محمد فيض خالد
حِبر على ورق
تفلح في كَشفِ قالوا إنّ فأسَه لا يَحملها إلّا ذُو بَأسٍ شديد، منْ ارتَوى مِن حَليبِ أُمهِ، هكذا أذاعَ النّاس مُذّ تفتّحَ شباب ” إبراهيم” وبَزَعَ نجمه، يَتنَاقل عن فتوتهِ قصصا تُلهِب المشاعرَ، وتُثير حَمية كُلّ غِطريفٍ عظيم، لا يفتأ والده يُذيع على الملأِ، وبين رواقِ السّامر حكاية فأسه العجيبة، التي اقتطعها من قضيبِ السِّكة الحديد، يَسرِدُ مَأخوذًا ونشوة السَّكرى تَطفحُ من عينيهِ، كيفَ ادّخَرها لأجلِ “إبراهيم “، ساعة كَانَ جنينا يَسبحُ في بطنِ أمهِ، في غمرةِ عاطفته البريئة يحملهُ في لفائفهِ، يُمرِّر يدهُ فوقَ هراوتها، ثم يَصيخُ بأذنيهِ كأنّما يتَسمّع صَخب مستقبله الحَافِل، نشأ ” إبراهيم ” كغيرهِ، يَحتَجزُ مكانه بينَ أبناءِ الطّينِ، يمَرحُ بينَ طيّاتِ المروجِ الخُضر، بيد أنّ حَظّه من العافيةِ لم يكن على مرامِ والده، الذي أثقلتهُ أحمال الشَّيخوخة، تنكّبت الصّبي أوجاع صدره، يحتويه والده بطرفٍ؛ تذوب مهجته كمدا وهو يُصارِعُ سُعاله الخَانق، غير أنّ فأسه لم تغب عنه آناء اللّيلِ وأطراف النّهار، يُشرِقُ لمرآه وجه الرّجل، اشراق النّجم المثير في غَيهبِ الدُّجى.
فعلت حكايات الشّيخ عن فتوةِ ابنه فعلَ السِّحر في النّاسِ، ارغمتهم أن يُسلِموا عن كُرهِ بتلك الفأس العَصية، التي لا يقوى عليها إلّا فَتاً “كإبراهيم ” آتَاهُ الله بَسَطةً في الجِسمِ، في شعورٍ بالغَ العذوبة يُطَالِعُ بغيرِ احتفَالٍ جَحَافلَ الفلاحين، مُتَخذةً وجهتها للحقولِ، يُشيرُ بعصَاه تَحتَ ضَوء ِ الصّباحِ الرَّمادي مُستَهينا:” وهل هناك فأس كفأسِ إبراهيم، لم تُخلق يد لحملها “، تكفي كلمته لأن تقتلَ الحَماسَ في الصُّدورِ، أن تَخلِقَ هالةً نور تُزَاحِم أضواء النُّجوم المُشرَئبة بأعناقها تَحتَ ستار اللّيل الكئيب.
كبرَ ” إبراهيم ” وكبرت معه خرافة فأسه، تبَدّى كَمن يَرقدُ في مَهدِ الأحلام، يُحيطهُ برد الآمال المُنعشة تَسري في أوصالهِ جنة وحريرا.
