والدخان والضجيج، وتلال من الاحتيال واللصُوصيَّة والزيف والقهر. في مدينتك، يبدو الإنسان تِرسًا صغيرًا في آلة ضخمة، إذا ما توقف يوماً عن الدوران فإنها النهاية؛ سيُقذف به بعيداً، ليحل محله ترس لم تتحطم أسنانه بعد، ترس أشد بأسًا، يستطيع أن يستمر في الطحن دون أن يتوقف ليسأل: لماذا؟ وأين؟ هكذا ترسل المدينة أبناءها العَجَزَة إلى سلة القمامة، دونما شفقةٍ أو اعترافٍ بالجميل، ستترك ذلك الضجيج لتسقط في بحيرة من الصفاء والسكون. تفتح الواحات ذراعيها بكل طمأنينة لكل مقيم وعابر. ثمة ثلاث واحات تشملها محافظة الوادي الجديد التي توازي وادي النيل بخط طوليّ متعرج من الجنوب إلى الشمال حيث تمتد حدودها الواسعة فيما يقارب ثلثي مساحة الصحراء الغربية بينما لا يسكنها سوى ما يقرب من مائتي ألف نسمة يتوزعون بين واحاتها الثلاث: الداخلة والخارجة والفرافرة. في تلك البقاع عاش الإنسان، منذ تاريخ ضارب في القدم يمتد لأكثر من سبعة آلاف عام قبل الميلاد، تاركًا آثارا تدل عليه.
إنها – بلا شك- المرة الأولى التي تقطع فيها كل تلك المسافة متجها نحو الجنوب.. بعد أن تترك محافظة أسيوط وراء ظهرك، سوف تولي وجهك نحو الجنوب الغربيّ؛ حيث الصحراء. ربما تنقضي ثلاث ساعات دون أن ترى حياة: لا شيء سوى أراضٍ منبسطة قاحلة، تضربها الشمس وتسلخ وجهها الريح؛ كثبان رملية صفراء هلالية الشكل أو طولية، تلمع حبيباتها عندما تنعكس عليها أشعة الشمس، رؤوس جبلية صغيرة وصخور سوداء متناثرة هنا وهناك في براح لا يحتويه بصر. إنها الصحراء باتساعها المخيف، لا تنتهي إلا عند خط الأفق حيث تبدو السماء منطبقة على الأرض، تاركة خطا حادا متوهجا يُذكِّرُكَ بأن ثمة نهاية محتومة لكل كائن حي يتنفس على سطح البسيطة.. أمَا من أمل يبشر ببدايات حياة؟ أين العمران؟ أين تلك الخُضرة الرحيبة التي تتغنون بها؟ سوف تدور تلك الأسئلة في رأسك بينما تنظر من نافذة الحافلة إلى الصحراء التي لا تريد أن تنتهي. لا تقلق، فقبل أن يتمكن منك اليأس وتعتقد أنك – ومن معك- قد ضللت الطريق، ستراها أمامك؛ بقعة خضراء صغيرة وسط بحر متلاطم من الرمال والصخور. لابد وأنك ستتنفس الصعداء وتجلس في مقعدك مطمئنّا وأنت ترى المساحات الخضراء تتسع كلما اقتربتَ، وتعاين بنفسك كثافة غابات النخل المترامية على أطراف الزراعات؛ تحرسها وتصد عنها هجمات الرمال. تظهر البيوت في البعيد، بينما تزداد المساحات الخضراء اتساعًا وتنفلت- رغمًا عنها- قبضة الصحراء متقهقرة حتى حافة الهضبة التي لا تفتأ تتباعد. السماء زرقاء صافية في كل مكان، لا تختفي عن البصر أينما حل وأينما ارتحل.. تأمل إذن؛ لا يوجد جمال أكثر بهاء وروعة من إبداع الخالق مهما اجتهد المجتهدون. كيف تستطيع القصور والمتاحف، والنوافير والحدائق التي يصنعها البشر أن تواجه هذا الصفاء الساكن؟ هذا الجمال الممتد الذي يتوغل في النفوس إلى أقصى مدى؟ أنت ترى الآن امتداد بساتين النخل، وهج النار في المواقد الطينية ونعي السواقي، صوت ارتطام مناجل الرجال بعيدان القمح الجافة وقت الحصاد. تسمع صوت تنفس الريح بين أفرع الأشجار. ترتفع أمام ناظريك البيوت المطمورة؛ تنهض من تحت الرمال وتمثُل أمامك. تسمع بكاء أطفال وقهقهة شباب وسعال عجائز.
