أسعد سليم
في زمننا الذى نعيش، حيث تاهت فيه الأرواح وسط عواصف من الضجيج والمعاناة، وأصبحت الأوهام تحاصرنا كالضوء الخادع، يطل علينا كتاب “الحياة: ماذا أنت فاعل بها؟” للمخرج والكاتب أحمد عاطف درة كنسيم الصباح المنعش، وكنغمة عذبة تتسلل إلى الوجدان بكل بساطة، حاملا معه صيحات الأمل والتفاؤل. يعد هذا الكتاب بمثابة سفر روحى يلامس القلوب، والذى يدعونا لنغوص في أعماق ذواتنا وأسباب وجودنا، وكأننا بداخل سفينة تعبر بنا من حالة إلى حالة من الشعر والحكمة، تتهادى في موانئ الفلسفة عبر بحر الزمن الطويل، موجاته تحمل عبق الماضى، وأحلامه تنير الطريق كنجوم زاهية في السماء، في رحلة موسيقية ناعمة أحيانا كلحن قديم، وصاخبة أحيانا أخرى كإيقاعات الأيام التي نحياها.
تبدأ الرحلة عبر ضفتى الكتاب بهمسة حانية، تخبرنا بأننا في عالم تتشابك فيه خيوط الضلالات كشبكة عنكبوت، ولذلك فنحن بحاجة إلى بعضنا بعضا. يحاول المؤلف أن ينير دروبنا المظلمة التي نخطوها بوجل، وأن يجعل كتابه كمصباح نسير على هديه، حيث يمنحنا خريطة للعبور وسط آلام الحياة من خلال بصمات العارفين. يستلهم أحمد عاطف درة من أرواح العظماء: جلال الدين الرومى بجلاله الصوفى، جبران خليل جبران بحكمته الشفافة، وباولو كويلو بتأملاته النفسية العميقة، لينسج لنا لوحة مزركشة تجمع بين عبق التاريخ ونبض العصر الحديث.
تمتد بنا رحلة الحياة كما صاغها أحمد عاطف عبر التاريخ البشرى كقصيدة لانهائية ترصد حالة الإنسان منذ كان متجولا في الكهوف، معتمدا على غرائزه كالحيوان، باحثا عن الطعام والأمان في ظروف إنسانية قاسية. ثم التحول الجذرى برسم لوحاته الأولى بالدماء على الصخور، والإصغاء إلى أنغام الطبيعة الملهمة بالموسيقى والشعر. لكنه أصيب بطاعون الغرور والجشع، هذا السم الذى لوث الحرث والنسل. فالطمع كما يراه درة أم الآثام، ينسج خيوطه حول العقل والروح فيطمسهما. لكن الرحمة هي زهرة الكون، تتفتح في نفوس الأنقياء، كأنها نهر مقدس يغسل الروح من الدنس. الخطايا المميتة كالفجور، الشراهة، والكسل، تتربص بالبشر كأشباح قاتلة في ظلام دامس، ولن ينقذنا منها سوى الرحمة كمفتاح للخلاص.
في هذا المزمور الشعرى، تتحول الآلام إلى سمفونية مدهشة، حيث تتحول الموسيقى لتصبح بلسما مداويا، والفن كمرآة تعكس انتصار الروح على المعاناة، ساردا قصصا من حيوات فائتة: عجوز يجد في طائر جريح ملاذا لروحه المتعبة، يرعاه وكأنه ينقذ ذاته، أو ابن يعانق والده في لحظة تصالح درامية، كأن الزمن توقف ليمنحهما لحظات خالدة. إنها ليست مجرد حكايات تروى وتقص على مسامعنا، بل أناشيد متدفقة تخبرنا أن للشقاء نهاية، وللألآم حدود يمكننا تخطيها إذا لجأنا للفن والطبيعة، كأنهما شريكان في رقصة للسعادة، يشفيان الروح، ويوقظان العقل من سباته.