يَسرحُ بنظراتهِ اليّابسة في عِرقِ الأُفق، تُلاحقهُ العيون بِخيوطِ إعجابٍ، تّمسّه هزة من الارتياحِ تنتظم أوصاله، حلّ في جلساتِ الصَّبايا تحتَ وسوسةِ مشاعل النّور في دهاليزِ البيوت، ومن مثل ” إبراهيم ” فتوة وشبابا، ياحَظّ من تحظى بقُربهِ وتخطف قلبه، أخذت الحمية منه كُلّ مأخذٍ، فاندَفعَ في عِمايةٍ مُتعالي الهِمة، تتطاير نظرات التّحدّي صريحةً يكيد أبناءَ جيله، الذين أمر شغلهم فأسه التي لم تَمسسها يد، ولم تخطر على قلبِ بَشرٍ، نمت بينَ جوانحهِ نبتة الحُبّ جرفه تيارها؛ ” سكينة ” ابنة مأذون البلد، ها هو يرى أثر سيرته فيها، يقطرُ حديثها عنه عبير الحبّ الفوّاح، كانت شابة ريّانة مفعمةٌ بالنّضَارةِ، تَغوصُ في عَبقِ الصِّبا، تفَيضُ خِفةً وغواية، أوكلها جمالها الفتّان لأنْ تُصبحَ مهوى أفئدة فتيان القرية المشبوبة، لكن أنّى لهم، وهي تدورُ في فَلِك صاحب الفأس وفتاها الصّنديد، من تدفّقَ حُبه في عروقها فَسدّ مسالكه، لم يكن من مهربٍ إلّا أن يفوزَ بهذهِ الدّرة الثّمينة، عاشت ” سكينة ” في أسيرة الفأس، تُردّد ببلاهةِ البَبّغاء، تتراقص مُنثنية في دلعٍ، تشدو مبتهجة بهذا الحُبّ بعدما أضحت حظيّة زينة الشّباب، حلّت في دارهِ بعدما حلّت من قبل في قلبهِ، لكنّ أيامها مرّت رتيبة، قبلَ أن تتَحوّل أتعسَ ما يكون، باتت الفتاة تخوضُ في لُججٍ من الحِيرةِ، ترى أحلامها كَسَرابٍ بقيعةٍ يَحسبهُ الظّمانُ ماءا، خَاب ظنّها فيهِ، لم تكن أقاصيص النّاس إلّا خيالا باهتا، رأته على حقيقتهِ مُجرّدا ؛ فتا خوّارا لا يَصلحُ لشيءٍ مما يصلح لهُ الرِّجال، ذاتَ أمسيةٍ وهو في لحظات عجزهِ، انفَلَقَ حجر صبرها، لم تتمالك حفيظتها، اندفعت موبّخة، ارتعد جسده كالمحمومِ جَمدَ في مكانهِ، يبرِقُ مشدوها لحديثها الجارح، لم يتحمّل المسكين فخرّ مُتهالِكا، كُتِبَ عليه أن يقضي بقية حياته رهين العَجر، قالوا:” لقد أصابته العين ونَالت من فتوتهِ”، وفي يومٍ شَاتي، خَرَجت ” سكينة” مع الصّباحِ تَسبقُ الطّيرَ في البكورِ لبيت أبيها، فشلت محاولات إرجاعها، اجتمعَ على ” إبراهيم ” أوجاع المرض والفراق، ليودِّعَ الحياةَ مُشيّعَا في مَحفلٍ مَهيبٍ، وإلى الآن والقرية لا حديثَ لها إلّا حديث فأسه الغريبة، حتى أحاديث ” سكينة ” المستميتة لم زيفها.
***
على غيرِ موعد
لايتأخّر دقيقةً عن المَوعدِ الذي يضربه لنفسهِ مُتَنفس كُلّ صباح، فما إن تَنثر الشّمس خيطها تمشي مشيتها الوئيدة في أخَاديدِ الأرض، حتّى ينَساب صَوتهُ يَسيلُ في الدّروبِ كما يسيلُ رضاب النَّدى من فوقِ أطرافِ الأشجار :” الكرات العريض النعناع البلدي “، ” عبدالشافي ” هذا اسمه وكفى، أمّا بلده فلا يهمك أن تعرفَ، طالما كفاكَ صاحبنا مؤونة السُّؤال:” بلدنا بحري لا تصلها إلّا الرَّكائب”، ألِفنا نبرَته يُخَالطها هُزال السّنين، يُغَلَفها قهر الغلابة أمثالنا، ما إن تَلمحهُ النِّساء ؛ حتّى ينفضوا إليهِ مع تلألأ ضحكة يجلجل جرسها، يُمرِّر يدهُ في استسلامٍ يخطف القلوب، تنهب الأيدي بضاعته، يطبعُ مع كُلِّ قرشٍ وشم الرِّضا برزقِ الله وقسمتهِ، قُبلة حارة ثم يدسهُ في جيبهِ خَافقَ القلب، لم احظّ بإجابةٍ مقنعةٍ، اُردّد مستغربا :” ما الذي وضعَ القبولَ في بضاعتهِ دونَ سواه”، تقولُ ” فكيهة ” :” أرزاق ربنا تجعل من المشِّ شربات”، دائما اقلِّب المشهد في رأسي، استمرئ الأحاديث السَّاذجة في ارتياحٍ، لَكم خَطرَ ببالي :” متى قَدِمَ عبدالشافي قريتنا؟!”