أندَلُسُ الوَجدِ

فن تشكيلي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ناصر الحلواني

كوخ من شِغافِ الأرض مقدود

حوائط من جذوع أشجار نُسغها ساري

سقف من هشيم فروع وأعشاش طيور وطيور

وفضاء يعبق بوجود لوركا وترانيم ماريانا

وعطر يفوح من صدره، وأسى، وشمعة ملموسة برجفتها، تشعلها ماريانا عند قدمي المادُونَّا الآسية، المعمولة من خشب زيتونة غرسها لوركا ذات قمر، تركع في ركن صلاتها الفقير، وتشرع في الترنُّمِ ببعض آيات وأشعار الحبيب.

يصعدُ نور الشمعة المصفَر عن بدن المادُونَّا المشرقة في خفوت ضوءِ الفجر، يمرُّ عبر شقوق السقف إلى السماء، يطوف وسِحر أغنية شجية، يفيضُ بها لوركا على ملكوت ماريانا، الغائبة في صلاتها، تنهمر المعاني على قلب السَّاهمة، فتقوم من تحت نور شمعتها، تَنشُجُ، فيما يبدأ النهار يصعد، رمادي الإيقاع، متسارع النَسمِ، خافق، ويرقى العاشق بمعانيه، فتخطو إلى حيث يجلس، ينصهر في حالات عينيها، ويذهب بالقصيد إلى مقام شجنٍ، وتُنصتُ إلى موسيقى عينيه، تميلُ إليه، يجذبها المُقام، وفي النفس جزع الرحيل.

تميل إلى شفتيه، تضع قبلتها، ودمعة دافئة، تمتزج بِحَرِّ دموعِه، ودون أن تلتفت عنه تكون إلى الباب، تفتحه، يتدفق الفجر إلى الجالس يسطرُ آلامَه على مسامع الكون، وتخرج المهاجرة، إلى الحقل المجدب تكون، وتعبر درب الرمال إلى المدينة.

ومن الأكواخ المنثورة في غير إيقاع، على مدى الحقول المفتوحة للبصر، تتبدى أشباح الخارجين في أسمالهم، يحملون جوعهم، وأحلاما ذهبيةَ الزخارِف تُكللُ رحيلَهم إلى مدينة السماء، ومعاناةَ سفر، وما بقي من فؤوس ومناجل، يحرثون بها مسيرتهم إلى عرش الربِّ الساخط عليهم، في مدينته المقدسة، علَّه يعفو، أو علَّهم يدركون فضلةً من فيض ثروته.

يمرون تحت طواحين تحطمت ريحُها وريشاتُها، ويمضون إلى مَحفلِهم، وفي جمعهم تسير ماريانا، وليس معها غير صُرَّة من نسج يديها، تحوي رغيفا وحبات زيتون، وبضعة أوراق، وما في قلبها سوى مدينة الربِّ ووجه شاعر، وما في بصرها إلا سُبل رحيل، وفي النفس ظمأ، يروم سُقياه في قلب كوخٍ فقير في أندلس الروح، المتروكة للجوع.

تتردد أصداء هدير في أرض الذاهبين، يصحبه رنين أجراس نائية، رنَّاتٍ خافتة في وقار، تهبط على أسماع العابرين مثل وحي، فيذخر المدى بأذرع تدور على أنحاء الجسم ترسم صُلبانها، وفي الأبصار يتجلى زحام من المرائي، أحلامُ نهار، ويأخذ الرنين في الوضوح، متجسدا كرؤى يقظة في خيالات السائرين، كأن بِشارة تحملها المادُونَّا المحلِّقَة ترشدهم جهة الشرق، كأن فارسا يقاتل بصليبه ويظفر بالنصر، وترتفع أصوات جوقة تُنشد قداسا احتفاليا، يسمعها المنذورون للرحيل كإنشاد ملائكة تدلهم إلى سبيلهم، يتجهون إلى حيث تصدر الترانيم، من كاتدرائية المدينة، إلى حيث يركع مطرانهم يصلي، داعيا لحملة المخلِّصين لمدينة السماء بالمغفرة وعفو الآخرة.

وفوق تراب الحقول الجافة، كانت الفراشات الذهبية تسبح في الفضاء القريب، فوق رؤوس الراحلين، حتى يوهنها السفر، فتحطّ على حواف الأنهار الجافة، وتحت أقدام السائرين، وعلى ملائكة المدينة المنصوبة على حواف أفريز الكاتدرائية، ينتصبون في شموخ حجري نحو السماء، وبثقل مادتهم يتمسكون بالأرض، ويتهيأون لقدَّاس وداع.