تلك هي الواحة التي تشبثنا بترابها.. انظر إلى ناسها الطيبين الذين تتسع ابتساماتهم وتعلو ضحكاتهم وتصفو ملامحهم، بينما يجتهدون في بنائها؛ في بناء ثقافتها التي ارتكزت على حكمتهم، في الإبداع الخالص المتمثل في المثل، في الأغنية والموَّال حين يفرحون، في “العدودة” المرويّة بالحزن، المشبعة بخلاصة تجربة الحياة وحكمتها.. لقد ساهم جوّ الواحة وهدوء المكان وعزلته في جوف الصحراء في إبداع تلك الثقافة الشعبية التي أجمع كثيرون على أنها نقية، متميزة وفطرية. ذلك النقاء الذي ورثه مبدعوها الشباب فأنتجوا نصوصا إبداعية لا تشبه غيرها محاولين إعادة الزمن الذي تسرب من بين أيدي آبائهم وذهب إلى غير رجعة.
يظهر – بالتدريج- المنحدر الوعر لحافة الهضبة، عند منطقة النقب، حيث تنسكب مقدمة الحافلة للأمام فيظهر، في الأسفل، المنخفض الكبير للواحات بأرضه المستوية التي تنبُت فيها رءوس صخرية تتخذ أشكال حيوانات ضخمة، بينما يخترقه إسفلت الطريق متلويا كثعبان أسود طويل يمتد صاعدا وهابطا، حتى يحط رحاله في بطن المنخفض فيسير معتدلا تارة أو ملتفا حول جزيرة ضخمة من الرمال في أحيان أخرى. يشعر المسافر بخطورة الطريق في منطقة النقب. إنه المنفذ الوحيد، الذي تم نقبه في حافة الهضبة، للولوج إلى أرض الواحات أو الخروج منها. تم نقبه منذ زمن، ثم تم تعديله بعد ذلك ليصبح أكثر أمنًا. يدور الطريق على نفسه كل مئة خطوة، بينما يهبط في قسوة نحو هوة المنخفض وهو يشق – في انحداره والتوائه- بعض القمم الجبلية التي تتدرج في انحدارها نحو العمق.
ربما لم تسمع من قبل عن منطقة النقب، ولم تدر كيف هي الحكايات التي تناقلها الأبناء عن الآباء والأجداد الذين مروا من هنا ذات يوم، صاعدين الهضبة إلى القاهرة أو هابطين منها في طريق عودتهم إلى مسقط رؤوسهم. ما الذي يمكن أن يعتريك، وما الأفكار التي ستدور برأسك، وما الحكمة التي ستخرج بها من موقف كهذا؟ قال الأجداد إن تجربة واحدة تمر بها قد تجيبك عن مئات الأسئلة التي تؤرقك. لذا كانت قسوة الحياة في تلك الواحات وقصر ذات اليد وندرة المياه، وقلة الأقوات، كانت دافعًا في ابتكار أساليب مبدعة لمعيشتهم وطرقهم في التغلب على حاجات الحياة ، في فرادة طقوسهم الاجتماعية الخاصة وممارساتهم المتميزة في الشدائد وفي الأفراح، ناهيك عن ذلك التكوين الفريد للواحة في جوف تلك البيداء المقفرة، وعزلتها المكانية عما جاورها من مناطق مأهولة بالسكان إن كان ثمة عمران يجاورها- ساهم كل ذلك في نمو وتراكم ثقافة مختلفة عن ثقافة وادي النيل، رغم تلك الهجرات المتفرقة والمتباعدة زمنيا من وادي النيل وبلاد المغرب العربي إلى الواحة. تلك الهجرات الطفيفة اختلطت بسكان الواحات وذابت فيهم وتشربت بطباعهم وعاداتهم، فأنتج ذلك المزيج ثقافة لها طابعها المميز؛ فالتراث الثقافيّ في الواحات هو نتاج التكيف والتوازن “الأيكولوجي” الذي هو نتاج المعطيات السابق ذكرها.