، يضحك” محروس ” الحُصري، يحبس البلغم الرّطب أنفاسه، يزيح غابة “الجوزة” عن فمهِ في اهتياجٍ، يُفرِغ فمهُ المَلئ بالنّخامةِ على أقربِ جِدارٍ، يُمرّر طرف ملفحتهِ الكَالِحةَ فوقَ عينيهِ المُشبَعة بالدُّخانِ :” عبدالشافي دا يا سيدي بعد صلاتك ع النبي جا هنا بعد ما اطخّ المرحوم نعمان بسبوع “، كُلّ ما فيهِ يُنبئك عن شَخصٍ غامض ؛ سُمرته الزَّائدة عن الحَدِّ، أسنانه المنضّدة بلمعتها الثَّلجية، عوده الرّقيق في صَلابةِ جُذورِ النّخيل، شعره الأبيض في وَهجٍ مُريح كلوزاتِ القطن يبرزُ من تحِت الطّاقية، يُبالغ النّسوةُ في إِلحَاحٍ، يَسألون العَجوز عن سِرِّ نَضارة خُضرته، يقول ” فوزي العتال” زاعما :” الرّجل يَسقيها من بئرٍ جوفية، ويغرقها بزبلِ الحمام “، لم نعهد في عينيهِ حَيرة الغريب، تُضئ نفسه مردّدا من فوقِ حمارهِ وقد بَلغَ بهِ التّأثر:” بالهنا والشفا إللي معاه وإللي معهوش ياكل “، استقرَّ في خاطري بأنّ خلفه خبيئةٍ ما، لم يكن من صِنفِ أولئكَ الذين عرفناهم، لا يهبط قريتنا كُلّ اثنين، يسوق حماره بينَ تلافيف الأفقِ المُشَعّشع بنورِ الصُّبح يذهب للسوقِ في قريةٍ مجاورة، يرمينا بابتسامةٍ شاحبة، يؤشِّر بيده:” صباح الخير “، لايفوّت المرور علينا في طريقِ العودة، نعتقد بأنّ حماره يَعرف أحوال قريتنا، تُبطن نظراته الودّ، يدبّ حوافره بحنوٍ، يعجب ” مرزوق ” الحمّار ضخامة جُرمه، يلتفت نحو ” عبدالشافي ” طلق المُحيّا، في ابتسامةٍ نُزعت عنه وسامته :” دا جحش مش عادي دا أبوه بغل “، من خلفِ شباك بيتنا اختلس النظرات، يستقبل صاحبنا حرارة النّهار الوليد، يتماوج فوقَ سحنتهِ بصيصٌ من الرزانةِ، يُخرج من جيبهِ مفكرة صغيرة يُدوِّن شيء ما، لا اعرف إلى الآن ماذا دوّن، ذاتَ ظهيرةٍ اخرجَ من الخُرجِ كيسه، شَرعَ في توَزيعِ الحلوى على المارة، قَالَ في انشراحٍ:” حلاوة النجاح عبالكم “، سَارَ مع الأيامِ تُلقي عليهِ من إشراقها، لكنّ فعلها المشؤوم تغلّب عليهِ، طغى التّأثر على نبراتِ صوته، كاشف يوما ” فتحي المهداوي ” عن أوجاعِ علةٍ قديمة، جعلت تزوره آونتهِ الأخيرة، ذَاتَ صبيحةٍ بدأ نفسه يتصاعدُ في صعوبةٍ، وكأنّه خيط دخان، نضا عنهُ جلبابه، ترنّح كالسّكران ثم انكفأ تحت الجدارِ، وفي غمرةِ يأسٍ توقّفَ قلبه، كانت شمس الظّهيرة تجثم على صدرِ البيوت حين أُذيع فاجعة وفاته، وعلى حينِ بغتةٍ شَقّ الفضاء بوق سيارة، افسحَ شيخ الخفر الطريقَ أمامها وهي تتخذ طريقها في مهابةٍ، لحظات وكان ” عبدالشافي ” محمولا بداخلها ليغادِر المكان، لكن هذه المرة بلا عودة، مرّر شيخ البلد يدهُ فوق كرشهِ، وقال :” لقد جاءَ أولاده، أفندية ملء العين، كيف لبائع كراث أن تكونَ لهُ مثل هذه العزوة ؟!”هَبَطَ قريتنا كثيرون بعدهِ،تلاحقت عبارات :” الكرات العريض “، لكنّهم لم تكونوا مثل “عبدالشافي”.
