فتحي مهذب
كافكا في السجن
المطر ضرير يخبط في صحن البيت المتداعي. البيت الأشيب التهم طفولة (م) بفكي حيوان ضار. العتمة تفتح النار عشوائيا على الجيران. رائحة مقززة متعطنة تتطوح في أصقاع الحجرة المليئة بثعالب الهواجس.
هنا كل شيء يرغب في الموت.
في الهجرة الأبدية إلى أقاليم الغياب الوسيعة. مومياء مسنة تحمل ذؤابة شمعة بين أصابعها المكسوة بتجاعيد كثيفة. تحدق في تفاصيل وجه الأب المتكوم مثل حشرة عملاقة نافقة. تبدو جثته مقطوعة إلى نصفين متوازيين كما لو أن شظية طائشة كانت وراء ذلك.
تزرب من حدبته ديدان مقرفة.
عيناه الضيقتان تبدوان نصف مغمضتين
أمضى نهارا يتخبط في خرم اللامعنى تلاحقه الأعين المتجسسة المرفودة بالكراهية والسخيمة.
تعض شحمة أذنيه أشباح نزقة.
عربة الجار ذات الحنجرة المبحوحة المزدحمة بالغيوم تنادي باسمه كل صباح ليقترف العبث والجنون واللاجدوى بغية الحصول على رغيف أسود سام فظيع.
(ن) تخطفها حوذي الموت في الرابع عشر من آذار الفائت.
ماتت مثل سحلية قميئة في مكب نفايات. مخلفة فراغا يزعق مثل بومة عمياء كل مساء.
طردتها الحياة بمكنسة على مؤخرتها باتجاه الهاوية.
رغم ذلك لم تيأس من كسر قوقعة الفقد والتحليق بأجنحة متوهجة
في أصقاع البيت كلما تختفي الشمس وراء أكمة الأفق البعيد.
تزور بعلها المتشقق المنبوذ وابنيها اللذين ما عتما يحلمان بدفء عائلي أثير.
كان ابنها (س) يحس بوجودها وبخاصة حين تصهل فرس الظلمة
ويطلق الرعد أول قذيفة مروعة باتجاه الأرض وتتعالى أوركسترا القطط المتوثبة إيذانا بحفلة تنكرية ساخطة.
كان يناجيها بكلمات رقيقة ناعمة
بينما حزمة من الدموع تتساقط مثل شآبيب المطر على وجنتيه.
الأب حشرة منبوذة .
أخوه الصغير (ر) يثغو مثل شاة يهددها قطيع الذؤبان.
منذ يومين لم يذق شيئا على الإطلاق.
الله لم يعد مهموما بمشاغل هذا الكوكب الملعون المنذور لموسيقى الموت البطيء . لا ينظر إلى الفقراء بعينين صافيتين.
نام الإبن الصغير بجوار جثة أبيه المنتفخة.حالما بنصف رغيف طازج وحذاء جديد لقدميه المتفحمتين.
تأبط (س) سكينا حادة واختفى في بطن العتمة. لم يحظ بأي عمل بسبب العاهة التي التي تكسو وجهه الكابوسي.
الناس موتى والبيوت مقابر.
لا نجوم على سطوح السماء.
الأشباح تتقاطر مثل مسافرين جاءوا من مدن نائية.
لا بد من ملاحقة جنود الجوع الذين يحلقون حذو جسد أخيه الصغير الذى طفق يتلاشى ببطء مثل غيمة في سماء محدبة.
وبينما كان يحرث الحواري بساقي كنغر أبله إذ لاح له بيت وسيع يشي بضرب من النعمة وبلهنية عيش قطانه.
وفجأة تقحم بيتا فخما .
دقات قلبه تتسارع مثل عجلات قطار يحمل جثثا ورهائن.
ينز عرق بارد من جبينه الناتىء.
تفر من زجاج عينيه المكهربتين شياطين مجنحة مخيفة.
خطا خطوات مثيرة للأعصاب.
إنطلق خفاش من شجرة مجاورة
مثل سهم مصطدما بعامود كهرباء خشبي. صمته المتهدل يدق الطبول كما لو أنه في ساحة ملآى بالزنوج.