يرى درة أننا نعيش بداخل نظام كونى بديع، حيث طاقة الشمس تبعث فينا الحياة، والموت ذاته تربة لولادة جديدة، الملائكة أرواح شفافة تحرس البشر وتحصى أفعالهم، بينما الشياطين توسوس وتزرع الشر في النفوس. ولهذا، يبرز الجهد الإنسانى كشجرة مثمرة، لا من أجل البقاء وفقط، بل لنشر الحب وعمارة الأرض بأنامل الشعراء والعلماء والفنانين، فالإنسان كائن مميز بالعقل وبحرية الاختيار، يصنع صلته بالكون وخالقه، إنه كلوحة تتجدد وتزدهر مع طلعة كل صباح.
يغوص الكتاب في أسرار كيمياء البشر والأمزجة، ويتساءل عن أسباب الانجذاب والنفور: هل هو الجمال الزائل الذى يسحر العيون، أم الرحمة التي تتغلغل في النفوس؟ يروى درة قصصا عن أمهات نسين الحب في لحظات اليأس، وإخوة يتحولون إلى أعداء تحت وطأة الجشع، وأقوياء يسحرون العالم بقوتهم الظاهرة، لكنهم ينهارون أمام هشاشة قلوبهم. إن كيمياء البشر سر إلهى، كأنها لوحة بديعة تشكلت من النور والظل.
ويمتد الكتاب ليصل إلى تأملات أعمق في طبيعة الوجود، حيث يدعونا درة للنظر إلى الحياة ككتاب قمنا بصياغته بأنفسنا، كل صفحة نخطها بألوان الشجاعة أو الخوف، الحب أو الأنانية، وللجميع مطلق الحرية في الاختيار. وبما أن مؤلف الكتاب يعمل مخرجا سينمائيا، فقد رأى العالم من خلال عدسة الكاميرا الدقيقة، محاولا التقاط الإنسانية في لحظاتها الأكثر صدقا، كما كان النيل متدفقا بين السطور، حاملا حكايات الأجداد وأحلام الأبناء. يقارن درة بين مصر، بضجيجها الحانى ونبضاتها المتدفقة، والعالم الغربى البارد، حيث الوحدة تغلف القلوب كالضباب. مصر من وجهة نظره أرض تحمل كل الألوان والنكهات، حيث الجيران ونس والنيل أغنية خالدة لن يوقفها الزمن.
إن فكرة الكتاب الجوهرية تمثلت في دعوتنا إلى الصحوة الروحية، كشمس تشرق بعد غياب طويل. فالفقر، كما يراه، ليس نقمة في كل الأحوال، بل يمكنه أن يكون نعمة تعلمنا القناعة؛ والمرض درس يوقظ المرء من غفلته؛ والحب درع ضد اليأس والإحباط. يولى الكتاب اهتماما خاصا بالمرأة، حيث يشبهها كبحر ملئ باللآلئ، تتغير ألوانها كالزئبق، وتتراقص أمزجتها كنغمات متباينة، إنها طاقة حب تغمر الأرض، وأمومة تهز القلب، المرأة رمز للحياة ذاتها: متغيرة وراسخة، قوية وهشة، ولن يكتمل الوجود إلا بحضورها.
يهدينا أحمد عاطف خلاصة تجربته “ازرع شجرة، أضئ نورا، ودع الدماء تهدأ”. أنها دعوة للتخلى عن أثقال الماضى، واستقبال الحاضر بنظرة متفائلة، كأننا نولد من جديد مع كل فجر. يحثنا على الانتصار للجمال في مواجهة القبح، وتغليب مشاعر الحب على مشاعر الكراهية، نحن قادرون على تشكيل مصائرنا، على عزف سيمفونيتنا الخاصة، لنكون أبطال قصصنا لا مجرد ظلال باهتة.
الحياة: ماذا أنت فاعل بها؟ كتاب تأمل وحكمة، مصاغ بلغة شاعرية تصل للقلوب والعقول، يبث الأمل في النفوس المتعبة، ويرتاح المرء بين شاطئيه من أوزار الحياة، إنه دعوة لنعيش بوعى، لنحب بصدق، لنترك بصمة خاصة لنا في تلك الحياة تظل تتردد حتى بعد أن نغيب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتب مصري