***
جَواز سفر
يتَوجّب عليّ تَجديد جواز سفري، اعترف مُرغما بأنّ علاقتي بمكاتبِ إنهاء المعاملات الحكومية ليست على ما يُرَام، رُبّما لتَغيّبي عن الوطنِ في غُربةٍ بلا نهاية، ما إن وقعت عينيّ على تاريخِ الانتهاء، حتى عاجلت ذاكرتي مَخاوفَ لا حَصر لها،
ليلتئذٍ جفاني النوم إلى أن انبثقَ الصُّبحُ، تمام السّابعة وجدتني وسط خِضَم هائج، تسبقني دقاتُ قلبي المضطرب، اتحسّسُ مَفزوعا حافظة أوراقي التي حشوتها بالوثائقِ، تتواثبُ عينيّ ذات اليمين وذاتَ الشّمال، اُطالِعُ المبنى الرابضُ في صمتٍ مهيب، تلَطمُ وجهي برودة الصَّباح الجائرة، في رزانةِ المُجَرِبُ اتخذت لنفسي مكانا قصيّا، لا يزال قُرص الشّمس جنينا محمرا ولا سبيلَ إلّا الانتظار، على حينِ غِرةٍ خَدَشَ الهدوء صوتٌ قريب، تقدّم مني رجل جاف الملامح، ثبت على ثغرهِ ابتسامة صخرية، قال في تبلّدٍ وهو يعتصر شفتيهِ :” تجديد ولا جواز أول مرة يا استاذ ؟”، سَرت في جسدي قشعريرة، للحظات ضَرَبَ الصّمتُ بأطنابهِ، هززت رأسي مُمتنا، تَعكّرَ مزاجه بعد إذ افلت صيده، غَاصَ لونه ليعود وعلى جبينهِ كآبةٍ قاتمة، كانت رُسل السّماء قد انفَضّت من حولي، تلاحقَ النّاسُ مثنى وثلاث ورباع شقوا طريقهم في تَحفّزٍ، بدأت ماكينات التصوير تَزأرُ في ثورةٍ بعد خمولِ دامَ سواد اللَّيل، في عَبثٍ يتَصايح مجهول :” ابعت..ياللي بتبعت”، دقائق وانبَلَجَ الصُّبح وضّاحا، اكتظّ الرّصيف بزوارهِ في كرنفالِ أزياء لافت، أحاديثهم السّاذجة تتقاطر على فَتراتٍ :” يا فندي أنا عايز اغير المهنة عامل عادي اعمل ايه ؟!”، كفراشٍ يتَصيّدهم صاحب ماكينة التَّصوير الذي شَرَعَ يشرحُ قي ثقةِ الخبير ما يجب، تتعالى خَشخشة الأوراق تقلبها الأيدي في انزعاجٍ مُؤمّنة على كلامهِ، إلى جواري اسندَ عجوزٌ رأسه بينَ كَفيهِ، يَشبُّ في كيانهِ ما يُشبهُ الحَريق، يَضربُ كفا بكف:” هم كبار السِّن ليهم شهادة ديش يا عالم.. عايز احج بيت ربنا”، امتلأ قلبي بأوجاعِ تَنبعث من تحتِ رمادِ الذِّكرى تحييّ ما اندثرَ من ألم، سنوات الغربة، فراق الأحبّة، عمري المُنفَرِط كحباتِ المسبحة، سحابة كثيفة لأمسٍ غَابر، اُغَالِب انكسار النّفس وانكماش الرّوح، تمتد يدٌّ نُحاسية غطاها الشّقاء