عنِ الذي لَا يُسافر ولَا يُحِبّ
كأن الشعرَ ينسحبُ منِّي
ببطءٍ كمن يموتٌ في مكانٍ واحدٍ ولم يُسافر،
مثل نيرودا وهو يضع كل حياته في الكلمات ثم يشاهدها وهي تتبخّر
ببطء كمَا يقول عن الذي لا يُسافر
ولا يُحب
ولا يعتنق الخطر.
أختلفُ مع الأيام،
ولا أريدُ مصالحتها،
ولَا حتى معرفةَ أسمائها؛
لهذا اخلطُ الأحدَ بالثلاثاء
وأضعُ الجمعةَ على النافذةِ لتتشمّس.
لهذا انا دائمًا في عطلة.
عرفتُ دائمًا
أن الموسيقى والفنَّ أفيونات رائعة،
أمّا الشِّعر فهو السمُّ المقدّسُ
مَنْ ذاقه تمزّقت روحُه
وعاشَ جسدُه ليحكي عن هذه القصة الحزينة.
في الصيف، بالإضافة إلى الحرب،
الموتُ كائنٌ غريبٌ
يتجوّلُ بحريةٍ.
في هذه البلادِ الضامرةِ
عاشَ الإنسانُ على الارضِ، قبّلَ ترابَها الجاف
ومازال منذُ ملايين السنين،
يقعُ عرقُها في عينِه العمياء،
ويشربُ مِنْ مائها العطن
ويقبِّل اليدَ بالظاهرِ والباطنِ.
ماذا يريدُ اللهُ بهذا الرضى الميت؟
بهذا الامتثال الغبيَّ؛
لديه الكثير من العبيدِ في السماء.
عندما صنع الانسان،
كان يقصد الحرية.
…………………………..
خلط
لكثرةِ ما أعدو بين الوهمِ ونقيضه،
أحبُّ أن أخلطَ العناصرَ
والتراكيبَ الغريبةَ.
في الخلطِ جنونٌ أحبُّه،
في الخلط تنام الأيامُ لكيلا يأخذها أحد على محمل الجد.
وعندما رأيت الكلمة المشعة
تلك التي لم يفسدها السابلة
ولم يلوثها الغباء
عرفت أن الضوء الحقيقي ينبع من القلب.
أمشي وفي يدي قبضة من نور لن يأخذها مني أحد.
أرعى في الوهم قطعانَ خيالي
أتركُ البابَ مواربًا لتدخل نجمةٌ ما.
كل ما أفعله هو طريقتي لكي انتهي ببطء،
مثل ساعةٍ رمليةٍ تتسرَّبُ في الفراغ.
…………………..
توقف
ليتكَ تتوقّف
عندَ البابِ،
عندَ العتبةِ المشقّقة،
عندَ كلمتكَ القاسيةِ
وضميركَ الرّكَامِيّ.
لا تزرنا في الحلمِ أو اليقظة،
لا تظنّ إنّكَ تعرفنا،
لا تمرّ عبرنا،
لا تنادينا في الليل،
لا تتخاطر معنا،
توقف.
أكلَ الدبُّ غذاءكَ، وأنتَ تنتظرنا.
اكلت الايامُ روحَك بلا طائل.
أيها الحزن ذو العيون المائلة.
انه اليوم الذي وُلِدَ فيه نيرودا،
واليوم الذي تكسّرت فيه أقدامُ البلاد،
مَنْ يُبَالي؟
نيرودا مات، والبلادُ تموتُ وتستيقظُ مِنْ موتِها كلّ يوم.
ترى النهبَ، ترى الموتَ والحقدَ،
ثم تعود الى نعشِها المكسور؛
وتقول: لَا تُوقظوني.
ولكنها تنهض مِن جديد.
تنتبه على هرجِ النضالِ المزيّف،
وعلى زعيقِ الرؤساء على المنابر،
وعلى غيبةِ الحقّ،
وموتِ الضمائر.
إنِّي أنسى،
أرمي كلّ شيءٍ مِن نافذةِ دماغي،
أمسحُ ذاكراتي بالماء،
وألمعُ في اليوم التالي
كخاتمِ فضّة!
______
بيتٌ يُحِبّك
أذهبُ إليكَ بمخيلةٍ النحل
أشتري لكَ مِن باعةِ الصوفِ بيتًا مِن الشّعر.
كلمةٌ منه تصنعُ منازلَ بلا أوتادٍ أو
أعمدة.
بيتٌ مِن السّحاب تأويه النجومُ،
وتعوي دونه الذئابُ،
كي لا يقترب أحد.
بيتٌ أسمِّيه نفسي.
بيتٌ يُحبّكَ.
أضع نصّي حيث ينبغي أن يكون،
في النار أو الوحل.
أتنازلُ عنه للضباع وأسنانِ الرّيح.
لا أجرّه معي ولا أمجِّدُ سلالَته.
نصّي المشتّتُ والمتّسخُ بالقراءاتِ الفجّةِ
هو براءٌ مِنَّي، ومِنْ نفسِه؛
فلا يغوصُ ولَا يَمْتثِل،
ليظلَّ مثل كدمةٍ مدماةٍ في وجهِ الكتابة،
أو جرحٍ مفتوح للذبابِ والغرباء،
ضائعُا بلا حد.
أكتبُه واتخلّى عنه أيضًا،
أسجنه في كتب لا يقرأها أحد.
نصٌّ مهانٌ هُنا،
ومُحَاصرٌ بالحمقى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شاعرة ليبية .. والديوان صادر عن سلسلة إشراقات التي يشرف عليها أدونيس
صدرت مؤخرًا عن دار كتب