زهرة دون أرضية
هناك أوركيدة لا تتفتح إلا تحت الأرض.
ولأنها لا تكشف عن نفسها أبدا فوق الأرض
فإن قليلين، فيما يقال، هم الذين رأوها.
وحده النمل الأبيض يلج براعمها
فيغرق في شذا يفوح في المسارات التي يفتحها مطر الخريف.
في نور الشمس تذبل الأوركيدة
التي يهرب بها النمل الأبيض إلى سطح الأرض،
أجسادها تشع بالبياض وإن كانت تعمل في العتمة.
مثل فيلم قبل تظهيره، لا تكشف الأوركيدة نفسها
جسمها كله جذور
حتى براعمها ليست سوى جذور مخبوءة.
***
أصبح من النادر أن يصادف المرء شاعرا يكتب قصيدة في زهرة. وليس ذلك إلا لأنه أصبح من النادر أن يتوصل عاشق إلى زهرة بعد طول تفكير في هدية مناسبة لحبيبته. خاصة وقد صارت الزهرة الحمراء، رمز العشق المشبوب، مادة سلعية لا تصادفنا إلا حينما تمتلئ المتاجر بالقلوب الحمراء والزهور الحمراء وأيضا الشوكولاته في الفالنتاين داي، أو عيد الحب، دون أن أعرف سببا عاطفيا لارتباط الشوكولاته بالحب، اللهم إلا إذا كان سببا بيولوجيا مزعوما.
***
لعل أبرز ما يعلق في ذاكرتي كنموذج لقصيدة مكتوبة في زهرة، هو الخاص بقصيدة خورخي لويس بورخس، وكان أعمى، فهي زهرة لم يرها، وإنما هي قصيدة عن زهرة كتب فيها من قبل جون ميلتن، وكان أيضا أعمى. فهي ليست زهرة تلك التي يتغنى بها بورخيس، بل منتج خيالي نابت في أرض عالم مواز، يتسع قليلا قليلا مع كل قصيدة يكتبها شاعر.
***
أوركيدة را هيدك بدورها ليست زهرة، إلا إذا ثبت علميا وجود هذا النوع من الزهور الذي يضن بنفسه على العالم، فينمو تحت الأرض، غنيا عن نور الشمس، والهواء، ونظرات الإعجاب، مكتفيا بالتحلل في جوف الأرض عن الذبول بين دفتي كتاب، مكتفيا بالنمل الأبيض عن النحل يحيله عسلا، أو المتأنق يضعه في عروة سترته، أو المتأنقة تغرسها بين خصلات شعرها.
قصيدة را هيدك، ليست فقط عن إمكانية الحياة بدون الأسباب المعهودة للحياة، ولكنها قصيدة عن التألق في الحياة برغم غياب أبسط شروط الحياة. هي قصيدة عن العزلة الثمينة التي لا تفضي إلى نتيجة يعرفها إلا المنعزلون أنفسهم. وهي ليست قصيدة عن زهرة، وليست قصيدة عن العزلة فقط، ولكنها قصيدة عن العلاقات الخفية، بين النمل والزهرة مثلا، وعن الصراع الدائر تحت أقدامنا دون أن ندري به، ولا أقول دون أن نحفل بها.
***
مثل فيلم قبل تظهيره، لا تكشف الأوركيدة نفسها
جسمها كله جذور
حتى براعمها،
ليست سوى جذور مخبوءة.
بهذه الأبيات، تنتهي القصيدة التي تبدو من أولها إلى آخرها قصيدة باردة، ولكنه برود التأمل. وهو أيضا التأمل المنقوص، الذي على القارئ أن يكمله، أو يتجاوزه. فهذه الأبيات تبدأ بتشبيه كلاسيكي لزهرة الأوركيد تحت الأرضية بالفيلم قبل تظهيره. معروف أن الفيلم، أي فيلم، لا يكتمل بغير تظهيره، وتحوله إلى صور يمكن لأي شخص أن يشاهدها. فهل زهرة القصيدة منقوصة بالمثل؟ هل القصيدة تدين الزهرة التي تدين لها القصيدة بوجودها نفسه؟ أم أنها تريدنا أن نتأمل الحياة من وجهة نظر فيلم لم يتم تظهيره، وزهرة براعمها أيضا جذور مخبوءة؟ هل تريد القصيدة أن تقول لنا إن ما نراه من الحياة ليس إلا الأشياء وقد فقدت بريق الاكتفاء بالذات، مستبدلة به بريق التحول إلى سلعة أو إلى نقطة في شبكة أعني فردا في مجتمع؟ هل تريدنا الشاعرة أن ننظر إلى كل شيء باعتبار أنه صورة أقل بهاء من أصل مضنون به علينا؟ هل يمكن لامرأة أن تقبل في عيد الحب زهرة حمراء، إن عرفت أن ثمة زهرة تستكثر أن تكون هدية أو مصنعا للعسل أو حتى جسما قابلا للرؤية؟ هل يمكن أن نشبع أعيننا في حديقة ونحن نعرف أن هذه الحديقة ربما لا تمنحنا إلا فضلات نعيمها الأبهى، ووجودها الحقيقي؟