محمد فيض خالد
حاجة ساقعة
تخَطّت الرِّقاب المُجتَمعة حَولَ عَتبِة البَيتِ القَديم، فتاة نَاهِد في ثَوبٍ زاهي رخَيص، تَدكّ الأرضَ تَحتَ كعبيها النَحيفين، دَلالةَ استعجاٍل وجِدّية، عصبت رأسها بمنديلٍ أبيض، تتراقص ضفيرتان رفيعتان فوقٍ كتفيها المكتنزينِ، شَخَصت لحظتها العيونُ في خُشوعٍ ذَاهلة، تَسرَّبت هَمهمة خفيفة سُرعان ما تصَاعدَ بُخار أحاديث عفوية تستطلع حالَ المريض، شَقَّ المكان صوت عجوز متُهالك، افترشَ المصَطّبة كان قد استَخفَّه البكاء للحظاتٍ، قبل أن ينطق في نبَرةِ تأَسٍ: هي وصلت للحاجة الساقعة، عليه العوض !، في عَصبيةٍ ضَربَ الأرضَ بعكازِه مُنصرفا، يُخايِلُ وجهه المُغضِّن وجوم، سَادَ صمتٌ قاتل اكتفت فيه العيون بنظراتٍ باردة، تَفيُض بالتوترِ، ترتجفُ أكواب الشاي في الأيدي، تتلمظ الحنوك تسحب بصوت عالي، تتكرر رشفاتها في نَغمٍ فَاضح لشِفاه ظمأى.
وعلى العتبةِ جَلست القُرفصاء عَجوزٌ مُسنة، يرُاوح القلقُ بين جنَبيها، دارت نصف وجهها اليابس بطرفِ خمارها الباهت، ترمى بعينها الكليلة داخل البيتِ، لتُعيدها في استسلامٍ دامعة، ما أكثرَ الصِّغار الذين تراصوا كالدُّمى إلى جوارِ الحَائطِ، يحَكّون ظهورهم فيها في تَشاكسٍ عَفويّ، تنفلت ضحكاتهم المُتَهورة سهوا، تُلجمها زمجرة شيخ اعتمد عصاه يذرعُ الأرضَ يكتم شكواه، يهمسُ بنبرة ٍمختنقة، وقد اشتد بهِ الوجيب: لطفك يا صاحب اللطف، وعلى مقربةٍ منه تلاحقت أنفاس مكروبة، وبكاء مكتوم، ودعوات تهتفُ ضارعة، وشهقات في حشرجةٍ مخيفة، تلتمس لنفسها النجاة لجَسدٍ هَزيلٍ تَمدّد في صُفرة ٍ وهُزال، فوقَ حَصيرٍ باَلي، تَدور عَيناُه كما الغَريق يَستنَجدُ من حوله، قبالته تراصّ نسوة كاسفات، غير واحدة تطوعت لترفع رأسه المعروق عن حاشيةٍ بالية ؛ تُذِيقه من زجَاجةٍ جرعات الكولا قطرات تبل صداه.
بعد قليلٍ غَصّت الدار بزوارها من كُلّ صنفٍ، وخيم شبح الموت يتراءى مُتَبجِّحَا في جَنباتِ المَكانِ، غَرقَ البيتُ في سُكونٍ خَانِق لا يَقطعه غير نباحِ كلبٍ عجوز تمدّد أمَام العتبةِ، فجأة تبعثرت الدار في دويّ صَيحةٍ كبرى، مُعلنة انتهاء أجلِ المريض المُسجّى، انفلتت امرأة في عَقدها الخامس تلطم وتندب في تَوجّعٍ مُؤلم تنثر من قطع قلبها، ساعتها تحرّرت روح الفقيد من إسارها، حامت في المكانِ قبل أن تتناوب الأيدي حملَ الجَسدَ في رحلتهِ الأبدية، ألقت بنظرةِ مُواساةٍ على صغارٍ تسربلوا في ثيابِ اليُتمِ والفقر، ليس لهم بعد الله من كافلٍ، غيرَ الحُقولِ تسعهم، كما وسعت آلافا مثلهم من الأُجَراء.