تسلق الجدار مثل فهد.قفز من البلكونة إلى غرفة الإستقبال المؤثثة التي تشي بالنبالة والبذخ.
ملأ جيوبه بمجوهرات نفيسة للغاية. ثم عاج على المطبخ بخفة.
إلتهم ما لذ له من أطايب المأكولات. ثم إرتد على عقبيه سعيدا بهذا الكنز الذي يتلألأ في جيبه. ثم قفز من سور البيت الفخم متجها إلى بيته المتواضع كما لو أنه فاتح كبير لمملكة السعادة الأبدية.
وبينما كان يمني نفسه بقضاء آخر أسبوع مريح لعائلته البائسة جدا.
إذ قبضت عليه دورية أمن على حين غرة وتم اقتياده إلى السجن لما إقترف من جرم مشهود.
وأعيدت المجوهرات إلى أصحابها.
***
قيامة غريغور سامسا
لم تطله لعنة غريغور سامسا برغم الخيوط الدقيقة التي تصله به والعلقة الصميمة التي تشده إليه.
كان يبكي طويلا كلما انغمس في قراءة رواية التحول التي قلبت رؤيته للعالم رأسا على عقب.
هذا الغريغور البائس الذي تحول إلى كائن هش دميم مستطاع بغيره.
يقضي معظم وقته متقوقعا مفكرا في فداحة شرطه الوجودي الطارف مختبئا تحت السرير منتظرا رمال مصيره المظلم التي ستقذفه إلى المجهول شاعرا بألوان من العنت والعذاب اليومي الذي لا يضارع.
لكن( ق) لم يتحول إلى حشرة قميئة بل تحولت نظرة الآخرين إليه كما لو أنه شيء غير مرغوب فيه، غير جدير بارتكاب فعل الحياة مثل غيره من الأسوياء.
تألبت عليه الكلاب الضارية من البشر الذي ينبحون طوال الوقت.
حاولوا طويلا سرقة روحه واستئصال جوهرها الصافي بأنيابهم الصدئة.
غير أنهم باءوا بالفشل الذريع. حاولوا صلبه على صخرة الدعاية المغرضة لتقطيع إرادته وإفراغها من كل معنى جميل وإلقاء كتل من الرماد داخل حديقة مخيلته الخصبة . ولكن قاومهم بكل ما أوتي من إبداع وجمال وفرادة.
كانوا يحرضون كل شيء ضده البشر الحجر الشجر حتى الفراشات الشفيفة البريئة بيد أنه لم يهن ولم تذهب ريحه.
ظل يصارع هذه الطغمة المتوحشة كما لو أنه أسد أسطوري لا يقهر.
العميان كثر.
– سأسقط الجسر على رؤوسهم.
سأستأصل صورة الحشرة القميئة التي خلعوها علي وعلقوها في برواز مخيلتهم العرجاء.
أنا رجل عظيم قادر على تغيير معالم الأشياء وإعطائها معنى عميقا.
سأقاتل هذا الطابور الذي لم يزل يشك في قوة إرادتي الإنسانية الفذة.
ستكون الكتابة سلاحي الذي لا يفنى. سلاح الآلهة الأبدي. سلاح الإنسان الذي تجاوز شرطه إلى أقاصي المستحيل.
(س) يخاطب (ع) بلهجة ساخرة.
إنه حشرة مقرفة .
تأمل في جحوظ عينيه البراقتين.
كتفيه غير المتساوقتين ,حدبته الكريهة. فمه الأدرد الضيق .
(ع) رغم أنه يمشي على قدمين فإن صورته التي تشبه حشرة مخيفة زنخة لا تفارق مخيلتي.
إنه لا يمت إلينا بسبب.
– تبا لهذه الحشرة العملاقة .
– لا بد من اضطهادها واجتثاث شأفتها .
– حشرة قذرة مغرورة تعتد بنفسها ما عتمت تقاومنا طرا.
قال (س) سأخطط لاغتيالها وإراحة العالم من صورتها البشعة.
لقد أمعنوا في إيذائه وتشويه سمعته وتأليب العالم ضده .
لكن (ق) محا تلك الصورة البشعة التي تخيم في عقولهم . . صورة الحشرة القميئة .
لقد إنتصر على أعدائه أجمعين الناس والزمن والموت بسلاح الكتابة الأبدي.
