حاورتها: رشا عبدالوهاب
«الأحلام» لها دور البطولة في أعمال الروائية المصرية منصورة عزالدين. ثنائيات القرين أو المرايا بين شخصيتين، الحلم والكابوس، الغرائبي والواقعي، الغموض والالتباس، تشكل عالم صاحبة «متاهة مريم». مجموعتها الأولى «ضوء مهتز» تمثل الأبجدية أو البذور الأولى لعملها الإبداعي ومشروعها الروائي. في روايتها الجديدة «وراء الفردوس» التي صدرت طبعتها الثانية مؤخرا عن دار العين في القاهرة والتي وصلت للقائمة القصيرة في جائزة البوكر العربية تحاول عزالدين المزج بين الكتابة الغرائبية والوقائعية من خلال شخصية «سلمى» التي تستدعي ذكريات طفولتها في قرية أشبه بالحلم بحثا عن فردوس مفقود. ومن خلال غواية القتل ومحاولة التخلص من أعطاب الروح وآلام النفس التي سببها موت الأب وغياب الحبيب والانفصال عن واقع بليد تتجه سلمى للكتابة. «وراء الفردوس» رواية داخل رواية تتعدد بها الأصوات وتتجاوز مستويات اللغة لتحمل لنا أبعاداً فلسفية ونفسية عميقة لتطرح أسئلة خاصة بالوجود. عزالدين كاتبة السر بامتياز. كتابتها لا تبوح، تبحث عن الغرائبي والغامض والمظلم في النفس البشرية.
في هذا الحوار تتحدث عزالدين عن مشروعها الروائي وأدواتها في الكتابة وعن عملها الإبداعي.
[في «وراء الفردوس» اعتمدت على امرأة تعاني مشكلات نفسية تستدعي ذكريات طفولتها، هل يمكن القول إن الذاكرة تمثل سؤالا أساسيا في كتابتك؟
– في روايتي الأولى «متاهة مريم» كانت خيانة الذاكرة جزءاً أساسياً من شخصية مريم. كانت تسترجع كل حياتها كشذرات فقط غير واثقة بأي شيء خاصة مع ضياع كل شيء من ذاكرتها، وهذا في الرواية معادل لفكرة امحاء الوجود نفسه.أنا جميع ذكرياتي ومريم مشكلتها مع الذاكرة وفكرة القرينة التي سرقت ذكرياتها. في «وراء الفردوس» سؤال الذاكرة جاء بشكل مختلف، وكانت فكرتي أن جزءاً كبيراً من أعطاب الروح وليدة الماضي. كل المشاكل حدثت نتيجة أخطاء شديدة في الماضي. في المشهد الافتتاحي في الرواية تقوم سلمى بحرق صندوق تركه لها والدها وكأنه تراث الماضي حتى تبدأ حياة جديدة لكن الجزء المسكوت عنه هو أن أعطاب الماضي تظهر في حاضر بليد ليس به إنجاز ما. يعني لو كان الحاضر قويا لكان في الإمكان تجاوز الماضي بأخطائه ونكباته وآلامه. الماضي يزيد ويتضاعف لو كان الحاضر بليدا وليس به شيء مفرح.
[ ولماذا حملت الفصل الأول عالم الرواية ككل؟
– الفصل الأول يقدم للنص ككل بكل الأفكار التي يحملها. أنا ككاتبة أكثر شيء يهمني في بداية انطلاقي لأي رواية هي الشخصية . بعض الروائيين يبدأون العمل من مشهد بصري ما أو من فكرة معينة وبالنسبة لي أي عمل أبدأه من شخصية وقبل الكتابة نفسها أرسم الشخصيات وأعمل ما يشبه الملف خاص بالشخصيات، اسم الشخصية ومواصفاتها والتطورات النفسية التي تحدث لها وعلاقتها بباقي الشخصيات. وأحيانا أحذف الكثير من التفاصيل لأنني أعتقد أن الكاتب الجيد تكون لديه القدرة على الحذف أكبر من القدرة على الكتابة. الكاتب الذي يتمسك بكل ما يكتبه ويعتبره شيئا مقدسا كاتب هاو لأن الكتابة الاحترافية محاولة لتخليص العمل من أي زيادات يمكن أن يجعله مترهلا. هناك شخصيات كانت مكتوبة بشكل أوسع لكني كثفت ظهورها بحيث تخدم الحبكة والإيقاع.