الخدعة
مَا أتعس حَظّه، وأنكد طَالعه، يمَشي كَسير النَّفس جَريح القَلب، لا يخفي لوعة حزنه، ولا تنفك كآبته، في وجههِ عُبوسٍ وفي رأسهِ فكر، يحبسُ زَفرة ألمَه تنفلت مُحرِّقة لحظة يُقلِّبُ بَصره مُشوشا في الفضاِء من حوله، على هذه الحال مُذ تفشى في الفريةِ أمر الجائزة التي رصدها مسعود الصَّراف، لمن يأته بالجنيهِ، يقضي ليله حَالمِا بهذه العطية التي ستقلب موازين حياته، وتحيله من السُّعداءِ، يفتر ثغره عن ابتسامةٍ مَخذولة، سريعا ما تضيع وسط دُخانِ نفسه المُحترقة، إذ كيفَ له أن يَتحصَّل على الجنيهِ الورقي طُلبة مسعود، وهو بالكَادِ يَجمع من فُضلةِ أجرته لأسبوعٍ كامل قُروشا قَلائل، تكَفيه الشاي والدُّخان، ورَطلٍ من اللَّحمِ يَدخل داره بعد خِصامٍ مَرير.
استأجر الرَّجل من يُذيع على مَسامعِ القوم، أنَّه يَبحث عن جنيهٍ قديم، رُسِم عليه جملين أحدهما نائمٌ والآخر يقف بجوارهِ، استفزه الأمر فها هو يجلس ليله إلى جوارِ النَّافذةِ يُناضل الأرق، سَابحٌ في بحارِ الفِكرِ ولجُج الهَم، يَضربُ كَفا بكفٍّ يتساءل: من يأتيني بالجنيه؟، ليسَ لديه من حِيلةٍ غَير الصَّبرِ والانتظار، يَتوقّد الحِلمُ في خّاطرِه، لكنَّه يضطر للتَّريثِ مَغلوبا على أمره يتقطع قلبه ألما، هجر أشغاله، واكتفى من يَومهِ بأحاديثِ المصَاطب تروي ظمأه وتطفي حرارته، يتَتبّعها في عِمايةٍ مأخوذا برائحة الثراء السَّهل، تخايله هيئة أمه وقد تبَدَّلت من الفقر والابتذال، لسيدةٍ وجيهة تَأمر وتنهي في بيتِ عِزٍّ ومَال.
كانت والدته قد ادخرت جنيهات يسيرة من ميراثٍ قديم، تقول مُتباهية: هذا المال حق الدفنة، تَذكَّر صَاحبنا هذا المال فأبى طموحه إلَّا أن يجد إليه سبيلا، مَرّر خدعته على المسكينة، أوهمها بشراءِ مدفنٍ كريم يجمعها في أخراها، فاستسلمت المرأة لوعوده، ليندفع أشد عزما تلهب حماسته خيالات تهدر في أذنيهِ مثل هدير الموج، هَبطَ القرية على غَيرِ موعدٍ من يتقَّصى عنه، وبعد أن اطمأن مجلسهما، انتزع من حقيبةٍ فاخرة، علبة من المَخملِ مَحشوة بقطعةِ قُماشٍ، اخرَجَ منها الجنيه المرصود، امسكه كطفلٍ رضيع مُدلَّل، قائلا في حَسم: ها هو الجنيه، لأجلك فقط ألفا من الجنيهات في التو واللحظة، فَركَ جبينه مُنزَعِجا، كان مسعود خياره الوحيد، رهنه البيت لإتمامِ الصَّفقة، لازمَ الدَّار لا يبرحها، يُقلِّبُ نشوانا الجنيه قد احس من نفسهِ بالجاه، خَرجَ بعد غِيابٍ ليجد القرية وقد اغرقت بالجنيهاتِ المزيفة، كانت التمثيلية مجرد كذبة اخترعها مسعود الصراف، وسَعىَ في تلفيقها مع شريكهِ حماصة النصاب، أوقَعَ بها ضَحاياه من السُذّجِ، اُعرقت القرية في أوحالِ الدَّين، رَهنَ الناس حقولهم بثمنٍ بخس، لم تكن هذه آخر خُدعة، ولم يكن مسعود آخر المحتالين، ولم يكن صاحبنا آخر المخدوعين، طالما كان في الدنيا الطَّمع.
