عفاف عبد المعطي
لا يحتاج الكاتب خالد إسماعيل إلى تعريف، فلأكثر من عقدين من زمن الكتابة الروائية أخلص لهذه الكتابة وظل يمتح من معين الإبداع الروائي والقصصي، حتى أنتج ما يربو عن الأربعة عشر نصاً. القارئ لنصوص إسماعيل يجد أنه يصعب أن يفارق واقع صعيد مصر الاجتماعي، الصعيد أو مصر العليا ذلك العالم المترامي بشخوصه وعاداته وتقاليده وحتى لهجاته المتنوعة.
في روايته “أبو القمصان” التي صدرت حديثاً عن دار الأدهم، نجد الراوي سعيد أبو القمصان ذلك الشاب الحامل لارث النقمة على ذوي البشرة السمراء، بدءا من أبيه مرورا بكل من يحمل سمات شكليه ولونية سمراء اللون ذات الشفاه الغليظة والشعر الأجعد، والذين يتقلص دورهم في دور الخدم أو ماسحى الأحذية او العبيد إسقاطا على عنترة بن شداد.
فى الجزء الأول من النص يقدم الكاتب خالد اسماعيل مشاهد شائقة من السرد الجمالي الذي لا يستطيع القارئ معه إلا أن يستمر نازحا بين سطور الرواية. فهو ابن جوهر أبو القمصان أسود البشرة نموذج للأب المتفاني في عمله ليكفي الأسرة شر الحاجة والذى يمثل عقدة لابنه ليس لمعاملته فحسب؛ بل أولا واخيرا لبشرته السمراء التي تصُفّه فى وضع الدونية الاجتماعية وأمه هنومة عويس الغيطاني الصعيدية التى يحبها ابنها سعيد (الراوى الذاتي) ليس لشيء إلا لبشرتها القمحية التى توارثها عنها فأنقذته من سخرية اجتماعية نأى دائما بشخصيته الهشة عن مواجهتها.
جوهر ابو القمصان، مراسيلة فرج الله. سعدية جوهر. فرج ابو القمصان. يونس الهلالي. ناهد الصياد. شخصيات تضمها الرواية التي يرويها بطلها سعيد فيحكي عن أبيه جوهر أبو القمصان الشيخ بالأزهر الذي يصفه بأنه أسود البشرة طويل القامة عريض الكتفين أكرت الشعر لم يكن في سواده أحد في شارع أبوبكر الصديق شرق الأميرية وكان يخطب الجمعة في جامع الهواري بعد تعيينه به في وزارة الاوقاف وقد انتقل من شبرا مصر إلى الأميرية.
ينتقل الحكي ليحكي حكاية الأب، ومن ثم حكاية الجد ثم حكاية الأسرة، فأبوه يشبه رجالا يعملون خدما في أفلام الابيض والأسود، ويشبه عنترة بن شداد في الفيلم الشهير وهذه هي عقدة الفيلم والخطاب الروائي الذي تبدي في كتاب المهمشون في التاريخ الاسلامي للدكتور محمود اسماعيل ومنهم الصعايدة الُسمر القادمون من أقاصي الصعيد ويشغلون مهنا محددة من جزماتي يُصلح المراكيب إلى قهوجية وأعمال اخري كثيرة هامشية، ثم ينتقل السرد الحكائى بعناوين متوالية ليحكي عن أصل العائلة الجدة (مراسيلة فرج الله) بوجهها المكرمش والشُرط في خديها والتي تحكي عن جده الشيال في محطة باب الحديد الذي مات وتركها هي وابنها فرج وابنتيها بخيتة وسعدية.
فرج العم تطوع اومباشي في سلاح حرس الحدود وسافر إلى اليمن بعد ثورة اليمن عام 1962 وهناك قُتل ودفن وقبضت الجدة التعويض الذي تزوج به أبوه من أمه وظلت الجدة تتقاضى معاش الجد أبو القمصان من السكة الحديد لتصرف منه علي بناتها سعدية التي فاتها قطار الزواج أما العمة بخيتة فقد تزوجها شيخ ضرير يقرأ علي المقابر في البساتين أنجبت له خمسة أولاد يعملون في مهن السائق والمكوجي والنجار والحلاق وقد احترفت الجدة علاج العاقرات بطرق موروثة بتماثيل فرعونية صغيرة وأوان فخارية. وكان ابنها فرج لا يعصيها ويقول “كلمة أمي علي رقبتي ليوم الدين” وتتوالد الحكايات من بعضها بسهولة ويسر شديدين، فيخصص الكاتب خالد إسماعيل فصولا بأسماء اصحابها فيحكي عن سعدية جوهر التي ارتدت الحجاب والجوانتي ثم حصلت على دبلوم المدارس التجارية ثم معهد المعلمات حتي وصلت لوظيفة وكيل مدرسة وتزوجت من حفظي عطية النوري صاحب محل البقالة ومحل الجزارة في شارع أبوبكر الصديق وهو من قرية موشا بأسيوط وينتمي إلى طائفة النور الغجر الذين يسكنون أطراف القري وتتوالد الحكايات.