[ أشرت في الرواية الى أن مشهد الحلم اعتمد على قصة قصيرة بعنوان «زهرة جلاديوس حمراء»، الى أي مدى يمكن أن تصلح قصة قديمة كمنطلق لكتابة رواية؟
– أعتقد أنه لا تعارض نهائيا خاصة أنني قمت بذلك من قبل في «متاهة مريم». وأشعر أن الكاتب عندما يكون مشغولا بهواجس معينة أو أن هناك صلات ما في عالمه موجودة من عمل الى عمل مع الاختلاف يكون من السهل الاستفادة من هذه الثوابت. هناك كتاب كثيرون يقومون بذلك خصوصا الكتاب العالميين. في «متاهة مريم» كان الفصل المفصلي فيها الذي يحمل حل اللغز قصة قصيرة بعنوان «حياة زجاجية» نشرت قبل صدور الرواية بعامين في «أخبار الأدب» ولم تصدر في أي مجموعة قصصية. وعندما انشغلت بكتابة روايتي الأولى، كان يشغلني سؤال «كيف يمكنني حل مشكلة اللغز؟، فوجئت أن هذه القصة بها حل للرواية وكأنها جزء منها وكنت بالفعل قد كتبتها وقت كتابتي للرواية. وهذه ملحوظة ألاحظها في «وراء الفردوس» أيضا فالقصص القصيرة التي كتبتها وقت كتابتها تنتمي الى نفس عالم الرواية وبعد قليل من العمل عليها تدخل في نسيج العمل. أثناء كتابة رواية ما لا أستطيع الخروج منها حتى القصص القصيرة أشعر أنها جزء منها وعندما أعمل عليها تدخل في تفاصيل الرواية. بالنسبة لـ«زهرة جلاديوس حمراء» أنا عندي هذه الثنائية موجودة في كل أعمالي، فكرة القرين مثلا أو المرايا بين شخصيتين. شعرت أن هذه القصة وهي إمرأة تعيش في جو كابوسي وكأنها تقتل شخصية شبيهه بها. أثناء كتابة وراء الفردوس عندما ظهرت لي جميلة بشكل أوضح والعلاقة بينها وبين سلمى أصبحت ملتبسة عدت الى هذه القصة. وأعتقد أن مجموعتي الأولى «ضوء مهتز» بها كل أبجديات عملي الإبداعي أو كل البذور التي خرجت منها أعمالي. كان بها جانبان حدث بينهما تزاوج بعد ذلك أولهما الكتابة الغرائبية الصرفة والكتابة الواقعية التي تستفيد من الغرائبي في قصص أخرى. ارتباط «متاهة مريم» بـ«ضوء مهتز» كان أقرب من الناحية الكابوسية الصرفة وحدث دمج في «وراء الفردوس» بين الخطين اللذين لم يكونا مدمجين في قصص المجموعة. ولا أعتقد أن العمل الجديد الذي أكتبه سيكون له علاقة مباشرة بضوء مهتز. وبالنسبة لي، فإن أي كتابة كتبتها يمكن أن أستفيد منها في عمل آخر بمعنى أنه لا ليس لدي أي مشكلة أن تمثل قصة قديمة حل أو إضافة يمكن أن أعمل عليها مرة أخرى لأنه في النهاية هذا يعزز فكرة «اللعبة» في أن يلجأ الكاتب لأعماله كمرجعية يشير إليها أحيانا.
[ وهل لهذا السبب هناك تشابه بين مشهد قتل القرين في الحلم في الروايتين؟
– هذا غير مقصود على الإطلاق. بالعكس عندما بدأ المشهد الأول في «وراء الفردوس» يتداعى بوضوح لم يكن الحلم أول ما كتبته في الرواية. أنا في العادة أكتب مادة خاصة بالرواية وأسير وراء الشخصيات وبعد ذلك يبدأ العمل يتضح ويتأتى البنى في اللحظات الأخيرة. أحيانا يكون قريبا من البناء الذي بدأت به وأحيانا أشتغل عليه أكثر. فكرة القتل لم تكن أول مشهد مثل «متاهة مريم» وذلك ما أربكني خاصة أنني خشيت في الوقوع في التشابه بين العملين لكن ما شجعني وألغى ذلك الخوف أنه لا يوجد أي تشابهات أخرى. صحيح أن الأجواء الكابوسية وفكرة أن الأحلام لها البطولة في العمل مثلما كان موجودا في «ضوء مهتز» و«متاهة مريم» لكنني شعرت أن قماشة العمل وتركيبته وبناء العالم في «وراء الفردوس» مخالف تماما لمتاهة مريم وهذا لم يزعجني أن تكون البداية بها أجواء متقاربة.
