صبي شجرة التوت

صبي شجرة التوت
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

لم تحمه قبعته الصغيرة من حرارة الشمس الملتهبة كما كان يأمل؛ خلع حقيبته المدرسية واضعا إياها فوق رأسه ليمنع حرارة الشمس الملتهبة عصر هذا اليوم من مايو المختنق منأن تلفحه حتى يصل إلى البيت. كان الطريق غير ممهد والأتربة تتصاعد مع أقل حركة للسائر عليه. على الجانبين، كانت الزروع الخضراء منتصبة في الحقول، تتألق في وهج الشمس وكأنها تتحداها. وعلى عكس باقي أقرانه، لم يحب يوما العودة إلى البيت مع أحد. لطالما أراد أن يسير وحده ذهابا وإيابا. أحب صمت الطريق في الضحى البارد والعصر المتقد. ولكنه بالطبع لم يكن ليعود إلى البيت مباشرة فور انتهاء المدرسة. فغالبا ما يتفق مع أبناء قريته ليلعبوا الكرة. لم يكن حينها ليهتم بحرارة الشمس أو غير ذلك. المهم أنهم سيلعبون.

من بين الأراضي الزراعية التي تحيط بالقرية، كانوا يستغلون أرضًا ممهدة لم يزرعها صاحبها في ذلك الفصل من العام، فيلعبون الكرة طوال ثلاثة أشهر. وعندما يشرع صاحبتها زراعتها، يبحثون عن أخرى لن تُزرع لفصلٍ آخر، وهكذا كانوا يتناقلون بملعبهم كل ثلاثة أشهر بين البقع السوداء بين الزروع الخضراء. دائما ما تساءل في نفسه عن السبب الذي من أجله تترك أرض دائما بلا زرع. سمع أكثر من مرة أن ذلك لإراحتها. كي تتنفس وتستعيد عافيتها. لم يفهم كيف يمكن أن ترتاح الأرض! غالبته الفكرة، فنفضها عن باله بعد فترة. أما المشكلة الدائمة، فكانت فيمن سيجلب الكرة. في مرة، اتفقوا على أن يجمعوا نقودًا من بعضهم البعض ويشتروا بها واحدة ولكن باغتهم أحدهم بسؤال لم يتوقعه أي منهم: ومن سيأخذها معه عندما ننتهي من اللعب؟

اليوم لم يتفقوا على اللعب. يشعر بحرارة الشمس المتقدة على يده الممسكة بحقيبة المدرسة. أنزلها من فوق رأسه ليريح يديه. رأى قناة الماء قريبة، فكر أن يخلع حذائه المهترئ ويضع قدميه فيها ويملأ يديه ببعضها ليرطب وجهه ورأسه. ولكن صورة أباه وهو يتوعده أنه سيقتله إن رآه عائدًا مبتلًا متسخًا بطين القناة فقيرة الماء أخافته لوهلة. ولكنه لم يبال. جرى في اتجاهها، أسند حقيبته إلى جذع شجرة التوت، لم يكن ذلك وقت التوت، كان منذ ثلاثة أو أربعة أشهر. يتذكر أنه كان يأتي إلى هنا، يتسلق الشجرة ويهزها بعنف، وفي الأسفل يقف أبناء عمومته ليجمعوا التوت الأبيض ويغسلوه بماء القناة ويأكلوه سرًا من وراء أهلهم.

انفرجت شفتاه عن ابتسامة عندما شمّر ساقيه ووقف في الماء شاعرًا ببرودة الطين المستقر في القاع. أخذ نفسًا عميقًا بقدر ما يستطيع طفلٌ في السابعة أن يفعل. لمحت عيناه بعض الباذنجان الأسود اللامع في وهج الشمس. خرج من الماء بقدميه الحافيتين مسرعًا نحو الحقل في خفة وحذر. قطف ثلاث أو أربع ثمرات باذنجان، وعاد بهم مسرعًا إلى مكانه كما كان. دائمًا ما عاقبته أمه على أكل الباذنجان النيء. ولكنه لم يتوقف عن فعل ذلك. كثيرًا ما عاقبته، ولكنه لم يكن يلقي بالًا. شخص واحد فقط كان ينصت لكلامه عندما يطلب منه شيئاً: سارة، ابنة عمته التي تكبره بثلاث سنوات. ذات الشعر الأسود القصير الكثيف الناعم –يا لها من متتالية أوصاف مرة بخاطره- وعينين زيتونتين ألِقة.

كانت تقول له: “إن توقفت عن أكل بذر البطيخ سوف أجلب لك بعض الحلوى في زيارتي القادمة.” لم تكن تسكن جوارهم، بل في البلدة الكبيرة. حيث السيارات تسير بسرعة والناس يتصارخون بصوت يصم الآذان. كان يحب أن يبقى مع سارة ولكنه لم يكن يحب البلدة الكبيرة.

التهم ثمرات الباذنجان. خرج من قناة الماء. جلس في الظل معرضًا قدميه للشمس حتى تجف ولا يفتضح أمره عندما يعود لأمه. لبس حذاءه وحمل حقيبته على ظهره ثم أكمل الطريق إلى البيت مفكرًا: “في المرة القادمة سأقول لها أنني سأطيعها وأتوقف عن أكل الباذنجان النيء شرط أن تأتي لتعيش معي هنا.” ولكنه كان متشككًا في كونها ستوافق.

وبعدما غرق في حيرته طوال الطريق، توصل إلى حل: “إن لم توافق، لن أطيعها. وسأعود لأكل بذر البطيخ واليوسفي والجوافة ولن أمتنع عن ذلك مهما جلبت لي من حلوى.” ولكنه كان خائفًا من أن تغضب إن فعل ذلك ولا تأتي إلى قريتهم مرة أخرى.

عندما عاد إلى البيت، سأل أمه: “هل سأتزوج سارة عندما أكبر يا أمي؟”

ابتسمت الأم: “لا يا بني، هي أكبر منك، وعندما تكون أنت في العشرين من العمر ستكون هي متزوجة ولديها أبناء.”

نظر إليها بانكسار، فعاجلته قائلة: “ولكني سأجد لك من هي في جمال سارة وطيبتها.”

نظر إليها وعلى وجهه علامات التذمر: “لا أريد واحدة غيرها. وعندما تأتي سأقول لها أنني لن أطيع كلامها بعد ذلك.”

انتظرها ليخبرها بقراراته وإعلان عصيانه. انتظرها اسبوع، اثنين، مر شهر ولم تأت سارة. سأل أمه عنها فقالت وفي عينيها يطلّ انقباض الروح: “هي مريضة.”

ولكن هل يظل المرء مريضا لعامين كاملين؟

 

مقالات من نفس القسم