هبة حافظ
كنت أعتقد أن شرارة الحب تولد عندما نحدق في وجه شخص ما ونكون غير قادرين أن نشيح ببصرنا عنه، نركز على تفاصيل كل شيء وأثر تلك التفاصيل، كأن العالم يدور حولها، حول نظرة العين، رمشة الجفن، الابتسامة، الضحكة.. بل صوت الضحكة، العالم كله يدور حول عينيه العسليتين وحركة يده.. لكن هل العالم يدور حقاً؟
لكني أدركت أخيراً أن بعض البشر لا يناسبهم التحديق، تلك الشرارة التي تسبب قشعريرة ممتدة تولد عندما لا تستطيع التحديق في عينيها أصلا، عندما لا يمكنك النظر إلى صورها، أو تحمل نظراتها ووجهها، عندها تعرف أن العالم لا يدور؛ لأنه توقف.. هناك.. عند ضحكتها ونظرتها وتفاصيلها وبهجتها.
الآن وعلى مسافة واحدة بين النظرة واللانظرة.. أنا وأنت.. في أبعاد مختلفة.
بعد أن اعتدنا وجودنا معا في بعد واحد.. مغلق علينا نحن فقط.. بكل ما نحبه وما لا نحبه.. اعتدنا القرب والصورة والصوت.. اعتدنا قول: “لا لن أترك ذلك كله، لن أترك التجربة، أريد التفاصيل حتى النهاية، أو حتى البداية”. بعد اعتيادنا لعبنا مع، واعتيادنا وحدة وجودنا معا.. اعتدنا وحدتنا.
اسمع نداءك، أعرفه.. نداء من غير صوت، ألتقط إشاراتك التي تلقيها بلا اهتمام، أتحاشى النظر لكني أنظر لتلك النظرة السريعة والتحديقة الطويلة الثاقبة لكل شيء فيّ، والاثنتان تقولان: يكرهك بحب، ويحبك بكره.
أسمعك تناديني عبر ذلك البعد، ذلك التردد البعيد، كأنك في مجرة أخرى تبعد عن مجرتي ألف عام، مجرة تتحرك لأبعد نقطة بعيدة وتواصل البعد!
كل ليلة..
أوقف سيارتي في الشارع المقابل لعمارتي وأعبر الشارع كي أصعد لشقتي، ولكن..
يتوقف الزمكان مع دوران حركة مفتاح باب العمارة
كأن المفتاح، مفتاح مسارع الكتروني قطعت عنه الكهرباء!
كل ليلة..
في خيالي.. لا أصعد لشقتي أبدا
كل ليلة..
أقود سيارتي إلى مكاننا المفضل.. لميداننا العزيز.. لشوارعنا المبهجة التي طالما هللت لرؤيانا واحتفلت لاتكائي على ذراعك وضحكت على مزاحنا
وأنتظرك..
تأتي كمجيء العيد، وأسمع دقات قلبي ترقص، وعقلي يهلل، كأنه أول مرة سيسمح له بالتفكير، يتدفق الدم في أوردتي وشراييني كأنها لم ترتو قط..
وأحيا…
كل ليلة في خيالي… أحيا
أخبرتكم عن تلك التجربة… كأنها لم تحدث لأحد قط!
كأنها لم تحدث مئات المرات.. في كل عصور البشرية
كأنها لم تحدث لي في حيواتي السابقة ولن تحدث لي في حيواتي القادمة!
فكل منا يعتقد أن هناك تجربة لا نرجع بعدها كما كنا قبلها
كل منا سجين تلك التجربة حتى لو بعد مئة عام
كأن تلك التجربة هي الأعظم والأهم، كأنها هي من أكملت الناقص، وعقلّت المجذوب، وردت الروح لمستقرها.
أرأيت تجارب العالم التي يملأ صدى رسائلها في الكون، تجارب ورسائل لهولها ولعظمتها، تتحرك لها الذرات، تُرسِم لها المجرات، تُفجِر لها النجوم، وتخلق لها السدوم.
تلك تجربة أم مع وحيدها من ذوي الهمم، عاشت التجربة من ولادته لحين وفاته في منتصف ثلاثيناته، عاشت تهتم برضيع يكبر في مكانه أكثر من ثلاثين سنة، وحين توفى تطوعت في ملجأ للأطفال ذوي الهمم، تستنزف ما تبقى من لمعة عينيها لحين الانطفاء.
لكل منا تجربة لا نرجع بعدها كما كنا قبلها.
على سفح المجرة، مجرتنا، يوجد مقعد خشبي يسعنا أنا وأنت، يطل على أقرب أجمل قمر يعكس ضوء أقرب ألمع نجم، نتكئ على سديم مبهج ونتنفس فراغا ملونا ونسمع موسيقى تراها أعيننا، كل تلك الألوان والبهجة المصنوعة من أجلنا.. نستحقها.
حتى وبعد أن غادرنا المقعد الخشبي وبعد أن توارى منا القمر، وانطفأ في خجل ألمع نجم، وسكتت الموسيقى التي تراها أعيننا، وتبدلت الألوان دون أن نعرف، وسكت عقلنا وروحنا وجسدنا.. وعرفنا معنى العدم..
حتى بعد أن غادرنا الجنة..
أنت وأنا نستحق.. نفس آخر.. فرصة أخرى.. تجربة أخرى
نستحق زياً جديداً ملوناً يشبهنا، موسيقى جميلة نسمعها، نستحق طعماً أحلى لأحلى طبخة تصنعها أيدينا
نستحق أن نصنع ذكريات مع الأقمار والنجوم
نستحق أن نتنفس الفراغ الملون ونملأ منه رئتينا
ونسمع موسيقى ملء أعيننا
أنت وأنا نستحق الحياة.