في الأفق ينساب صوتُ غِناء تعرفه ماريانا، يصير إلى مداه، يستحيلُ إلى نَورَسٍ صادق البياض، يدفُّ متجها إلى حيث تكون، ويعود ثم يعاود، حائرا. يبتعد إلى جهة البحر، تحرقه اللوعة، يقف على نهاية شراع شاهق، وفي حزن يرقب بحارة يحملون إلى سفنهم صناديقَ غنموها ذات نِزالٍ، يعرف زخارفَها الموشومة في جنباتها، ويلمح في قلوبها سيوفا رآها تتلألأ تحت شمس قرطبة، وغرناطة، والمريَّة، ومالقة، وإشبيلية، وجبل طارق، ومُرسية، وبلنسية، وطليطلة، وسرقسطة، وقشتالة، فوق خيول عربية تشتهي الفَتحَ وصلصلةَ النصال، وصناديق أخرى تحوي كنوزا كانت لفرسان حازوا قلوبا لها براح الصحراء وجَلَدِهَا.

يرقبُ القائد المنذور لاكتشاف العالم الجديد، يخطرُ على سفينته “سانتا ماريا”، يتعلق بجنبه سيفٌ موسوم على غمده حكاية حبيبة مأسورة، وعلى المقبض نبوءة التيه والخلاص، وعلى صدره كان رنين خافت، بفعل تخبُّط صليب من ذهب بمفتاح غرناطة، ومن قلب السفينة يصدر غناء بحَّارته:

على صدر سانتا ماريا

يصلي الحبيب كولمبس

ويتأهب للرحيل

إلى ما وراء الأفق

إلى موطن السحر

دون أن يهاب المجهول

فعلى صدره تعويذته

وخلفه رجال شجعان

وتحته الجميلة

سانتا ماريا

سيذهب بها إلى عالم جديد

ويعود بأحلام خلابة

لينثرها على الجميع

فليحمه الربُّ

ومثل عطر يذوي، يتلاشى النورسُ كإيقاع خافت لقصيدة بعيدة، خفوت أغنية لا تنتهي، تكون إلى روح ماريانا الذائبة في جيش الفقراء المتراكم على جنبات الطريق الملكي، المؤدي إلى السلم الرخامي المهيب للكاتدرائية، المهيأ لاستقبال فارس حملتهم إلى تخليص الربِّ، يتمتمون بصلواتهم، ويقضمون من كسرات الخبز الجاف في صررهم.

 وعند أبواب المدينة، في ركن خفي، كان “سرفانتس”، مثل كهل يُهرع بريشته على صحائف ورق مذهَّب الأطراف، يخطُّ سِمات فارس الخلاص في سرعة ودقة، وأمامه يتخلق وتمام الحروف الفارس على فرسه المطهَّمة، ودرع تحلى بتطريزات قوطية، ورمح يقدرُ على مناوشة الهواء، وخوذة تحولُ دون تشتت الأحلام، أو خروج الأفكار.

عند صعود الإنشاد إلى مقام تمجيد الربِّ، تصدح الجوقة مرددة “هللويا، هللويا، هللويا”، تتحول حروفُ سرفانتس إلى جسد متعين، يجمع الفارس وفرسه، ويمنحه اسم “دون كيخوتة”، فيتقدم باسمه وفرسه إلى أول البساط البابوي المفرود له، تنحني لمروره الجموعُ المتراكمةُ على جانبي الطريق، جنودُه الفقراء، قربان خلاص معبد الربِّ، فلا ينظر إليهم، ويمضي إلى حيث تنتظم جماعة فرسان المعبد، في احتشادهم المتأنق، يرفلون في عباءات المخمل، قانية الخوافي بيضاء الظاهر، يرفعون للفارس سيوفَهم، فيما تتردد تحتهم الخيول بين لهفة السير وسطوة اللجام القابض على فورتها الموروثة.