يبدو المنخفض مثل طبق كبير ذو حواف غير مستوية، ترتفع في الجهتين الشرقية والشمالية ثم تنخفض تدريجياً في الغرب حتى تنعدم حافته تماماً في جهة الجنوب، وفي تلك المساحات الشاسعة، وبعد أن تكون قد يئست وأجهدتَ تمامًا من طول الطريق تفاجئك واحات صغيرة متناثرة حول مياه الآبار والعيون، تقتحم مجال رؤيتك بأخضرها وبهائها، وتزدهر مثل قطعة مُبهجة نزلت من الفردوس.. عندما تظهر واحتك المرجوّة تلك، تكون بالفعل قد أعدتَ إنتاج واحدة من تلك الأساطير القديمة التي تزخر بها الواحات – وما أكثرها- وأهمها جميعا هي المدينة المسحورة التي لا تظهر إلا لمن يضل السبيل في الصحراء. لقد ظلت “الواحة المخفية” مصدر إلهام لكتابٍ كثيرين، فظهرت في كتب الرحالة والمستكشفين العرب، وكذا في إبداعات روائية أجنبية كما في رواية الكاتب مايكل أونداتجي: المريض الإنجليزي أو “الواحة المفقودة” لمؤلفها ” بول سوسمان”. تدور الأسطورة حول واحة تظهر للتائهين؛ ينهلون من خيرها فإذا ما رجعوا لديارهم حكوا عنها وأعادوا الكرَّة إليها بأهليهم فما وجدوا لها أثرًا.. أما أنا، فقد أخبرتني جدتي عن تلك المدينة المسحورة التي بُنيت لبنات أسوارها الدائرية من ذهب وفضة. ينابيعها فياضة أبدا وثمار أشجارها أضعاف حجم الثمار التي اعتدناها وفيها من الكنوز ما لا تستطيع حمله القوافل الضخمة التي كانت تجوب الدروب، وكان ثمة اعتقاد بأن تلك الواحة موجودة بالفعل. كانت جدتي تحكي وهي متيقنة أن هناك من ظهرت له الواحة بعد أن تيقن أنه هالك لا محالة وذكرت قصة عن سيدة مجنونة كنا نعرفها جيدا، قالت أنها وصلت حتى ” زرزورة” وعاشت فيها عدة أشهر ثم دلها ساكني تلك الواحة على طريق العودة، فرجعت وقد سمنت وبرق جسدها وتألقت!!.. ثمة صلة بين ذلك الشكل الدائري الذي تتخذه المدينة المسحورة وبين تلك التجمعات العمرانية القديمة في “موط” و”القصر” و”بلاط” و”القلمون” في واحة الداخلة؛ حيث تتجمع البيوت في كتلة واحدة دائرية الشكل، تطل أبوابها الرئيسية على مركز العمران- نحو الداخل- بينما تعطي ظهرها للصحراء، للمجهول، للغزاة الذين هاجموها مرات.. مدينة دائرية ذات أبواب ضخمة -على مداخل الأزقة المسقوفة- تغلق عند غروب الشمس، أزقة واطئة لا تسمح إلا بعبور المترجل، أما الراكب دابته فلن يسمح له انخفاض السقف بالمرور. يجتمع الرجال في ظلها وقت القيلولة، يتناولون كل ما يخص واحتهم من مشاكل، ويتبادلون الخبرات والتجارب. البيوت متواجهة، متلاحمة تنظر إلى بعضها بعضا كأنها تحتمي ببعضها البعض من حر الشمس في الصيف، ولا تسمح لبرودة الجو أن تنفذ من خلالها في الشتاء. أما الأفنية فواسعة، لها باب خلفيّ خاص بالحيوانات، وبوابات البيوت كبيرة، ومزدانة في أغلبها بأطُر معدنية تعلوها قطعة من خشب أشجار الدوم، محفور عليها آيات قرآنية، مشفوعة باسم صانعها وتاريخ صناعتها. تلك البيوت الطينية المعتمة قليلاً في النهار بسبب تداخل حجراتها وكثرة دهاليزها الطويلة. ثم يصعد بك السلم إلى الطابق الثاني الذي يسلمك إلى الفضاء. وهذا الطابق لا يشغله إلا ” رواق” للنوم في الصيف، وحجرة ” المجلس” التي تستقبل هواء الصيف من نوافذها الواسعة المشرعة على الدوام. إن طريقة البناء بذلك الشكل – دون الخوض في تفاصيل المعمار- تعكس الروابط الاجتماعية وتضامن الجماعة التي ظلت لسنوات