هل أي منّا كثير على عمل ما؟ لا أشعر بتلك الكثرة، ولكن باتساع العالم من حولنا.
هل يمكن اعتبار العمل الصحفي، والكتابة الأدبية أعمق وأكثر تأثيرًا مثلاً من تعليم الأطفال؟
الكتابة…
منذ سنوات اتخذتها صديقتي المقربة، التي لا أستغنى عنها، ولا يمكن لأحد ما أخذ مكانها، فرغم عشاقها ودراويشها، إلا أنها رحبة تسع الجميع، وقت حاجتي إليها، تسبقني إلى جلستنا سويًا، تنصت إليّ من دون تململ، ولا تمل حتى أمل بفضل الله.
أحدثها:
عزيزتي غدًا لديّ يوم ثقيل في الحضانة، وعقلي يدور في فقرات “اقرأ لطفلك” -يأتي ولي أمر طالب عندي، مفاجأة لابنه أو ابنته ليقرأ له ولباقي أطفال الفصل قصة – ولكنني أضفت فقرات جديدة، لأول مرة ستقوم “ليان” بدور “صحفية صغيرة”، ستجرب محاورة ولي الأمر. كما أنني وضعت عنوانًا لليوم تتسق فيه القصة المقروءة مع أنشطة تجعل تجربة التعلم ممتعة للأطفال، وتفتح لولي الأمر بابًا للدهشة والتفاعل وكسر الروتين، يومنا عن حواسنا الخمس.
البصر
أقوم في الصباح الباكر، أصلي، أعد الإفطار، أجهز ابنتي الصغيرة، وفي موعدي أكون في الحضانة. يصطف أطفالي وقت الحضور، أمام الفصل ليختاروا طريقة تناسبهم في السلام، منهم من ينظر إلى القلب المرسوم على الحائط، ليستقر في حضني، ومنهم من يخبط على الكف المرسوم لأرفع كفِّي ب “هاي فايف” ومنهم من يكتفي بسلام هادئ باليد، أو يرفض حتى السلام، بحسب حالتهم المزاجية.
نرتب اليوم، أنا وزميلتي، تقرر هي ترك تدريس “الماث” و”الإنجليزي” لتوثق اكتشافنا لعالم الحواس من خلال عدسة تليفونها، بينما أضع أنا أكواب الألوان الأساسية أمام أكواب فارغة، نمزج كل لونين، لخلق لون جديد، يصفق الأطفال للبرتقالي، الآتي من اتحاد الأصفر بالأحمر، والأكثر إشراقًا وطفولية منهما.
يترقبون البنفسجي الناعم، يحبونه ولكن لا يفهمونه، بخلاف وضوح الأزرق ودموية الأحمر، ثم ينطلقون على أرضية الأخضر المنبسط مثل غدٍ واعدٍ، يحلم ولا يدرك ضريبة النمو واستقامة العود.
السمع
تأتي “كيرا” الأمريكية لتتابع ما نفعل مع أولادنا، ولكنها تتفاجأ بأن ابنتي تجيد الإنجليزية رغم صغر سنها؛ وأنا لم أفهم كلمة واحدة منها، لم أرتبك فهي لم تفهم أيضًا العربية، إلا أنها تفاهمت معي من خلال أصوات ضحكات الأطفال وهم يلونون شجرة ستطبع عليها بصمات أصابعهم الصغيرة.
بعد اكتشاف الألوان، أسأل الأولاد، ما هو صوت القطة، صوت الكلب، الأسد،…. يموج الفصل بالمواء والنباح والزائير والنهيق والنقيق المتداخل مع ضحكات والدة “يونس” ضيفة يومنا.
أفكر لو أن “كيرا” كانت معنا ستميز مثلنا كل صوت من الأصوات… يبدو أن هناك لغات كثيرة نشترك في فهمها رغم اختلاف ألسنتنا.
اللمس والشم والتذوق
نغمي عينيها فيضحك ابنها وباقي الأطفال، تتحسس أصابعها الخشن والناعم، ثم تغوص في السائل وتصطدم بالصلب، يجرب كل طفل من الأطفال الشعور بملمس الحياة من حولهم، ربما ملمس الكلمات والمعاني، ملمس أننا نلتف جميعًا حول طاولة واحدة، يقشرون فرحتهم من فوق تفاصيل يوم ملمسه عادي.
نقرب من أنفها الريحان، والخوخ والجوافة فتعرفهم، ولكن لم تجد للمشمش والتفاح رائحة، نجعلها تتذوق لتؤكد لنا حلاوة السكر، وملوحة الملح، برودة الماء ودفء فنجان القهوة، والأولاد يهللون لرائحة البراءة وطعم القبول ورحابة التعلم والاكتشاف.
كيف يكون أي منّا كثير على عمل ما!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من مجموعة حول “يوميات مدرسة حضانة”