* هل الكابوس والحلم والعالم الغرائبي ثوابت تنطلق منها كتابتك؟
– لا يوجد ما يسمي ثوابت. أحيانا أندهش بعد كتابة رواية ما أو قصة ما أن هناك أسئلة تلح علي وتخرج أحيانا رغما عني. لا أنوي أن أكتب عملا يستفيد من الحلم أو من جو كابوسي بالعكس الكتابة تأخذني الى هذا الاتجاه. «وراء الفردوس» بدأت كعمل واقعي صرف وكان هذا تفكيري وقتها ولم يكن قرارا وكانت خامة العمل نفسها قد أخذتني الى هذا الاتجاه. بعد فترة يخلق العمل منطقا خاصا به. وأكون أثناء الكتابة منشغلة بشخصياتي وبعوالمهم وأحاول أن أسمع أصواتهم ولا أحاول فرض رؤيتي. وتوقفت عن كتابة الرواية لمدة سنة كاملة لأنها كانت تأخذني الى مناطق بعيدة عن تفكير الكتابة. قبل ذلك كان لدي رؤية خاصة بالكتابة الغرائبية وهي أن الغرائبية تنبع بالأساس من هلاوس اللاوعي وفكرة الإيحاء أن ما يحدث هل هو حلم أم مرض نفسي تعاني منه البطلة أو البطل يجعل الواقع مهتزأً أمامهم. ولم أكن أحب فكرة العجائبية القائمة على الفانتازيا الكاملة لابد من وجود تفسير واقعي ما لما يحدث. وفي «وراء الفردوس» وجدت الكتابة تأخذني رغما عني للميثولوجي والأسطوري والأشباح والجن وهذه ليست عوالمي خاصة أنني لا أحب الغرائبية المنطلقة من هذه العوالم. لكني اكتشفت أن المكان الروائي هو الذي يفرض نوع الغرائبية التي تخرج منه بمعني أن «متاهة مريم» كانت الشخصيات ذات طابع مديني وعلى درجة ما من التركيب خاصة شخصية مريم والأم نرجس وأكثر من شخصية كلها مثقفة بشكل أو بآخر. فبالتالي هناك تركيب خاصة مع الإيحاء بتعقيدات نفسية ما وبوعي يولد هلاوس أو لا وعي يعمل بشكل نشط.» وراء الفردوس» المكان الريفي هو الذي ولد الأساطير الخاصة به بمعنى أنه لا يمكن مقاربة الريف دون مقاربة الأساطير التي تعشش بعقل الشخصيات باعتبارها الواقع الوحيد. أنا ولدت في الريف، ويتحدث أهله حتى الآن عن الأشباح وبرغم التقدم باعتبارها واقعاً ويتناولون الأساطير الخاصة والحكايات الشعبية العجيبة والغرائبية. كما تتناول الرواية الانتقال من مرحلة الزراعة الى التصنيع في قرية صغيرة فالتصنيع نفسه يصنع أساطير خاصة به ترجع الى أفكار وثنية قديمة.المكان ونوع العمل والموضوع نفسه تفرض الغرائبية الخاصة بها. وفي النهاية وبعد أن ابتعدت عن الكتابة مدة انسقت وراء منطق العمل نفسه وأحيانا أجنب أفكاري بعيدا وأسير وراء الشخصيات ومنطق العمل وطول الوقت أشعر أنني لابد أن أكون منفتحة على أي أفكار بحيث أن شخصيتي ككاتبة لا تفرض نفسها أو تسيطر على العمل. يجب أن تكون هناك مساحة ما يبتعد فيه الكاتب عن عمله وإلا فأنه سيظل يكتب نفس العمل وتكون أفكاره ثابتة ومسيطرة. أنا أيضا أقلق من الكتش ومن الميلودراما، العمل بها مساحات لو لم تكن هناك سيطرة ما عليها يمكن أن تتحول الى ميلودراما أو يمكن أن تغرق اللغة في الكتشية أحيانا وهذا سبب لي مشكلة أثناء الكتابة حيث كنت أعيد كتابة المقطع أكثر من مرة. وحاولت الاستفادة من ذلك فظهرت لي فكرة كتابة رواية داخل رواية وتقمصت دور سلمي التي تحاول حل مشكلتها النفسية من خلال رواية تكتبها وبدأت أطرح مشكلاتي أثناء كتابة الرواية من خلال الشخصية.