كانت شمس اليوم تخفتُ في إيقاع رحيل كوني، فلا تسمع النواقيس المعلَّق وجودها بدوام رنينها الاحتفالي، أو الإنشاد المدوِّي للجوقة المختبئة في تفاصيل الكاتدرائية، تاركةً للملائكة والرُّسلِ والشهداءِ المبعوثين حجرا في الجدران المحيطة متعة الدفء، والإطلال على المتأهبين لحملتهم، ولا يبوحون بسرِّ الفارس المخطوط توا. و

ومن عليائهم، ترقب الأجساد الحجرية روعة الجمال الدنيوي البادي من مزق رداء ماريانا، تمسكُ في كفِّها أوراقا تقرأها، وفي بصرها تتشكل الكلماتُ أطيافا من لدن حبيب، تهيم حروفها فوق هدير الحشد، موشَّحُ وجعٍ، فلا يكون سوى صمت من دون سكون، يتواصل على إيقاعه وجدُ الحبيبة هنا، والحبيب هناك.

يخرج المطران، يمرُّ تحت رصائع من آيات قرآن يناغش حروفَها ظلالٌ ملونةٌ تسكبها نوافذ رومانسكية، يفوت تحت سطوتها إلى أعلى السلم الرخامي البارد في مهابة، مطوقا بالشرائط الذهبية، وتاج الكهنوت الممهور بلون الخمر المقدسة، يتكئ على صولجانه، وخلفه، على عصا فقيرة، يتكئ أرسطو، الفَزِع من هول الزحام، ترتبك خطواتُه، ويتقدم المطران نحو الفارس “دون كيخوتة” ليباركه، فلا يترجل عن فرسه أو ينحني، وبدا مثل نقش أنيق، جميل التكوين، لا يصدر عنه سوى ما يدل على وجوده، مثل شخصية روائية تُدرك أنها ستبقى خالدة، وأن لا معنى لفعل بذاته.

سار إليه أرسطو، متقلقل الخطو مثل عصاه الهزيلة، وقال له:

“لقد كرَّم الخالقُ الأرضَ بأن جعلها مقراً لنا ولأرواحنا في دنيانا، ولكنها إلى فساد، لا يثمرُ فيها غيرَ النَّقص، أما الخير والكمال، فهناك، فيما وراء القمر المضيء بنور الرحيم، فكُنْ له في خَطوِكَ، يكن لك نورُه في العالم الآخر، كُن مثل التراب العالق بأجساد وأسمال جنودك الفقراء، فتَقَرُّ في قلب الكون الإلهي، ولا تكُن نارا تحملها خِفَّتَها إلى أعلى، حيث إلا الخواء، وعماء ما قبل الكون، ما قبل الروح الحاملة لغبار الربِّ”.

خرجت الكلمات من فِيهِ خافتة، مثل روح وحيدة تغادر سُكناها إلى العُلى وهي تعلم أن لن يفتقدها أحد، مرَّت إلى أذن الفارس الصامت مثل أيقونة، متجها ببصره إلى المطران المتخم بثراء المخمل ونور الرَّاحة، يجلس على بهاء كرسيِّهِ، يرفع كفَّه البيضاء، المرقومة بشامات آخر العُمر، يرسم الصليب في الفراغ بينه وبين الفارس، الذي يشدُّ غطاء خوذته على وجهه ويمضي، تتبعه الهتافات شعب من الرٌّحَّلِ: “ليحمه الرَّبُّ”.

تتناثر بقايا أصوات الراحلين على ذرَّات غبار تثيره خُطواتُهم  وتنظم تراتيلُ الجوقةِ خطوات الخيل الفَرِحة بفرسانها. وفي قلوب الحفَاة، الذين يحملون المناجل المثلومة وعصي اتكائهم، كان رحيق غناء ينبض مثل وَجَل غامض يعتريهم، لا يعلمون له مصدرا، أما هي فكانت تعلم.

لا يبقى في الساحة سوى الغبار، يغادره المطران لائذا بخلوته الموسِرَة، ويغادر أرسطو إلى نهاية الميدان، حيث يقف شيخ مهيب ينتظره، يجمع الشيخ صحائفَه وريشاتِه في كيسه، ويمشيان معا، يستند أرسطو إلى ذراع رفيقه ويحدِّثُ:

ـ “والآن، بعدما قرأت جميعَ شروحك ونقدَك لكتبي، هلا تفضَّلت علي ببعضٍ من نور فلسفتك” ثم يردف:

ـ “هل تظن أن ذلك الفارس قد سمعني؟”

كانت الشمس تتأهب للرحيل، وفي المدينة، كان الغبار قد سكن الأرض، وفي ركنه المنزوي، كان “سرفانتس” قابعا، يشعل شمعة الدُّهن السميكة، ويكمل على صحائفه المذَهَّبة تاريخَ فارسه.

