“300000 عام من الخوف”.. المسيرة البشرية المحمومة بحثا عن الطمأنينة

300000 عام من الخوف
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد الكفراوي

انطلاقا من الجسد البشري بمفرداته وتفاصيله المحدودة، مرورا بالعالم المحيط وما يشمله من كائنات، انتهاء بالكون الشاسع غير المحدود ونظامه الديناميكي شديد التعقيد والبساطة في الوقت نفسه، استطاع الكاتب جمال أبو الحسن أن يقدم تاريخ الحضارة والتطور البشري في جرعات مكثفة، وبطريقة سلسلة وبسيطة تعتمد على الحكي المسترسل والمعلومات الثرية في مجالات شتى، وبالتجول في عمق التراث البشري منذ العصور الحجرية القديمة وحتى عصور الحضارات المؤسسة للمجتمعات البدائية، بالاستفادة من الثورة المعلوماتية في العصور الحديثة، تناول الكاتب قصة البشر وما يمثلونه من تطور طبيعي للكائنات التي كانت موجودة بالفعل ولكن بهيئات وتكوينات وخصائص مختلفة نسبيا.

الكتاب الذي صدر مؤخرا عن الدار المصرية اللبنانية فيما يقارب 400 صفحة يحكي لنا كيف كان الخوف هو العنصر المشترك والدافع الأول والهاجس المسيطر على البشرية منذ نشأتها الأولى.

ينطلق الكاتب من حدث عصري هو فيروس كورونا، الذي ضرب العالم لمدة عامين وكاد يشل حركته تماما، ويختار الكاتب شكل الرسائل المتبادلة بينه وبين ابنته التي تراسله حول معاناتها من الفيروس وأيام العزل التي قضتها للعلاج، والأب أيضا ينطلق من فترة العزل التي عاشها، وهنا تبدأ قصص الرعب التي أحاطت بالعقل البشري منذ بداياته وحتى يومنا الحالي.

الرعب من الظواهر الطبيعية الخفية، الرعب من الوحوش، الرعب من الآخر، الرعب من الكائنات الضخمة الساحقة ومن الفيروسات الدقيقة الفتاكة، سلسلة طويلة من المغامرات خاضها العقل البشري منذ اللبنة الأولى لتكوينه قبل نحو 300 ألف عام.

تتميز كتابة أبو الحسن في هذا المؤلَّف المهم بالأصالة والحرفية والبساطة الأسلوبية، والعرض الشيق الثري للأحداث وتحليلاتها، ومنذ البداية حين نعرف أنه اختار نوعا أدبيا قديما مثل “أدب الرسائل” إطارا لكتابه، فلا شك أنه قرر أن يستعيد قوة هذا الأدب وسطوته وسحره عبر التاريخ، فمن هذا الأدب خرجت مؤلفات عمدة في مجالات مختلفة، من أهمها رسالة الغفران لأبي العلاء المعري، ورسائل إخوان الصفا التي تعتبر من أهم وأعظم المراجع العربية في كافة العلوم والفلسفة.

ينطلق الكتاب من عناصر بسيطة يجعلها بمثابة مفاتيح لفهم الوجود البشري وعلاقته بكل مفردات الكون من حوله، يبدأ من الطاقة، ويمتد ليشمل المعلومات، حتى يصل إلى الشفرات التي تعبر عن أنماط ثابتة تحكم العالم والوجود البشري، وعلى مدار الرسائل العشر التي يحتويها الكتاب يظهر كاسرو الشفرات باعتبارهم أبطالا استطاعوا أن يكتشفوا الأنماط الثابتة في الوجود ويستخدمونها لخدمة البشرية.

يبدأ الكتاب بطرح أسئلة عديدة، فالكاتب يحكي لابنته قصة “أسرتك الكبيرة العتيدة التي خاضت مغامرة مدهشة من الكهوف الحجرية إلى الذكاء الاصطناعي، مغامرة مليئة بالأفكار والخيالات والصراعات والانكسارات والخيانات والانتصارات.”

يتتبع الكاتب مصدر الحياة، اللبنة الأولى لظهور الكائنات الحية، ودور الشمس في منح الطاقة للوجود من النباتات إلى الحيوانات إلى البشر، لذلك كانت موضوعا للعبادة والتقديس في الحضارة المصرية القديمة كرمز للإله.  

“كاسرو الشفرات” مصطلح مهم ومعبر عن العبقريات التي مرت على العالم واستطاعت أن تحل ألغازا كثيرة تتعلق بصيرورة الكون والبشر، الذي تمكنوا من كسر الشفرات هم أشخاص فكروا فيما وراء وجودهم المادي المحدود، راقبوا الأنماط المتكررة عبر التاريخ، رصدوا التغيرات الهيكلية في بنية العالم، بحثوا عما يمكن أن نسميه “نظام تشغيل العالم”  هنا تظهر أسماء كثيرة، مثل حمورابي، صن تزو، نيوتن، داروين، جاليليو وغيرهم الكثير، الحضارات القديمة استطاعت أن تساهم في هذا المجال، لكن هذه المرة ليس بفك شفرة وإنما بصناعة شفرة، تمثلت في واحد من أهم الاختراعات البشرية “الكتابة”.