لقد حول حشرة كافكا الملعونة القميئة إلى قوة إبداعية لا تقهر.
***
مثل نهد سهران
نسيت مسدسي تحت ركبة الله المحدبة..
ورقم هاتفي في تنورته القصيرة..
وفي خزانته خبأت مفاتيح العالم..
خاتم عرسي الملعون..
خرقا ملطخة بدم الطمث..
لفظتها العانس السوداء من شباك
الطائرة..
قتلت ملائكة وشياطين كثرا..
اختلست إوز السماء لأطعم ثعالب الفلكي..
وسخرت طويلا من بني الإنسان..
أنا ابن غيمة زانية..
نصف إلاه ونصف بهلوان..
ألعب بالنجوم والصواعق في رؤوس الجبال..
كل خنازير العالم تنام في تلة ظهري..
وفي كهف عمودي الفقري
ينبح وحش الميتافيزق الأكبر..
وفي دمي تغرد مصبات الأنهار..
هكذا مثل نهد سهران
أحدق في تابوت اللاشيء..
في هبوب سحليات تحت جلدي الأزرق..
في كذبة القس الكبرى..
في دوران الأفلاك داخل رأسي..
في كتاب الليل والنهار وإيقاع الأشباح..
في قبري المقدود من القش والهلام..
مذعور ومضطهد وأسيان..
وفمي مملوء بقش اليوطوبيا..
مجنون أعوي أسفل وادي الأضداد..
تركلني الأسئلة الكبرى
وتخمش بكارة روحي
أفعى الحتميات .
**
جثة دون مأوى
رن جرس الهاتف بوحشية مفرطة.
هاجم أذنيه الشبيهتين بأذني أرنب مذعور. تعالى صوت ناظر المستشفى البارد واللامبالي
– الجثة جاهزة بمقدورك القدوم حالا واستلامها.
المطر والشمس يشكلان لوحة سريالية مدهشة. يخلعان دكنة خفيفة على العالم المتحرك .
لفت إنتباهه مواء قطة صغيرة تواجه مصيرها بهشاشة وارفة الظلال تستعطف المارة النائمين دون جدوى.
حدق في اللاشيء أو فيما ستكون عليه الأمور قادم الأيام.
لقد سحب صاحب المحل محتويات البيت المتواضع إلى الخارج لأنه لم يسدد معلوم الكراء منذ أشهر ثلاثة.
ولكن لم يك بد من إيجاد حل جذري لإيواء جثة أمه التي أعمل فيها الفالج مخالبه الحادة.
الموت والفقر هما العملتان الذهبيتان اللتان ورثهما من العائلة الملعونة.
ماذا سأفعل بهذه الجثة البائسة؟
لا بيت لي الآن والأقارب تحولوا إلى مومياءات لا تصغي إلى نداء الروح المهيضة المخذولة .
عرض عليه صديقه الذي يعمل صيادا في بحيرة مكتظة بالوحوش الغريبة.
– بمقدورك جلب جثة أمك إلى بيتي. سأقيم أنا بكل مستلزمات الدفن. أنت بمثابة أخي لن أتخلى عنك إطلاقا.
سنقيم جنازا رائعا لهذه الفقيدة كما لو أنها أمنا الأثيرة.
لا تشغل بالك يا صديقي.
غير أن عيني زوجته لا تشيان بخير.
هذا ما استبطنه من نظرتها المليئة بالإشارات التي تنم عن الريبة والقلق.
ولكن لم يبال بهذه النظرة المريبة.
ويمم وجهته نحو المستشفى.
سقط الليل بجناحيه السوداوين الغربيبين من أعلى شجرة السماء ليحول العابرين إلى ظلال متحركة
بعد ساعة تقريبا عاد بالجثة البائسة في عربة إسعاف قديمة.
طرق الباب طرقا متواصلا ولكن لم يفتح إطلاقا.
أدرك آليا أن زوجة صديقه نجحت في طرد الجثة والسخرية من روح الإنسانية التي إستماز بها صديقه المغلوب على أمره.
أسلمه سائق عربة الإسعاف جثة أمه وانصرف .
حمل الجثة واختفى في الظلام. بينما المطر ظل يبكي بمرارة داخل رحم المدينة.