جهاد الرنتيسي
يزيد لُبس هوية البريطاني من اصول هندية سلمان رشدي صعوبة تحديد الآخر في ذهنيته، يحضر اللبس حينا في محاولته الحط من قيمة الهنود الذين يجد غرابة في انفعالاتهم، ردود افعالهم، طرق تفكيرهم، عيشهم، وعلاقاتهم، يمكن التقاطه بسهولة في تسخيفه الشرق الذي تحولت شبهة العلاقة معه الى فوبيا تطفو على سطح خطابه الروائي، ولا يغيب عن الصورة التي يحاول رسمها للغربي في غمرة سعيه الى مد جذوره في اوانيه الزجاجية، وقد يكون غياب الوضوح ومحاولة التعويم سببا في الهروب الى الخيال، دون التخلي عن معابثة الواقع.
تقوم فكرة روايته “أطفال منتصف الليل” الحاصلة على جائزة البوكر البريطانية على فرضية حنين جيل الاستقلال الهندي للارث الاستعماري، وتقدم المستعمر “ميثولد” الذي بنى مستعمرة على الهضبة ـ شوه المواطنون الاصليون معالمها بتخريب روتينها اليومي واشاعة فوضاهم فيها قبل هدمها ـ باعتباره ظاهرة حضارية، حاولت تغيير انماط حياة الهنود، ونقلهم الى عوالم اكثر تمدنا، لكنهم ظلوا بفعل مكونات وعيهم وعجزهم عن تجاوز بدائيتهم اعصياء على التمدن.
سرعان ما ينزلق في اعمال الدعاية الغربية ضد الشيوعيين التي كانت في اوجها مع كتابة الرواية، بتهميشه حضور الاتحاد السوفيتي في الهند، الصاق السمعة السيئة بصورة الحزب الشيوعي الهندي، حشر شخصية الشيوعي “نادر” أو “قاسم خان” في صورة العقيم جنسيا والتعامل معه باعتباره نتاجا لحالة من الفشل السياسي، تشبيه الشيوعيين بالسحرة، رغم حصول حزبهم على 12 مليون صوت في انتخابات عام 1957 .
كان لافتا للنظر حرصه على اظهار الهنود في صورة الشعوب اللقيطة الباحثة عن الهوية، استمراءه مسخرة ثقافات الشرق وذاكرته بتشويه عادات و انماط حياة شعوبه، وطرق تفكيرها، وصفه آلهتها بالنيونية، وتقديمه الاديان في بلد غني بالثقافات مثل الهند باعتبارها وحشا متعدد الرؤوس.
في مناخات رواية “العار” فرصة ملائمة لمجاراة معزوفة توحش الشرق، من خلال المسارات التي اوجدها رشدي للحديث عن استقلال الهند وانفصال الباكستان، وعلى ارضية التوحش تشكلت نظرة الروائي للمكان والذاكرة، الامر الذي اضطره الى مصادرة دور الرواي في اكثر من مكان، لايصال رؤيته باكبر قدر من الوضوح.
جاء في احد الاجزاء انه “في ذلك المونولوج سكب الناسك العجوز المغيظ كل ما في صدره من كراهية لمسقط رأسه، بلدته التي كان حينا من الزمن يدعو الشياطين والابالسة لتدمير كل ما فيها من ابنية واطئة قاتمة الالوان” ولهذه الكراهية تفسيرها لدى الحديث عن نظرة رشدي للعلاقة مع مسقط الرأس، حيث ارتفع صوت الروائي في احد المقاطع قائلا “افكر احيانا ان الجذور اسطورة من اساطير القدماء صممت بهدف واحد هو ابقاؤنا في اماكننا” وبذلك تنتفي عوامل مثل الاعتياد والذاكرة وربما الثقافة في صياغة معادلة الانتماء والعلاقة مع المكان.
اسطرة الجذور تسهل ايجاد حلول للتخلص منها، فهي تتلاشى، تفقد سحرها في كثير من الاحيان، ليرتخي الانشداد للشرق، عند النظر الى الارض من علو السماء، الامر الذي لخصه الراوي بعبارته “انفصلنا ونحن نطير عاليا عن التاريخ، عن الذاكرة، عن الزمان” لكن الحلول السهلة لا تفسر الاساطير التي اوجدها القدماء، والتي تبنى على تراكم ثقافات وتجارب انسانية لا تقتصر على شعوب الشرق.
الواضح ان هضبة ميثولد التي تحدث عنها رشدي في اطفال منتصف الليل لم تكن غائبة عن ذهنه عند كتابته هذه الرواية، فقد اضطر قبح المكان المستعمر الانجليزي لاضفاء لمسات سحرية عليه، ليكون ملائما للعيش، كانت مدرسة الكونتونمنت تنتصب بيضاء باردة كثلاجة، تزدهر حدائقها بالاشجار، وكان واضحا ان الكائنات الرمادية القادمة من العالم الشمالي الرطب لا تستطيع العيش الا بوجود العشب وازهار البوغنفليه واشجار التمر الهندي، وفي الحالتين هناك محاولة واضحة لاخفاء البعد الاستعماري لوجود لانجليز في الهند.
يختلف حضور الهندي بعض الشيء في رواية “غضب” نظرا لاختلاف مكان الحدث، فمن الصعب القول بانفصال الشخوص عن التاريخ والذاكرة والزمن لمجرد انتقالهم الى الغرب، يحمل البطل مليك سولانكا همومه وامراضه الاجتماعية وعقده النفسية الى الولايات المتحدة، مما يبقيه عبئا على حضارة الرجل الابيض.
يؤطر الطرح العولمي في رواية “البيت الذهبي” لبس الهوية الذي يتعايش معه الروائي، حيث يتنكر الاب والابناء لاصولهم، مع انتقالهم الى ما وراء الذاكرة والجذور واللغة والعرق، والاقامة في نيويورك، اثر فرارهم من الهند بعد سلسلة انفجارات، ولا يخلو الامر من اشارات لدونية انسان الشرق ومقاربات تظهر الهند في صورة “البلد القذر الضعيف الفاسد” كما دار في ذهن احدى الشخصيات، وبذل جهد في تصوير جماليات المكان الامريكي والحياة فيه.
وفي رواية تنهيدة المغربي الاخيرة يستحضر رشدي خسارة التعددية والانفتاح في الاندلس، لاظهار بشاعة الصراع المذهبي في الهند، مع محاولة تهميش حضور العرب والمسلمين الذين حاولوا الحفاظ على تلك التجربة، بقراءته المشهد من زاوية عشيقة يهودية لابي عبدالله الصغير.
يأخذ اشتباك رشدي النقدي مع الهوية والبيئة الاجتماعية المفترض انه جاء منها، ونظرته لبدايات وعيه وملامحه الاولية، منحى عدوانيا، يدلل على حالة من الكراهية، وتقَصّد تشويه الصورة، يقابله انبهار ببيئة اخرى، محاولة اظهار تفوقها، اخفاء التوحش في علاقة ادواتها السياسية مع البيئة الاولى، وجهد للانغماس فيها، مما يخضع خيال الروائي وادواته لمعادلة مبنية على كراهية مكونات الذاكرة ورغبة تأثيثها بمكونات اخرى مختلفة، قد تكون محددة سلفا.
………………………….
*روائي وكاتب من الاردن