تتهددها أخطار المغيرين وسارقي الأقوات. ظلت الواحات- إلى بداية ستينيات القرن الماضي- مجتمعا مغلقا يحوي بين جنبيه قلوبًا تشع طيبة وألفة، وحياة مشبعة بالأمل، وموروثا ثقافيا ظل أسلوبا وطريقة للحياة يرثها الخلف عن السلف. ذلك الموروث الثقافي – الذي كان تسجيلا للخبرات الإنسانية والتجارب الحياتية- نشأت على مبادئه أجيال عدة فكان وسيلة للتماسك الاجتماعي وتبادل الأفكار والمعتقدات والقيم ومغذيا للإبداعات الشعبية التي أفرزتها طبيعة الحياة وآلياتها فتميزت طقوس الاحتفالات والمناسبات والعادات اليومية في الواحات عن غيرها من المناطق. البيئة، بكل خصوصيتها تنتج حتماً إبداعًا له رائحة المكان بأهله وناسه، بعاداته وتقاليده، إيجابياته وسلبياته. الآباء والأجداد الذين عركتهم الحياة وأضاءت لهم التجارب، خرجت خلاصة حياتهم وتجاربهم في كلمات عفوية بسيطة، رائقة وواضحة مثل مياه النبع الذي يشربون منه، لكنها عميقة الدلالة وشاعرة:
“يمسيك بالخير يا عود القنا يا فوح
يا اللي الملابس على جسمك ترد الروح
لو فُتني فَرْد ليلة لأعلّمَك في اللّوح
وأعلم الطير على بابي يجي ويروح”
تأتي شاعرية ذلك المنتج الثقافي الشعبي من انعكاس البيئة الهادئة الصافية فى تلك البقاع الخضراء التي تظلل الصحاري الواسعة وتمنحها وجوداً شرعياً. واحات صغيرة داكنة الخضرة، متناثرة هنا وهناك تجاهد لتعيش في خضم مناخ صحراوي هادئ، لكنه لا يرحم. كل ذلك أثر في الناحية النفسية لإنسان الواحات، فجاء إبداعاته، مكثفة في معانيها، خِصبة في صورها الشعرية، وزاخرة بالمحسنات البديعية والموسيقى الظاهرة أو الخفية:
” ح اخطّي ع القَدَم كُل المحاسن فيه
والصايغ اسمه حسن، صَنَع جميع ما فيه
هات القلم والدوا، واكتب ع اللي فيه
ع العاشق اللي انكوى واحتار طبيبي فيه”
ظلت الثقافة الشعبية تلعب دورا تعليميا وتربويا فعالاً ومؤثراً في المجتمع حتى افتتحت المدارس بداية عقد الخمسينيات. تلك المؤسسات التعليمية التي قلصت من دور الثقافة الشعبية وأبطأت من دورة انتشارها وانفتح المجتمع على ثقافات مغايرة. ثم تضاءلت قيمتها وقوة مفعولها مع الغزو الثقافي الذي جلبته الميديا ووسائل الإعلام واختلاط الأهالي بالوافدين مع حركة التعمير في بداية الستينيات، فتغيرت بعض ملامح الواحة وطرز السكن بها وقُضي على بعض عاداتها وبُدّلت بعضها وطُمر بعضها الآخر واتجهت ثقافتها إلى طرق كثيرة ومتشعبة.
تزامن مع ذلك الانطمار، ظهور ذلك الجيل المثقف من أبناء الواحة؛ أولئك الذين أكملوا تعليمهم الجامعي وعادوا محملين برغبة كبيرة في الخروج بواحتهم إلى النور، القفز بها خارج ذلك السور البغيض الذي يخنقها. ظهرت في السبعينيات مجموعة من الكتاب الشباب الذين- برغم قصور تجربتهم- حاولوا أن يكونوا شيئًا، فكتبوا عن أحلامهم وآمالهم ومخاوفهم وأطلقوها في الفضاء، لكن لم تنبت لكلماتهم أجنحة، ولم تتجاوز فضاء غرفهم وظلوا مكبلين بتلك العزلة التي فرضتها الطبيعة عليهم.. مع نهاية عقد الثمانينيات كان هناك جيل ينضج على مجمرة الطموح، يؤمن بالتطور ويضع في ذهنه أنه لن يصبح شيئًا قيما وملفتا إذا لم يضع الواحة بخصوصيتها وتراثها في إبداعه. حيث ينبغي على كل منهم أن يستدعي قوة روحه. يتأمل ما حوله، يتعلم، ويتشبث بالأمل. لم يكن أولئك الشباب مزودين بأجنحة حتى يطيروا..