في الميدان، تهبُّ نسماتُ أول الليل، تلهو بورقة تنضوي على بعض ضوء، وبعضِ أنينِ بُعدٍ، يدفعُها النَّسيمُ إلى ماريانا، تنحني إليها، تلتقطها، تجد لها رائحة البساتين البعيدة، وملمس الوَجدِ، تفردُها في بصرها، تشعر منها نبض روحٍ تروم اللقاء، وتقرأ فيها:

آه يا لطول الطريق

آه يا فرسي الشجاع

آه يا للموت المنتظرني

قبل أن أدرك قرطبة

قرطبة

قاصية ووحيدة (1)

تبتل خطوط القصيدة بطِيبِ دمعها، ويأخذ المعنَى المنظُوم شِعراً في الصعودِ بألمِه، يوحي إليها أن امضِ إلى مجازات المتاهة المقدَّرة عليكِ، فهي قُربانُكِ لأجل العَود.

ومثل بَخورٍ له عَبَق اللاهوت تمضي الحملة، تدفعها ريح الشمال الباردة إلى شرقٍ لا يعرف إلا الدفء، وأريجَ عطور الذَّهب، وفوحَ الممالك المبسوطة بقدر الرغبة الراحلة إليها.

ومثل زهرة، تكون ماريانا في وهج نيران معسكر الحصار، تُخرج أوراقا، تحوي أشعار الحبيب النائي، لتتأمل روحه المنطوقة أبياتا تتردد في وجودها، تجد الأوراق إلا ورقةً، تفتش في أشيائها المتاحة في صرَّتِها، لا تجدها، ولا تأسى، وترنو إلى النَجمِ السابحة في ملكوت ظلمتها العالية، تدرك أن ما تفتقد من روح الحبيب قد لاذ بروح تحفظه.

تقوم إلى السُبل المفرودة في التلال المحيطة، تنظر إلى خيمة القائد الزاهية، تصبغها النار الهائلة أمامها بوهج دنيوي، يتألق على حُمرةِ الصليب المرفرف في بياض رايته، وعلى وجوه الفرسان المحيطين بقائدهم، يمرحون على موائدهم، وفوق نساء، تلمحهن يمرقن مطأطآت عبر الفروج الخلفية لخيامهم، كانت تعرفهن، وتعرف اللون الوحيد لأسمالهن، وأجسادهن المحنيَّة، وتفكر في رغباتهن في الخلاص من العَوَزِ، وارتقاء ملكوت الرَّب بتقديم أنفسهن قربانا لرُسُلِه، الذين لا يخلعون هالاتهم النورانية، حتى وهم فوق نسائهم الفقيرات، أو وهم يحرقون الأرض التي يجوزونها، يدوسون رجالها بحوافر خيولهم، ويدَعون الدمَّ المنهوب يُروي مسارات زحفهم، يُنهكون المدنَ التي يمرون بها أو تمر بهم، ينكأون النساء بثقل دروعهم، ويسلبون من الأطفال لهوَهُم، ومن الرضَّع حليبَ حياتهم، وفي مرح زحفهم تترى المدائن؛ القسطنطينية، بيزنطية، نيقية، انطاكية، طرابلس، الرَّها، بيت المقدس، وإلى فتوحاتهم تَرِدُ مؤنُ عَرَبٍ يأمنون بها منهم، ويدفعون بها خوفهم، ويَدعُونَ مقدِسِهم للغازين ثمرةً.

في صلاة الناسكين تصلي ماريانا، وترسل للبعيد بشجوها، وللواحد العلِّي بنُطقِها: “لأي بيع يدفع المذبوحون دمهم؟”

وتنطق: “لأي مقدَّسً يكون العنفُ؟”

وتنطق: “أي سبيل يُهدر كل هذه الأرواح، وأي ربٍّ؟”

وتنطق: “بأي غفران نلوذ؟”

وتخرجُ عن فَلَك النار المُوقَدة تحت أسوار المدائن، وتخرج عن رؤيا الفرسان اللاهين بالغزو والنساءِ وخمرِ المدائن، وتخرج عن حشود التابعين، يلغطون، ويسفحون الدَّنَس المتروك لهم، تردد أنفاس العاشق، فتستحيل طائرا، تتبع وحيه إلى أرضها، وفي رفَّات جناحيها يعبق الآس.

……………………

(1)قصيدة “” للشاعر الإسباني لوركا، ترجمة المؤلف عن الإسبانية.

*الفصل السابع من رواية “مطارح حط الطير” للروائي ناصر الحلواني

 

مقالات من نفس القسم