حكايات البرلس
كُلّ ما اتذكره صَوته الجّهوري المُشبع برغوةِ الصَّباحِ الصَّحو، المُكلَّل بتيجانِ النَّدى فَوقَ الغيطان، يجَوبُ في قَامةٍ مُنتَصبةٍ كأعوادِ الذرة الصَّيفي، وجَسَدٍ يئَنُ تحت أثقالِ السنين الطوال، يتصايح في إيقاعٍ واحد لا يُغيِّره: عال البرلس، في المُبتدأ تَمنَّع عَليَّ كلامه، ظَننت صَاحبنا يتَبع شفرة معيّنة ؛ يَسرقُ بهِا أسماع زبائنه، رُبَّما استدعاه ظُرفه المعهود أن يصنعَ هذا، في توليفة بشرية غريبة، نكتة حاضرة، وحاجبان يرتفعان كبندولِ الساعة في ترَاقصٍ مُضحك، ولسانٌ ممدود بلا تحفظ، يبسط حديثه الطَريف لطُوبِ الأرض.
اتَعجّب لمِزاجهِ الصَّافي حِينَ يَصدّحُ بأغانيهِ، بصوتٍ مَشروخ يصارع رائحة العَطَن الطافحة من الجُدرانِ المريضة، يهزّ كتفيهِ العريضين وقد استقرّت عليهما المشنة تفوح منها رائحة الخضرة الطازجة، من حزم النعناع والجرجير والبصل الأخضر والبقدونس والفجل والكراث.
في دَقائقٍ يلَتف حَوله أبناء الزُّقاق، يشرع وقتها في تَوزيعِ حَبّات النبق والبلح الأخضر، يَتصَارع الصِّغارُ في ونَسٍ: أنا يا عم جمال.. أنا يا عم جمال، يلوكون في تَلذّذ نفحته، وعيونهم تفَيضُ مُمتنة لكِرمهِ، عَلى هَيئتهِ المُعتادة لم يتَغيَّر منه شيء، لم ينَل الزَّمان من دِفئهِ، حَتى سِحنته المُعبرّة، وبُؤسه المتقاطرُ من بين أصابعِ قدمه الحافية، وكأنَّ الفَقر قد تَرَكَ العالمين فلازم أعتابه لا يبرحها.
مراتٍ كثيرة أظنه أسعدَ مخلوق على وجهِ الأرضِ، بعد أن تَرَكَ الدنيا لأهلها، واكتفى منها بما تدره عليهِ حِزمات الخُضرة، بالكادِ تكفيه قروشها الخبز الحاف، لا اعرف تفاصيل معيشته غير أنّه من فُقراءِ القرية الذين اكتفوا من الدُّنيا بالكَفافِ، قراريط ورثها أوقفها على زراعةِ هذه الأصناف من الحَاصلاتِ.
في صبَيحةِ يومٍ غائم حَنّت فيهِ السّماء قليلا على الأرضِ المُتَحفّزة لمدامعها السَّخية، رأيته وقد اتّخَذ لنفسهِ مكانا قَصيّا، يُطالِعُ في انزعاجٍ شعاع الشّمس اليتيم المُنفلِّت من جوفِ السِّحبِ، لم اسمع لصوتهِ أثر، لكنه لم يتخلى عن إشراقِ روحه، فترك الأيدي تُقلِّب الخُضرة، اعطى الصغار حَبّات النبق كعادتهِ، هالني ضعفه البادي ساهم الطَّرف، يهشّ بيده، يلتقط القروش يضعها في كيسه مذهولا، ينكش الأرض بعصاه، يحمق في الأفقِ الرَّمادي، . ريثما يَعودُ يَمسح بعينيهِ فوَقَ الخُضرة المُتلألئة، يَهرشُ عمامته في إشراقٍ يُشاغِبُ عائشة الدلالة: أيام وأصبح من الأغنياء، اخبرني الاستاذ عاطف المحامي أنّ قضية الوقف رابحة، ينصرف في كل مرةٍ يلوكُ أحلامه في نشوةِ السَّكرى، بعد أسابيع كان قد انتهى من محصولهِ، عَرَضَ أرضه للبيعِ مُكتفيا بأمانيهِ، يُردِّدها كطفلٍ صغير، وفي عَادَ ذاتَ مرّةٍ من البندرِ يلعقُ شفتيه بعصبيةٍ، قد تغيّرت لهجته من الهدوء للحدِّةِ، يُلازم الكوبري من الصَّباحِ حَتّى المغيبِ، لقد اختفى الاستاذ حسب النبي وكيل المحامي، بعد أن سَلَبه ثمن قراريطه دُونَ علم محاميه، بَعدَ أيامٍ تَبخّرَ الرجل، بَاعَ غُرفَته لمحاسن التي ملأتها ببراميلِ الجَاز، تلَاشى صوته، واختفت رائحة الخُضرة، انتظر الصِّغار حَبّات النبق والبلح الأخضر، لكن طَالَ الانتظار
