عبد العزيز دياب
فاصل من موسيقى الجاز
ما كل هذا الجاز، أقصد ما كل هذا الكلام عن موسيقى الجاز، موسيقى الجاز في الجرائد والمجلات، موسيقى الجاز في محطات التليفزيون، موسيقى الجاز في أفلام السينما، الكل يثرثر بهاتين اللفظتين، معذرة إذا كانت لفظة الجاز تستدعى على الفور مرادفها وهو الكيروسين، معنى هذا أن موسيقى الجاز تعنى موسيقى الكيروسين، وتكون لهذه الموسيقى رائحة الكيروسين المستفزة، وتشتعل، وتنفلت في صالات الغناء نغمات موسيقية مشتعلة تجعل الراقصين والجمهور يشتعلون، ويأتي لاعب النار يملأ فمه بحفنة من موسيقى الجاز وينفخها باتجاه طوق النار أمامه فتتسع دائرة النار وتتنامي، وجمهور السيرك أو المولد بدل أن يصفق يرقص مشتعلا، وفى نهاية السهرة أطلب من الفرقة الموسيقية المشتعلة بموسيقاها أن تضخ لي موسيقاها عبر أنبوب يصب في فنطاس صغير، أو عربة على هيئة فنطاس يجرها بغل يتمايل في خَطْوِه منتشيًا ومحترقا بموسيقى الجاز التي أعشقها، أمهلوني وقتًا يسمح لي بأن أتعلم موسيقى الجاز لأحرق بها كل أعدائي.
**
قفزة واحدة
غادرت سريري، ليس أرقًا، ولا بهدف ري عطشى، كل ما في الأمر أنني كنت أبعثر محتويات غرفتي بشكل همجي عنيف، أنسف كل المجهود الذى بذلته في بداية المساء لترتيبها، لكنني عندما عدت إلى الفراش داهمني الكابوس اللعين بأنني في طريقي لترتيب محتويات حجرتي وأحتاج إلى قفزة واحدة من فوق السرير الذى ظهر لي خلال الكابوس بأن المسافة إلى الأرض بارتفاع جبل، أتردد كثيرا في صنع هذه القفزة الرهيبة، لكن يدًا خفية كانت تتولى ذلك الأمر وتقذفنننني.
**
عناد
مطلوب تي شيرت زيتوني أو بنفس درجة لون التي شيرت الآخر، مطلوب تي شيرت زيتوني حتى لو كان لا يحمل مهارة الآخر بأن يطوف ويسبح في الفضاء، يستعرض رائحتي العالقة، يقف هناك منتصبًا في مواجهة فتاتي قارئة كتاب الأبراج التي طبعت ذات أصيل على قماشته الطرية قبلة تفتحت معها مسام كتفي، تي شرت زيتوني بمجرد أن انفلت مغادرًا الخزانة لوحت له لكنه كان يعرف طريقه، يعرف محطات حياتي، يطوف بها محطة وراء أخرى، أهمها بائع الكتب القديمة، لوحت له بالرجوع وأنني بصدد إجراءات تحفظ له مكانته داخل الخزانة، لكنه قرر الذهاب، وأنا الآن أبحث في الحوانيت عن شبيه له، بعد أن رأيته في غبشة حجرتي يرتديه شخص أسمر نحيل يشبهني، يرف في فضائها ككائن مسطح وينفلت من الشباك إلى الفضاء الوسيع.
**
فمي
استبعد كثيرًا أن يتسع فمي بالدرجة التي تجعله يحوى كل شرور العالم، هذا وإن كان البعض منها اندلق إليه بكل خفة: برج سكنى يتمتع بعيوب هندسية ثقيلة، رغم أن كل شققه صارت كومبليت، إرهابي يتمنطق بحزام ناسف، مؤامرة صغيرة تخلصت زوجة من زوجها لتلحق بعشيق استقل بآخر قطار، غراب يطارد عصفورا، مسئول كبير تم ضبطه متلبسًا بالرشوة، لا وقت عند الآن للكلام، ولا الأكل، ولا الشرب، ولا النوم، كل أجهزة الهضم، الإخراج، التنفس، الدورة الدموية، الإحساس، اليقظة، اللذة….، كلها إما أن تساعدني في مضغ محتويات فمي، أو تقف على أهبة الاستعداد أن يُسْنَدْ إليها ما بين لحظة وأخرى دورٌ ما إلى أن انتهى من مضغ روف البرج السكنى.
**
أربعة وجوه وكلب
الشخص الذي خرج منى في غفلة من الجميع، قبل أن ينبس بكلمة واحدة، أو أنبس أنا بكلمة واحدة تحول إلى كلب، كلب رهيب، وأنا الذي كنت أظنه رسامًا سكن بداخلي، يرسم على الجدران وجه المرأة التي أود أن أبصق عليها كل صباح ومساء، أو جورنالجي يكتب في مقاله اليومي عن مدينته الفاضلة التي لن يسكنها غيره، وأنا معه طبعًا، أو زعيم عصابة يذهب بصحبة رجاله في مهمة عاجلة لاختطاف “بائع بطاطا” دون إبداء أية أساب وجيهة أو غير وجيهة لذلك، أو أستاذ جامعي لا يكف عن عَضّ غليونه وهو يجوس في مسائل ميتافيزيقية.
تذكرت وأنا أحاول أن أضع حدًا فاصلا ما بين الكلب وشخصية كل من الرسام، والجورنالجي، وزعيم العصابة، والأستاذ الجامعي، أنه همس لي وهو بداخلي أن عضة واحدة منه لن ينفع معها مائة حقنة في البطن فأفْسِحُوا له الطريق.