إن أقل هبّة ريح هنا تسد الأفق. ظلوا لفترة يشعرون بأنهم غرباء في هذا الكون، يشقون طريقهم عبر أودية صخرية ضيقة، ولا يدري أحد منهم إلى أين تؤدي. كما أنهم بلا ماء وبلا زاد. ما من شعراء قد سبقوهم وأفلحوا حتى يرشدونهم إلى الطريق وما من مكتبات تغذي أرواحهم المشتاقة، لكن الطبيعة وحدها كانت رحيمة بهم نهلوا منها وأبدعوا على قدر جهدهم حتى كان اليوم الذي زار فيه الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي المحافظة، بدعوة من محافظ الإقليم.. في ذلك اليوم الاستثنائي كان ثمة شاعر من العاصمة يسمعهم للمرة الأولى وقد أثنى عليهم أمام الجمع ملقيا جملته الشهيرة ” أنتم جيل بلا أساتذة”، تلك الجملة التي فرحوا بها وظلوا يتعاطونها لفترة. كان الشاعر الكبير قد مضى إلى حال سبيله وكانوا قد أقسموا على أن يتعهدوا نبتتهم الصغيرة بالرعاية مؤمنين بأن لا أحد سوف يثني عليهم أو يقدر جهودهم في خلق حركة أدبية من العدم. كانوا كلما عثروا على باب يقودهم خارج الأسوار وجدوه موصدًا بصخور سوداء لا يستطيعون تحريكها.. لطالما علمتهم الواحة أن الحب هو الخيط الخفيّ الذي يربطهم بالحياة. إنهم يعشقون هذه البقعة من العالم، ويشعرون برغبة مُلحّة في تسجيل بعض روائح البشر والكائنات والأشياء فيها، لكن ذلك الجبل الشاهق -الذي يحيط بهم- يخنقهم، يكتم أنفاسهم، لكنه يعطيهم- في الوقت ذاته- حافزاً قوياً ورغبة في القفز من فوقه… ها هم يقفون هناك، فوق تلك الأسوار. ينظرون في اتجاه الواحة.. يمنحون أنفسهم وقفة طويلة لإعادة اكتشافها، لنتأمل معهم أولئك الناس الذين عاشوا وأبدعوا وتركوا تراثا زاخرة بالإبداع والمحبة والصفاء.. أولئك الناس الذين عاشوا وماتوا ولم يذكرهم أحد.. ها هم الآن وقد تحققوا، يمنحون أنفسهم وقفة لاستيعاب ما مضي.
لقد استطاع أدباء الواحة أن يؤصلوا لأصواتهم وتجربتهم على خريطة الإبداع المصري مجتازين ما يزيد على ألف كيلومتر، هي المسافة بين القاهرة والواحات.. إن التجارب الصادقة لا تسجنها الصحاري ولا تقتلها العزلة بل تزيدها اشتعالا.. إن تلك البقاع تجذب الأرواح، تجعلها تنسجم في خفة وشفافية مع مجاهل ذلك الكون الواسع وتتوحد فيه، لتنمو بقعة من الضوء داخلنا، تظل تتوهج وتكبر حتى تصبح مثل مدينة مسحورة غارقة في الضوء.. على المرء أن يشعر، في تلك الواحة، التي وُلدت وسط الصحراء القاسية بين حدود اليأس والألم، بأنه إنسان يحيا، يشعر بالفرح والحزن، ويمتلك القدرة على الحلم- رغم أن الأحلام هنا نبتة صغيرة لم تذق طعم الماء. الأحلام مسيجة بالكثبان الرمليّة العالية التي تزحف نحو الواحات الصغيرة المتناثرة هنا وهناك، تمد أذرعها الطويلة نحو أعناق النخل. تضغط، بجسدها الثقيل، على مساحات واسعة من المزروعات فلا تجعل لها أثراً.. لقد تحققت كوكبة، ليست بالقليلة، من الأدباء في واحتيّ الداخلة والخارجة وأصبحوا معروفين على الساحة الأدبية، بعد أن ظلوا لسنوات تنتابهم مشاعر الألم واللاجدوى.. يجب أن نعرف أنهم راهنوا على الإبداع وربحوا، بعد أن قضوا سنوات يرسلون أعمالهم بالبريد إلى المجلات الأدبية التي يسمعون عنها. كانوا- في ذلك الوقت على يقين- أن أعمالهم تستحق أن ترى النور وإنها حين تُنشر لن يعرفوا بذلك ولن تصلهم الجرائد والمجلات التي نشروا بها… كان ذلك منذ سنوات كثيرة مضت وكانوا في مشاعرهم تلك على حق.
يشعر الإنسان بأهمية اكتمال حياته عندما يتعرض في خضم معتركها للأخطار، عندما يشعر أن حياته قد تُقتلع منه في غمضة عين… لقد أحسوا الآن بالكثير من الطمأنينة التي كانوا يفقدونها.. أهدافهم وآمالهم الطموحة التي نثروها في دروب الحياة، وتمتعوا بالركض ورائها تجمعت الآن في هدف واحد: أن تظل الواحة كتابًا نقيّا تنبت على صفحاته آمال وطموحات تستحق الكفاح من أجل تحقيقها، ونهر حب أخضر يشق الصحراء، يروي شقوقها المتعطشة للحياة ويعطيها مصداقية الوجود على الخريطة الإنسانية.