فرج أبو القمصان و حكايته وتعليمه وتطوعه بالجيش وتعرضه للظلم وخطابه إلى الإمام الشافعي الذي وجده في أوراق الجدة ثم في فصل مستقل يكتب عن يونس الهلالي صديق البطل الذي سانده واحتواه بعد خروجه من بيت أبيه عقب رفضه أن يخطب بنت شيخ أزهري كان قد اختارها له أبوه كجزء من الحياة الانتهازية التي اتسم بها الأب والذي أطلق عليه جوهر أبو القمصان الذي يعبد القرِش.
تعرف سعيد علي يونس الهلالي من أول لقاء أمام مكتب شؤون الطلبة في كلية الآداب جامعة القاهرة إذ اخترق مجاله النفسي بقوله “أهلا بلدياتي” وتعارفا علي أنهما من سوهاج واحتواه يونس ووفر له عملا وسهرات شرب الخمر والحشيش ووصف له أصل المشكلة وهي الخطاب الروائي كتاب المهمشون في التاريخ الاسلامي د/ محمود اسماعيل أستاذ التاريخ الاسلامي إذ قامت ثورات أثناء السيادة العربية من الزنوج والزط وهم عبيد مجلوبون من شرق افريقيا والهند وتسخيرهم للعمل وقامت ثورة ضد بني أمية في البصرة قضي عليها الحجاج بن يوسف الثقفي وثورة أخري أيام العباسيين قضي عليها الخليفة العباسي الموفق.
يصف يونس الهلالي بأنه كان بارعا في كل شيء في الكلام والمناقشة والكذب اذ كان كذابا عظيما وكان سعيد تابعا له وأسيرا مطيعا. ثم تعرف سعيد علي ناهد الصياد التي يفرد لها فصلا خاصا والتي قابلها في صالون أدبي (صالون د.حنفي الطاهر ) ويصفها بأنها ذات العينين الملونتين وبها لمعة من الذكاء تجعل من ينظر اليها يتوه إعجابا وشعرها المرسل بجنون الذي يذكره بالغجريات وصوتها الرقيق.
كانت تدرس بقسم الأنثروبولوجي وتعد رسالة ماجستير في أصول الموسيقي الأفريقية، أخذها وطاف بها وأخذت عقله وروحه، ثم طاف معها البلاد وكتبت آلاف الصفحات وسلمت هذه الأبحاث عن الموسيقي الأفريقية إلى الجامعات الأجنبية والهيئات المهتمة بالفلكلور ثم حصلت علي الماجستير والدكتوراه وحين سقط في الصبابة والعشق وتعلق بها شاهدها مع يونس الهلالي في شارع عماد الدين يحيطها بذراعيه ويحتويها مثل أي عاشق فقرر الانتقام منها وقتلها وشهد عليه يونس بأنه سبق أن هددها بالقتل سلفا وهو الآن يحكي حكايته من السجن.
أربعة انواع من الطرائق السردية استخدمها الكاتب خالد اسماعيل فى روايته المائزة “أبو القمصان” هى : السرد اللاحق / السرد السابق / السرد المتزامن / السرد المدرج.
السرد اللاحق هو الذى يكون زمنه تالياً لزمن الحكاية، وهذا هو الموقع المألوف للسرد؛ إذ من الطبيعى أن تكون الحكاية سابقة للفعل السردى تجسد ذلك فى حكايات الماضى التى وصفها الراوى سعيد باقتدار عن الوالد و تفاصيل حياته. أما السرد السابق فهو الذى يكون زمنه سابقاً لزمن الحكاية. وانتظام القصة وفق هذا النمط من السرد ظاهرة نادرة في القص التنبُّئي خاصة مع وصف الراوى للعلاقة الأثيرة مع ناهد الصياد.
أما السرد المتزامن فذلك الذى يزامن مع الحكاية إذ تتم رواية الأحداث أثناء وقوعها على غرار النقل الفوري لمباراة في كرة القدم، ويعتبر أبسط أنماط السرد لأن التطابق بين زمن الحكاية وزمن السرد يلغى كل إمكانية للتداخل بينهما أو للتلاعب بالزمن. و مثال للسرد المتزامن مُقتطف الاسترجاع لطفولة الراوى سعيد وموقف أخواته من أفكاره المتمردة. أما السرد المدرج فهو ما خطه الكاتب خالد اسماعيل متمثلا فى كتابة كل شخصية بلا زيادة ولا مط ولا ملل. فكل شخصية مروى عنها فى النص مكتوبة باحترافية مبضع الجراح.