* وماذا الاختلافات بين كتابتك عن الريف وكتابات يوسف إدريس ومحمد البساطي وعبد الحكيم قاسم؟
– الرواية غير مقيدة بتقاليد الكتابة عن الريف المصري. الكتابة عن الريف تدور حول ثلاثة أسئلة محددة وموضوعات محددة. أنا لا أرى «وراء الفردوس» كتابة ريف لأن القرية التي أقدمها في لحظة تحول الى نمط المدينة من خلال الصناعة التي سببت بالضرورة نوعا من الرخاء. الطبقة التي تناولتها لا أعتقد أنه تم تناولها بشكل كبير في الأدب المصري وهي الطبقة البرجوازية المصرية كما تناولت في «متاهة مريم» أيضا بقايا الإقطاع في الريف ولم يكن أيضا قد تم تناولها بشكل كبير. وهناك اختلاف في الوعي والزمن فالقرية التي كتبت عنها في هذا الزمن حتى لو لم تكن قرية مدنية الى حد ما وفي مرحلة التصنيع فهي تختلف عن القرية التي عاش فيها يوسف إدريس وعبد الحكيم قاسم وغيرهما. كل كاتب يكون نتاج الحياة والفترة التي عاشها. يعني مثلا من الأشياء التي أحببتها جدا أعمال كتبها محمد البساطي عن فكرة وجود الأجانب خاصة الأتراك في الريف وهو من أوائل من تناول هذا الموضوع. كل كاتب يقدم منطقة من منظوره الخاص.
محاكاة
[ ولماذا حاولت محاكاة قصة «المهدي» لعبد الحكيم قاسم من خلال شخصية المسيحي الذي يحاولون أسلمته؟
– الشخصية نموذج منتشر في الريف خاصة في القرى التي لا يكون بها مسيحيون ويظهر بها فجاءة قبطي يكون خارج النسيج. أول شيء يطرأ في ذهن الأهالي أو بعضهم أسلمته. الرواية في جزء منها مع فكرة الاختلاف واحترام الفردية. وفي البنية العائلية في الرواية هناك دائما رفض للمختلف وهذا المسكوت عنه. طوال الوقت هناك حديث عن التسامح والتقبل للآخر لكن هذا لا يعني التعميم. و«عايدة» زوجة القبطي كان لديها نوع من الرفض المضاد. الموضوع أيضا له بعد طبقي حيث تنظر الجدة الى شخصية مارغو الثرية نظرة مختلفة عن نظرتها للعامل البسيط.
[ هناك أيضا خط سياسي خافت وبعد اجتماعي مثل الحديث عن جيل ضائع وأسلمة المجتمع، وهذا يمثل اختلافا عن روايتك الأولى؟
– أعتقد أنه بُعد اجتماعي أكثر منه سياسي. وهذا غير شائع في الكتابات الجديدة التي تبتعد عن أي موضوع به شبهة قضية اجتماعية أو سياسية. وكانت هذه هي آرائي الأولية في «متاهة مريم» لكني استمعت الى منطق العمل فالفكرة ليس أن تبتعدي عن الناس، أي رواية مهما كانت مغرقة في جمالياتها يكون بها بعد اجتماعي ما أو بعد سياسي ما. والفكرة هي كيف يمكن تطويع القضايا الإجتماعية أو السياسية بحيث تكون في خدمة العمل وليس العكس بمعني ألا تصبح الرواية بوقا سياسيا لنقل أفكار جماعة ما أو أفكار معينة حتى لو كانت أفكار الكاتب نفسه لفرضها على القارئ كأنها رسالة. وكيف يمكن استخدام أي شيء مها بدا مناقضا للرواية وفنيتها وتطويعه بحيث يكون خادما لها، لأن الرواية من حسن الحظ فن يمكنه الاستفادة من باقي الفنون والعلوم،عالم واسع جدا. والسؤال لماذا يقدم الكاتب هذه الأفكار في رواية ومن الأسهل له أن يكتبها في مقال طالما يطرحها بشكل مباشر. وبالنسبة لي احاول قدر الإمكان الإخلاص للتقنيات الفنية والجمالية للفن الذي أكتبه.
[ هل علاقة سلمى بظيا علاقة أنا بآخر؟
– لم أقصد علاقة أنا بآخر ولا علاقة شرق وغرب. أنا غير مهتمة بالثنائيات بهذا الشكل المباشر. ظيا بالنسبة لي إنسان لكن السؤال لماذا اخترته ينتمي الى الثقاقة الغربية بريطاني من أصل باكستاني لكني أخترته لأسباب فنية بحتة لأن شعرت أن ابن الثقافة الباكستانية من أب كشميري وأم باكستانية من الباشتو وفي نفس الوقت هاجر انكلترا وعاش فيها قماشة جيدة لشخصية مليئة بالتركيب ومشاكل خاصة بالهوية ونظرته لنفسه ولأصوله حيث إن هناك انتماء ما لأصوله من خلال الطعام والأحاديث وفي نفس الوقت يتبرأ منها.