تَدَفَعَ حَانِقا حِزمة أوراقه إليّ، وإلى جواره فتا تتضرّج أساريره بالأملِ، عليهِ انفراجة الحياة تتلألأ، قال وقد أربدَ وجهه بهمومٍ ثِقال :” ابني مسافر، جئت ضامنا، فتحَ الله طريقه للخيرِ”، ثم غَابَ في فكرٍ مأزوم، يفزعني تبجّح راعي ماكينة التّصوير وثرثرته التي لا تَنقطع، سيل التعليمات يُسدِيها يَافعٌ صغير تَوسّط مُتفَزلِكا حَلقة واسعة من ذوي الجلابيب البلدي، نظرات الإعجاب لا تنقطع، تُفتِّتُ الجَليد المُتَكلِّس فوقَ الوجوهِ مُنذ الصَّباح ؛ يُسيّلُ اللُّعاب رُؤيا فتاة جذابة، تتَبختر في ثيابٍ قصيرة، رائحة عطرها الأنثوي الفواح تحتك بالأنوف في استفزازٍ، تتأملها العيونُ التي سرحت في تفَاصيلٍ غريبة، همسات الجياع وغمزات القروي الأبله، عبارات التَّشهي الوقحة تُضحكني، طرقعة كعب الحذاء العالي مستمرة، تَتهادى في مشيتها أمام البوابة، تُحدِّق في ساعتها مُتَفاخرة، تُردِّد هامسة في الجوال عباراتٍ مقتضبة، لم تلتقط أذني غير :” دقائق انهي المعاملة، على الموعد.. سلام “، العيون تَزحف من خَلفِ موظّفي المبنى في تَحنّنٍ، لا تَنقطع مناوشات العسكري، نبرات صوته المبحوح، يُلوِّحُ مُزمجِرا،منظر السِّيجارة وخيوط الدُّخان المُتلوّي حول أصابعه الطِوال، لهجته الحاسمة :” قلنا ألف مرة، بعّدوا عن المدخل دي سكة الموظفين لسه بدري يا عمّ الحجّ”، تبدأ المُنَاداة، يَصطف القوم تحت عبئ الانتظار، تلهج الحناجر داعية بالتَّيسيرِ، وشفاه يبّسها الصَّبر تؤمّنُ في خضوعٍ، دقائق كافية لأن أذوبَ وسَطَ أمواجِ الزِّحام إلى أن يَشاء الله.
***
عنبر ١٢
حَتّى إِذا ما توقّدت الشّمس والتَهبت خيوطها المُتَدفقة من بطنِ السّماء، تُزيح عن وجهِ الرَّصيف بقايا نسيم الصُّبح البارد، يَتَهاطل الزُّوارُ من كُلِّ حَدَبٍ، يرمون بعيونهم المُرتَعِشة مبنى مستشفى الصَّدر، افترشَت ” حسنية ” مكانا صَوب البوابةِ ؛ تُطالِع حركتها، تلتمع حدقتاها في وجهٍ نُحاسيّ كئيب، تمدّ يدها في وهنٍ تُخرِج كِسرةَ خبزٍ لدِنة، وقطعة جبن قديم من بطنِ منديلٍ محلاوي باهت، تمسح فوقَ ظهرِ صغيرها ” سيد” الذي تلهّى يلتهم حلواه، ترميه بابتسامةٍ طافت على شفتيها، لتعودَ سريعا تمسح مدخل المستشفى الذي بدأ يستقبل زواره.