مسافر
على حينِ غَفلةٍ انتبهت من غَفوةٍ قصيرة، على صوتٍ ميريّ خَشن يُردد في نبَرةٍ حاسمة مُستفسرا:عَلى فين العَزم إن شاء الله؟، مَددت يدي لجيبي أخرجت في حَركٍة آلية محفظتي الجِلد الكَالحة، انتزعت منها البطاقة، لكنه اكتفى بحديثٍ مُوجز مع السَّائق، الذي قال في نَشوةٍ مَزهوا: الكويت يا سعادة الباشا، امَسكَ الشرطي بيدهِ جواز السَّفر، قَلَّبه سَريعا، ثم قال وهو يُؤِّشر بجهاز لاسلكي: مع السلامة، في هَاتهِ اللَّحظة كَانت السَّيارات قد تراكمت من خلفنا، فما إن مشينا حتى انزاحَ الزِّحام، على مَسافةٍ قصيرة تلألأ المبنى في هَيبةٍ لا تُضاهى، وعلى امتدادِ صَحراء صُفرتها لا تنتهي، اكتظَ الطَّريق بجموعٍ غَفيرة في خَليٍط ما بين مُودِّع ومسافر شيبا وشبانا، تُلِوح أيادي الصِّغار من النوافذِ مُتهللة، تُراقب عيونهم الَّسماء حيث مهابط الطائرات، يصف كل واحد ما رآه في خُيلاٍء، أخيرا فاضت المواقف بعربات الأجرة تحمل أهلها، امتدت الأيادي مُسلِّمة، تعانقت الأجساد في التحامٍ طَافحٌ بحرقةِ الوَداع، ارتجفت العيون وفاضت الصُّدور بالحَنينِ، وتَحامل الجميع بعد جَهدٍ لتنساب الضَّحكات عفوية، وكأنَّهم تناسوا أمر السفر والبُعاد، فعَّما قليل تَطير الطائرة وينفض المشهد.
فتلك سيرتهم معَ كُلِّ سَفرٍة لا تتبدّل، على مَقُربةٍ من صَالةِ الوصول تَراصّ المُستقبلون في تَلهفٍ، تَشرئب الأعناق تُطاِلعُ في تَشوّقٍ القادم، وهِتافات الفَرح تَعلو تهبط في استعجال، تَبرق العيون وسط كلمات: حمد الله على السلامة يا حج رجب، تَندفع حُوم ٌمنهم في عِناقٍ محَموم، وطَابورٌ ممتد من الأحبابِ كُلّ ينتظر دوره، تَتلاقى الأكُف في طَرقعةٍ عالية، وأحلام بريئة تُداعِب خَيال فتى يَافع غَاَب عن دنيا الناس، يعلو فحيح الأماني في رأسهِ، يتأمل أمتعة القادمين، وخيالات أصحابها تَمر أمامه في َزهوٍ، يغمض عينيه وَكأنَّه يُؤمِّنُ على دعاء، أن يكون له مثل ما أوتوا، اقف في مكاني، لكن أزيز الأحلام يحدث في نفسي ما الله يعلمه، أهمس في أذن صَاحبي، فقد أصَابه مثل ما أصابني: متى نجد الفرصة؟، تخرج من صَدرهِ آهةٍ مُحرِقة، يزم شفتيه يُغالِبُ حَسرةً مكروبة، يشرق بوجههِ مُتحرِّرا بعض الشَّيء من كآبته، يُردّد في افتعالٍ: حمد الله عسلامة يا رجاله، صدقني في هذا المكان الملعون فقط أجد عِلَّتي هذه، اُقسِمُ في كُلّ مرةٍ أيمانا مُغلّظة وأنا اضع كِسرة الخبز اليابس على عيني ؛ ألَّا ارجع ثانيةً، لكني اعودُ، وقد جَرَّني شَيطاني يَسوقني في أولِ رِحلةٍ للمطار، قَديما كُنتُ أعيبُ حَسرة الزوجات، وأكره دموع الوالدين، وبُكاء الصِّغار، أصف آلامهم بالتَّمثيلِ الممجوج، فمع أموال الغربة حتما ستتبخر هذه المشاعر، ويحل محلها التَّرف والنَّعيم، لكن ما إن شاهدت موظف الجوازات يَضرب بختمه إيذانا بالمغادرة، حتى أدركت سر تلك اللَّوعة ومُبرر الشِّكاية.