[ اللغة أيضا في الرواية كانت مختلفة حيث إنها كانت أكثر شاعرية على عكس الرواية الأولى التي كانت لغتها أقرب إلى لغة السينما؟
– التأثر بالسينما ظهر بشكل أكبر في المجموعة وأنا منذ سن مبكرة جدا مغرمة بالسينما. وربما تكون علاقة «متاهة مريم» بالسينما واضحة من خلال الاستشهادات بنجوم سينما داخل الرواية والإشارة الى أكثر من فيلم وأكثر من ممثل.» وراء الفردوس» منطلقة من منطقة مختلفة وحتى أسئلتها مختلفة. وكان طموحي في وراء الفردوس أن أقدم أكثر من نوع من أنواع اللغة بمعنى أن هناك لغة الراوي العليم والذي أحب أن أصفه بشبه العليم لأنه ليس الراوي العليم بالشكل المألوف فهو راو مراوغ وما يقوله يهدمه بعد قليل ويخبئ أشياء. لغته راسخة يحاول أن يجعلها فصيحة وليست ذاتية لأنه يقوم بدور أشبه بالتأريخ. وهناك مستوى آخر يتمثل في لغة سلمى والاقتباسات التي تكتبها كرواية خاصة بها وهي لغة ذاتية وأكثر إنسانية من لغة الراوي. وهناك لغة الحكايات الشعبية التي حاولت محاكاتها وهناك الحوارات التي تمثل الطبقة والمكان وهناك الركاكة المتعمدة في خطاب تكتبه أجنبية. وكان عندي تخييل أن تعدد أو تجاور مستويات اللغة يمكن أن يصنع نوعا من الشاعرية للعمل أو يخلق إيقاعا. وتمثل طموحي في خلق صراع أفكار وامتزاج بين مستويات لغة مختلفة. وطوال الوقت فكرتي عن اللغة الجميلة أنها غير مثقلة بالجماليات بمعنى أن تكون لغة بسيطة وقوية وفي الوقت نفسه بعيدة عن كثرة المجاز. الجملة كثيرة المجازات ليس بها عمق فلسفي وغير قادرة على حمولة معرفية كبيرة وتصبح مشغولة بجمالياتها الخاصة. «وراء الفردوس» بها بعض مقاطع بعيدة عن رؤيتي للجماليات لأنني كنت أراها مناسبة في رسم شخصية ما وكان طموحي أن أمارس لعبة في أشياء لدي هوس ألا أقوم بها. كنت أتحدى نفسي وقت الكتابة وأتمرد على جماليات مؤمنة بها.
[ وهل تقصدين خلق هذه الحالة من الالتباس؟
– لأن أحد أهدافي تشويق القارئ لأن القراءة ليست حفلة تعذيب خاصة أنني أقدم عالماً قاسياً به كوابيس فلا يمكن أن أقدم ذلك بشكل ممل فأنا لست سادية. كما أنني أحب أيضا الروايات البوليسية وقارئة نهمة لها وأعتقد أن أهم فكرة يمكن أن تقدمها للكاتب فكرة أن يكون حريصا على التشويق وأن يخلق حبكة قوية وغموضاً يجذب القارئ. والغموض إذا لم يكن مبالغا فيه يثير شهية القارئ للفهم. وربما كان هذا واضحا في متاهة مريم أن الرواية بدأت بلغز «لماذا بقيت مريم على قيد الحياة بعد الحلم؟».
[ ما رأيك في حال الرواية الآن؟
– الرواية تعيش الآن حالة ازدهار في الوطن العربي ككل. والحكم من ناحية الكم مشكلة لأن الكم أحياناً أكثر مما يجب وسهولة النشر في بعض الدول العربية تصنع مشكلة اختلاط الجيد بالسيئ مع غياب الفرز النقدي بما يشوش على أعمال جيدة. هناك روايات كثيرة مهمة تصدر وأحاول الاطلاع على ما يكتبه الكتّاب في دول عربية أخرى. وهناك كتّاب أكون حريصة على متابعة أعمالهم مثل جبور الدويهي وفواز حداد وهدى بركات وعلوية صبح ورشا الأمير وغيرهم.