مُنذ اعتلّت صحة ” سعداوي ” ونفدَ السُّل لصدرهِ، ليؤتي على البقيةِ الباقية من عافيتهِ، وهو يُلازمُ سريره في ” عنبر١٢”، قال الأطباءُ:” إنّ حالته مُتأخِّرة، ولابُدّ لهُ من رعايةٍ”، في السَّابقِ لم تُفلِح معه نصائحهم،، يضرب كرباجه الطويل وجهَ الهواء مُنفعلا، قائلا في ثورة:” هو أنا مكسّح علشان اتحجز!”، يشغله أمر أسرته، لا عائل لهذه الحُنوك إلّا ما يرجع بهِ من قروشِ شقاء يومٍ كامل فوق َ ظهرِ ” الحنطور”، بطلت هذه الأيام موضة ” الحناطير”، بعدما امتلأت الشوارع بالعرباتِ الحديثة، نصحته زوجته ألفَ مرةٍ؛ أن يبحثَ لنفسهِ عن مصدر رزقٍ جديد، كانَ يَهبّ فيها مثل ” وابور الجاز ” مُلتهبا :” دي مهنة البهوات يا جاهلة، وكار ناسي”، ظَلّ في عنادهِ القديم، حتّى داهمته مَتاعب المرض يستنفد عمره رويدا رويدا، تناثرت شكواه من أعباءِ المعيشة، حتّى حصانه الوفي باتَ رهن الهلاك، لم يكن ” عبدالهادي ” بالمُقامرِ الذي يَقتَحم فِجَاج الأرضَ يلتقطَ من أقواتها فما كانَ لهُ أن يفزَع لما يفزَع إليهِ النّاس، حتى كانَ ذاتَ أصيلٍ وقفَ إلى جوارِ عربته، يُنازِعَ آلامَا مبرحة، شاعت في صدرهِ كَكراتِ اللَّهب، هدأت بعد سعالٍ خانق أنفاسه، دارت الدنيا من حولهِ وهو يبهتُ في يدهِ المُلطَّخةُ بدمٍ غليظ، وبعد عناءِ يومٍ كامل قضاه أمام شباك التّذاكرِ، قرّر الطبيب احتجازه حتّى يتعافى، تلقّت ” سعدية ” الفاجعة مولولة، فهي تعلم من حالهِ ما غابَ عنه، ومن دنياها ما يغيب عن النّاسِ، لكنّها تَعقد الأملَ في غدٍ يأتي، يرجع فيهِ رجلها بيته، تُطَالِعُ كُلّ زيارةٍ وجهَ المريض المزدول، ولونه الشّاحب المبدول، ولهاث صدره المُتَسارِع، ونخامته بالدّمِ، ووجوه المرضى الكالحة من حولهِ، بأنينهم المتواصل، تُقلِّبهم أيادي الممرضات كالموتى، وجلجلة ضحكاتهن تَهزّ العنبر ؛ فينقبض صدرها، فَوق الرّصيف تسترجع ذاكرتها تعتصر ماضيها، مُذّ أتى بها ” عبدالهادي ” مِنْ قريتهم ابنة العاشرة لم تجد يوما هانئا، لم تجد من معسولِ حكايات البنات عند الموردةِ عن البَندرِ، ورغيف القمح الساخن إلّا الضنك ومرّ الأقدار، مصمصت شفتيها في استسلامٍ وهي تلُملِم أسمال أولادها المُلقاة في فوضى لتعودَ للبيتِ، كانَ ” جلجل ” الحصان المسكين يَلوك خطامه، ما إن فتحت باب حظيرته حتّى اطلقَ صهيله الموجع، نظرة تأنيبٍ بعدما فعلَ الجوع فيهِ ما فعل، أنساها مرض ” عبدالهادي ” أمره، طالت رقدة المريض، وفي كُلّ مرةٍ تودِّعه وداعا ليس من ورائهِ عودة تُرتجى، مع المساءِ تحتضنُ ” نفيسة ” آخر العنقود، هي دائمة السؤال عن والدها، ما إن تُبصِرَ أصابعَ الفجر تنفلت من زَوائبِ الليل السّوداء، مُعلنةً انبلاج النّهار، حتّى تُبادِر بالذهابِ للمستشفى، تقف أمامها وقفة الوثني أمام صنمهِ، تقضي ساعاتها في أحاديثٍ عِمادها التّرفيه ؛ علّ المريض يَنسى كبوته، أتت يدها على متاعِ البيت، ومن قبلهِ” جلجل” رحمةً بهِ من موتٍ محتوم، بدأ ” عبدالهادي ” ينشط من عقالهِ، لطّخت العافيةُ وجنتيه قليلا، سكنَ أزيز صدرهِ، وتوقّف مقذوف فمه، بعدما اعتدلَ ميزان النّهار، كَتَبَ الطبيبُ المُعالِجُ تصريحا بالخروجِ، انفلت من البوابةِ مُستندا بينَ ذراعين، ليجدَها في استقبالهِ، غَمرها بينَ ذراعيهِ في اشتياقٍ، انثنت خَجَلا وهي تُردِّد مستحية :” ألف بركة ياخويا، رجعتك يوم عيد”، عادوا جميعا للبيتِ، إلى دوامة الحياة، تُغرِيهم بالأماني كغيرهم ؛ حتّى يَستَرِدّ الله وديعته..