الوَلهانة
منذ فترةٍ لم يُسمع صرير بابه، لكنَّ سُعاله اليابس متواصل لا ينقطع، من غبَشِة الفجر وحتى مقدم المساء، وحدي من يعرف حكايته القديمة مع روح أو بالأحرى الحاجة روح هكذا يُطلق عليها بعدما أصبحت جدة، لكن من يراها لا يعتقد غير أنَّها أنثى في الثلاثين، فرونق الِهندام، ومَلاجة الوجه، وفتنة الشباب وليونة الجسد تُلازم المرأة، تضحك فتملأ ضحكاتها صِّبيانية الرَّنين قلوب الرِّجال، حتى طلعتها الوضاءة تترك العيون تنهشها، وتحوم من حولها الأفكار السُّود ككلابٍ مسعورة، تُومِض وميض النار في عقولٍ أسكرها خمر الحب واتلفها الانتظار، لكن عزوة المرأة تلجمهم في الأخير.
وحَده من له الحقّ أن يستوقفها في الطَّريقِ، حَتّى وإن أزَعَج حديثهما البَاسم الهَامس في أغلبهِ الحُسّاد، يُخرجه عن طورهِ صوت حليم يتأتَّى من الراديو: سافر من غير وداع..وساب لقلبي جراحه..تهت في ليل السهر والعيون مارتاحو، تتَبدّى من أعماقهِ أحاسيس فاضحة، يَشعر بشغافِ قلبه تَتهتَّك، وأنَّ الهوى يذيبه، يُجاهد مضطرا كي يخفي في قلبِه ما الحب مُبديه، لكنه لا يجد من وسَيلةٍ غير أن يَسكب نظراته في كُؤوسِ عينيها عَلَّه يَتلهى.
كانَ صَاحبنا في مَاضيهِ موظفا له مكانةٍ ومنصب، ومائة من الجنيهات راتبا يسيل له اللُّعاب، وحُظوةٍ من أهلِ القريةِ الذين تَمنَّوه صهرا لبناتهم، لكنَّه اكتفى من حياتِه بعشق روح حتى ألجأه لأن يبالغ في خنقه، خَوفا عليه من تقاليدٍ عائلية سخيفة، ترفض أن ينفلت ابنها، فيربط مستقبله بابنة فوزي الجزماتي، فنأى بجانبهِ بعيدا تاركا القرية، قابضا على حُبّهِ المطبوع في ذاكرتِه لا يمحيه كَرَّ الأيام، أُكرهت من بعدهِ فتاته فَتزَّوجت من عنتر الحلاق، الذي غلبه طيش المفاجأة، فلم يفكر في ماضيها، ، ليبالغ في إكرامها، أفرغ جيبه في يديّ الحسناء، التي قنعت بعد لأيٍ ؛ أن تدفن زهرة شبابها معه بين زوايا بيته الضَّيق ومع عِدَّته اللَّعينة، أخلصت له أيَّما إخلاص، فصانت عرضه وحفظ كرامته، حتى أغمضت القرية عيونها عن صاحبها، فطوته في جوفِ الماضي فلم يعد له من باقية.
تُذكِّره أيامهما في تعنُّجٍ فاضح يعتصر فؤاده، فلا يملك إلاَّ أن يُقلِّب كفيه في استعباٍر وأسى، يدك الأرص بعصاه الأبانوس، قائلا في وقار: كانت أيام وانتهت يا بت الحلال، لكنَّها تُعاود ضحكتها المجلجلة، فهي تُوقن أنّه يقتات على ماضي حبه حتى وإن كابر، يُمّرر يده فوق جبهته، كأنَّه يشاهد دخان نفسه تحترق ببطء، لم تكن روح لتعبأ بأحدٍ غيره، تقول بصوتها الهاجع مستسلمة: كفاية عليا إني ابقى في قلبه، كان الربيع قد أفرغ على الحقول جمالها السندسي وأرق غلائلها البهية، وسجع الحمام فوق نخلات بيته، ساعة توقفت سيارة الأجرة أمامه، تناوب إخوته حمل حقائبه، تسامعت به فجاءته تسعى، وقد نزعت عنها وقارها، جاهدت دمعة رقراقة انحدرت فوق خديها، اخرج منديله الحريري مرره فوق وجنتيها، مست يده بشفتيها، تقول منتحبة في شجن: مع السلامة يا سيدي، دوى صوت المحرك، ليبتلع الأفق شبح السيارة، وتعود مجددا تحسب أوان رجوعه.