يشير الكاتب عبر مراجع وكتب ومصادر معلوماتية كثيرة إلى تاريخ تطور الكتابة وحاجة الناس إليها، والبداية بالكتابة التصويرية، ثم ظهور الأبجديات، وتأثير ذلك على تكوين الحضارات المختلفة.

 ومن أهم الاختراعات الأخرى التي تحمل طابعا تجريديا لكنها ساعدت البشر على فهم وحل الكثير من رموز العالم كانت الأعداد، فمن خلال هاتين الشفرتين البدائيتين بدأت القصة الحقيقة لتطور وصعود نجم الحضارات البشرية، كما يتحدث الكاتب عن “الشفرات الاجتماعية” المتمثلة في الأفكار السياسية والفلسفية والدينية والعادات والتقاليد السائدة في المجتمعات، وكيفية بناء هذه الشفرات بطريقة محكمة تضمن تماسك المجتمع وتحقيقه لأهدافه.

يكشف الكاتب بطريقة مبسطة وسلسلة عن طبيعة الصراع البشري المتمثل في صراع الخير والشر: “صراعات الجماعة ضد الجماعة قد تكشف لك عن حقيقة مخيفة أخرى: أن الخير والشر ربما يكونان وجهان لعملة واحدة، قمة التضحية وذروة الوحشية تتفاعلان معا في تضافر عجيب لتدفعا إلى نتيجة واحدة: العنف الدموي، والحروب والآلام التي غلفت قصتنا، وحفرت ندوبا غائرة في وجه حضارتنا.”

يتطرق الكتاب إلى الحروب التي شنتها البشرية لبناء الدول قائلا: “لقد صنعت الحروب الدول، ثم قامت الدول بشن الحروب” ملخصا تاريخا طويلا من الحروب والمعارك التي خاضها المحاربون بالتحالف مع الكهنة، ثم أزاح المحاربون الكهنة وجعلوهم يعملون لصالحهم.

يرصد الكتاب طريقة قيام الحضارات والإمبراطوريات الكبرى في العالم وفقا لشفرات معينة يتم غرسها في المجتمع، بداية من الحضارة المصرية القديمة والبابلية والصينية والأشورية والحضارة اليونانية، ويشير إلى عاملين مهمين كانا وراء هذا الصعود النوعي لمسيرة الحضارة، الأول هو العقل الذي وضع نمطا وطريقة للعيش المشترك والثاني هي الفلسفة التي قامت عليها تلك الحضارات، ويتتبع الدور الذي قام به الفلاسفة الكبار مثل سقراط وأفلاطون وأرسطو في بناء الحضارة اليونانية والعقل الغربي، والدور الذي قام به أرسطو تحديدا كعقل كبير خلف فتوحات تلميذه الإسكندر المقدوني.

كما يشير إلى الدور الذي قام به بوذا في التنور الداخلي، وكذلك الرسالة التي قدمها كونفشيوس للعالم، وكيف أن تعاليم الاثنين مازالت قائمة حتى الآن ويعتنقها الكثير من البشر، رغم أن كونفشيوس وسقراط لم يدوِّنا حرفا واحدا من تعاليمهما، لكن تم نقل أفكارهما عبر تلامذتهما واستمر الأمر لأجيال وأجيال حتى اليوم.

في الرسالة العاشرة والأخيرة التي جاءت تحت عنوان ” انفجار الأفكار” يتطرق الكاتب إلى الأفكار الكبرى التي ظهرت في العالم وساهمت في نموه وتطوره ماديا وروحيا: “الأفكار الكبرى لها قدرة على تغيير الواقع؛ لأنها تنسج علاقات جديدة بين البشر والعالم، وأيضا بين البشر وبعضهم بعضا، إن قصة ظهور الأفكار الكبرى والأديان العالمية هي النقلة الأهم على الإطلاق في قصتنا بعد التحول إلى الزراعة، إنها الرحلة التي قطعناها إلى أكثر الأماكن غموضا في هذا الكون: إلى داخل أنفسنا”

بهذه الفقرة يشير الكاتب إلى أهمية النظر إلى ما وراء العالم المحسوس، إلى الإطار الفكري العام للوجود البشري، طارحا تساؤلات كبرى ومركزية عبر التاريخ البشري كله “ما الطريقة المثلى التي يجب أن نعيش بها حياتنا على الأرض؟ وهل من سبيل إلى السعادة في هذا العالم؟”

وكأن الكاتب ينطلق من أزمة فيروس كورونا، ليتتبع التفاصيل الدقيقة التي يتشكل منها الوجود البشري المادي والمعنوي، سواء الخلايا أو الشبكات العصبية، أو الأفكار الكبرى التي يتبناها البشر، مرورا بالعلاقات بين البشر ونشوء فكرة الخوف من المجهول ثم الخوف من الآخر، ونشوء الحضارات والامبراطوريات الكبرى وسقوطها، والتطورات التي شهدها العالم منذ العصور الأولى لظهور البشر وحتى عصرنا الحديث؛ ليصل إلى هذا السؤال الكبير المهم: كيف يجب أن يعيش البشر؟ هل هناك خارطة أو وصفة جاهزة للحياة السعيدة؟

كتاب ملهم مشحون بالأفكار والمعلومات والرؤى التي تنظر للعالم من زاوية جديدة: الخوف كمحرك ومحفز للوجود البشري بحثا عن السعادة والطمأنينة. 

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم