جبل الزمرد.. نص ثقافي مضاد لألف ليلة وليلة

جبل الزمرد.. نص ثقافي مضاد لألف ليلة وليلة
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 

تتمتّع "ألف ليلة وليلة"بقيمة عظمى وتأثير فني راقٍ ورصيد ثقافي وخيالي ثريّ في ذاكرة الشعوب العربية، بل في ذاكرة العالم أجمع. لذلك، فلا غرابةَ أن ينطلق نقّاد الأدب ومؤرّخوهمن فرضيّة مركزيّة أرستها الدراسات المقارنة العربية والغربية على السواء؛ وهي ثنائية "التأثير والتأثر"، وذلك لاعتبار منطقيّ وعلميّ أوحد هو كون "ألف ليلة" هي النصّ الأقدم المؤثِّر في النصوص اللاحقة شرقًا وغربًا. لكنْ، هل ثمة نصٌّ إبداعي يمكنه أن يقلب الوضع، أو يعيد صياغة هذه المعادلة،خصوصًا إذا تبنّينا منظورًا ثقافيًا أكثر مرونةً، يبحث عن تأثير نصوص أدبيّةلاحقةفي نص قديم ومحوريّ مثل "ألف ليلة"؟! بالقطع، سوف يبدو الأمر عبثيًاما لم نضع أيدينا على نصّ بعينه، أو حكاية مقصودة بذاتها، استطاعت أن تعيد صياغة، أو تفكيك، أو حتى نقض، بعض حكايات (أو أجنّة) "ألف ليلة" بأشكال وطرائق فنية مغايرة، ولأهداف وغايات صريحة أو مضمرة. من هذا المنظور، يمكن قراءة رواية "جبل الزمرد" (2014م) التي سعت من خلالهامنصورة عزّ الدينإلى تفكيك حكاية حاسب كريم الدين في "ألف ليلة وليلة"، ثم نقضها، وإعادة كتابتها من منظور تخييلي مغاير.

إن النص المضادّهنا هو نص موازٍ بالمعنى الذي تناوله به المشتغلون في حقل الأنواع ودراسات التناصّ، من أمثال ميخائيل باختين وجوليا كريستيفا ورولان بارت وميشيل ريفاتير وجيرار جينيت. وما أقصد إليه بالنص الموازيهو ذلك الذي تستطيع سرديّته أن تشيّد تناصّاتها وإشعاعاتها ومرجعياتها على حكايات “ألف ليلة وليلة”، لا من موقع الدهشة والاستسلام والمحاكاة، أو مجرد المناوشة والمشاكسة والرغبة في الخلخلة فحسب، بل من موقع الحواريّة Dialogism  المسكونة بمحاولات مستميتة في تفكيك خطاب الليالي أولًا، ومحاولةنقض بعض بنياته الحكائية ثانيًا،وإعادة إنتاج(أو حتى انتحال) إحدى مرويّاته ثالثًا. بالطبع، سيكون في الأمر، هنا، شبهة افتراء بعض الحكايات، ولو على سبيل ممارسة جريمة فنية أوانتهاك جمالي.من هذا الموقع المتفرّد، شيّدت رواية “جبل الزمرد” حكاياتها المتشعبة حدّ التنافر بين قطبين معناطيسيين متشابهين، المتجاذبة حدّ الاستقطاب الذي يمكن أن يقع بين قطبين مختلفين. وهو أمر ليس ببعيد أبدًا عن جاذبية حكاية جبل المغناطيس الحاضرة بثقل في متن الرواية.

استطاعت منصورة عز الدين أن تُلقِي بنفسها، وبالقارئ من ورائها، في فضاء سرديّة عربية جديدة، تشتغل على نفسها، وتنهل من طبقات وحفريّات تتكئ على عدد كبير من المفاهيم المتشابكة التي ذكرتُها في كتابي الأخير (سرديّات بديلة/ 2012م)، كـ”العلامة” أو”اللعب” أو”الأثر” عند جاك ديريدا، و”العود الأبدي” عند فريدريك نيتشه، و”الجنون” أو “التّيه” أو “القرين” عند ميشيل فوكو،.. إلخ. هكذا، تُحاوِر “جبل الزمرد” عددًا غير قليل من المقولات الثقافية والجمالية التي تجعل من الجسد الروائي موازيًا أو معادلًا موضوعيا لنسيج عريض تعتريه الكثير من العُقَد والتمفصّلات المفهومية التي تُجذِّر التخييليّ في رحم الثقافي والتاريخي والسياسي. فضلا عن ذلك، سوف يلمس القارئ حرص الكاتبة الأثير على إنتاج لغة قصصية مختلفة ومتميزة تشير بوضوح إلى تنامي “سردية بديلة” في الكتابة القصصية المصرية المعاصرة؛ أقصد إلى تيّار يستعين بتفجير الطاقة القصوى للذاكرة الإنسانية، ويمتاح من رحم الغرائبية، وينهض على توظيف طاقة الأحلام وتعزيز آثارها في تشكيل المعرفة الإنسانية.

تشتبك “جبل الزمرد” مع “ألف ليلة وليلة”، منذ عنوانها الفرعي الذي يحمل عنوان “الحكاية الناقصة من كتاب الليالي”، اشتباكا بنيويّاً ومخاتلًا في الوقت ذاته، حيث تتكون الرواية من 17 فاصلا سرديا متصلًا منفصلًا، تتناوب ما بين الواقعي والغرائبي، في مراوحة بندوليّة بين عالم الليالي بشخصياته المتخيّلة (زمردة/ إيليا، الراعي/ مروج، ياقوت/ نورسين، بلوقيا وجبل قاف،…) وعالم الرواية الواقعي(هدير، نادية، كمال، شيرويت قنديل، كريم خان، …)، فضلا عن سرّة العالم الروائي ومركز الثِّقَل فيه “بستان البحر” التي ينهل اسمها من غرائبية عالم الليالي، اعتمادًا على تركيبيّة الاسم التي هي وجه من وجوه ازدواج الهويّة، وازدواج الوظيفة التي كانت ملقاةً على عاتق شهرزادباعتبارها منبعَ هذه الصورة التمثيلية التي تُعلي من شأن المرأة، وتضعها في مرتبة الفاعلية لا المفعولية في سلّم الثقافة والتاريخ والاجتماع، ولو على سبيل تفكيك الرؤية النسوية أو نقضها بمرويّات مضادة Anti-Feminist Narratives. لا تنهضمرويّة “جبل الزمرد” على ثيمة واحدة رئيسية، بل ثمة عدد من الثيمات الفرعية المتشابكة، مثل ثيمة الرغبة في كشف المخبوء والمتواري، أو تعرية السرّ المكنون، أو اللُهَاث وراء المعرفة، أو الهوس حدّ الجنون بفكرة الخلود التي هي فكرة ملعونة تُفضي بصاحبها غالبًا إلى الموت (ولها جذور في مرويّات منصورة عز الدين السابقة). لكن تبقى ثيمة “المعرفة” وحدها، هنا،هي الهاجس المحوري الذي يسكن شخصيات الرواية جميعها، بدرجات مختلفة، رغم تعدّد مشارب هذه الشخصيات، وتنوّع ثقافاتها، وتباين أعراقها وأجناسها، وتمايز مصادر تكوينها النفسي والاجتماعي والتاريخي.

ولأنّ “جبل الزمرد” مرويّة معرفيّة بالأساس، مهمومةُ في جوهرها بتشييد مملكة عريضة من التمثيلات الفنية والجمالية للإنسان المعاصر الباحث عن الحقيقة والمعرفة والتوّاق إلى نسمات الحرية في زمن انتشرت فيه الأباطيل، وعمّ فيه الجهل، وتفشّت فيه أشكال لانهائية من القمع ووأد الحريات؛ فإنها تشكّل تفصيلات عوالمها الداخلية من عدد كبير من الاستعارات والتمثيلات السرديّة الكبرى (كاستعارة التّيه الذي يشبه تيه بني إسرائيل، واستعارة المغناطيس وجبل قاف، واستعارة اللعنة، واستعارة المهديّ المنتظر،…)، والرموز (مثل رمزية الألوان، ورمزية الجبال السبعة، ورمزية الكهف والجبل،ورمزية قلعة آلموت،..)، وتراوح مستويات السرد بين الغرائبي والواقعي (مثل تعدّد الرواة، وتباين مستويات الحلم، وتناسل الحكايات،..)، وتكاثر مستويات التناصّ (ما بين القرآن، والتوراة، ومتن الليالي،وحضور أنفاس بعض المتصوّفة كالنفّري والتوحيدي وفريد الدين العطّار، وغير ذلك..). وعلى الرغم من هذا الزخم التناصّي والامتلاء الثقافي والارتواء الدلالي والسيميولوجي،لا تخلو مرويّة “جبل الزمرد” من مناوشة الثورة المصرية التي جعلت منها الراوية -ومن ورائها “المؤلّفة المضمرة” بالطبع- إطارًا موازيًا أو معادلًا موضوعيًا لإطار بستان البحر التيجمعت بين ملامح الواقعي والغرائبي باقتدار.

جبل الزمرد” مرويّةُ ثقافيةٌ مضادةٌ لـ”ألف ليلة وليلة” في ظاهرها، نقضٌ لتداعيات الثورة المصرية 2011م وملابساتها في باطنها، تشريحٌ لجوهر الإنسان الباحث عن أسرار الوجود ومسالك الخلود ودروب المعرفة الخلّاقة التي تضع حياته على حافّة الجنون أو التّيه أو الموت.

 

*نُشِرت المقالة بجريدة القاهرة

عودة إلى الملف

 

 

مقالات من نفس القسم