الشعر والحياة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 28
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

سامي سعد

فى البدء: لماذا الشعر؟

وإنه نفس السؤال: لماذا الحياة؟، وإذا كان الشعر ضرورة كضرورة الحياة نفسها، فلماذا ينبغي أن يكون قريباً من العظم (كما قال بودلير)، ولقد فهمت الجواب على أنه ينبغي أن يكون قريباً من الحقيقة (أي الجمال) مناصفة بالعدل بين الحقيقة كمطلق، والإنسان كجمال.

البدايات

لا أحد يعرف بالتحديد تاريخ الينابيع، فقط نبدأ الالتفات، حين يشرع الينبوع فى الولادة، توقظنا الصرخات، الدفقات، العذوبة فيما بعد، لكن انبثاق النبع ليس معناه اكتمال الولادة، فكم من نبع طمرته الرمال حال ولادته، وكم من نبع ظل على حال الولادة.

الأشكال الشعرية

أقصد الإناء الذى يحمل القوت، القارورة التى تحتوى العطر، المحارة التى تحيط باللؤلؤة. لكن الشكل سيظل شكلاً وحسب. مجرد وعاء ولا خلود لوعاء مهما كان معدنه، أو إتقان صانعه، الخلود وحده للجوهر، ولأن الجوهر شموس متوالدة عز على شكل أن يحتويها، وظلت الأواني ليل نهار، تتغير وتتسع عساها أن تجد الشمس منزلاً يوائم ضوءها النافذ، وتوالي على الدرب رواد ومبشرين، آملبن فى اكتشاف مناطق يمكن لغزال الشعر أن يرعاها، ويجول فيها، دون قيد ولا شرط. إلا قيد نفسها وشروطها، وهي قيود وشروط لا يحتمل أسرها إلا عاشق، موقن بقيمة الإخلاص. لا شكل إلهى أو مقدس، ولا شكل خالد، المعيار الذى يمكن الوثوق به ها هنا: الجمال والصدق.

التجـربة

أن تمر على كل الدروب، أن تشرب من كل الينابيع، أن تتعرض لكل المناخات، وأن يأخذك الدرب للأقاصي، أو يعود بك إلى البدايات،كل ذلك ليس من أجل أن تتوه أو تضل، ليس من أجل أن تتوقف عند شيء أو أحد مما رأيت، ليس بغرض الحب أو الكره، وإنما لتجد لنفسك فى غابة الضوء تلك، لتعرف أنك عثرت على صلب روحك، فكل الأنهار التي تصب فى البحر لا تجعل منه نهراً. حين ذلك سيكون الشعر هو أنت، هو الحياة التي دخلتك خاماً أبكم، صلصالاً أعمي، ثم خرجت مختومة بأنفاسك، اسمك، لغتك، لون دمك، تفاصيل خلاياك، بطاقة التعريف بوجودك الحق، والأمانة والشرف يقتضيان أن تكون مخلصاً وأميناً لذلك الدفق الإلهي، لقد عرفت دائماً أن الاستخفاف نقيض الشعر.
إذن إنه لمن باب العبث أن تكتب وحسب، لا تجوز الكتابة أبداً إلا عندما يصبح الأمر ضرورياً ولحده الأقصى، وحين توقع باسمك فى نهاية السطور، عليك بالسؤال: أهذا حقاً أفضل ما يمكن لى عمله؟، ولن تجد الجواب سهلاً قط.

الشعر والحياة

إن هذا أرقى بكثير من الحديث عن وظيفة الشعر. إذ إن سؤال طفل عن أهمية الشمس، يبدو أسهل بكثير في الإجابة عنه، لا يمكن لكلمة أو كلمات مثل (وظيفة – روتين- هدف – قواعد – أجر) أن تلحق بمعنى الشعر أو توائمه من قريب أو من بعيد. لكن أن يرتبط الشعر بفكرة ما، فلسفة ما، نهج محدد، يدعو إليه ويكرس نفسه في خدمته؛ فذلك ما تعذر على قبوله أو حتي فهمه طوال سنوات الكتابة.

لقد رأيت الذات الشاعرة، دائماً، دائماً أبعد من كل الأوصاف الجاهزة، أكبر من كل الأطر المرفوعة، فى وقت ما، ومكان ما، ولا يليق بتلك الذات الكبيرة الواسعة (والتي هي فى الأصل كل الحياة) أن تقبل طواعية أو قهراً أن تغل نفسها، وتصير أسيرة ذلك النهج، أو تلك اليافطة البراقة، لقد رأيت أن بيت الشعر كان دائماً أوسع من كل القصور التي يريدون أن يدفنوا روح الشاعر فيها، ولا أحد يملك الحق فى مسار رحلة الريح/ البرق/ الشمس، كذلك الشعر، لا أحد، لا أحد أبداً.
سيقولون عن شعر القضية (نيرودا – إيفيتشنكو ـ درويش)، سيقولون عن شعر الذات الإنسانية (باييخو – ويتمان – أودن)، وكذلك عن شعر فلسفي ومعلم (المعري – دانتي – بريشت)، لكن واحدا من أولئك لم يتوقف قط ليتم حشره فى خانة صنعها النقاد وحدهم. حين يتألق العادي قد يصير نثراً، حين تكتمل الرؤى قد تصير فلسفة وحكمة، حين يفيض كأس الجمال، وراء العادي والفلسفة والحكمة، فى نهاية النهايات، عند آخر قطرة فى نور الأرض، حين تكاد الكلمة تضيء وتطير، هناك: يقبع مولاي وسيدي الشعر. ذلك هو السعي، وقد يتطلب الوصول إلى تلك البقاع إراقة أعمار من كوكب الشعراء، إنما لا بد من وصول، فالغنيمة تستحق العذاب.

التجــاوز

إذا لم يوقفك شيء فى الحياة؟ إذا لم تعثر على سطر فى رواية، شطر فى قصيدة، وجه من بين كل الوجوه، شيء له أثر ما، فما جدوى الحياة؟، ما جدوى الكتابة؟، ما نفع الشعر؟، نعم، سيذهب الزبد جفاء، لكن الجمال خالد، عليك أن تؤسس للجمال، وترعاه، أن تقاتل كي تترك أثراً على صفحة الريح، هذا هو التجاوز، وبدون هذا التجاوز لكنت قد تجمدت، تحجرت، أصابني العفن، غرقت فى الوحل (اللحظة – الواقع – القبول)، وصرت عادياً، ميتاً فى صفوف المقبرة الطويلة، التجاوز وحده سيقودك كطفل إلى بوابة التمرد الخلاق، إذ إنه بدون تمرد – رفض – سخط – تجاوز الخطوط – خرق السائد – تجربة حرة – إيمان بالجدوى لن تتحرك قيد أنمله، فأن تعرف يعنى أن تواصل الغوص، لا قاع لمعرفة، ولا قداسة لحدود، ولا هيمنة لشعار. أنت تحلق وراء المطلق الفذ، اللانهائي الجمال، وعليك أن تحتمل المهالك، قد تصل، وقد لا تصل، ما عليك من هذا، أنت لست معنياً بعلم الحساب، يكفيك أنك لم تكن سوى أنت.
ما الذى أريد قوله؟
لأكثر من ثلاثين عاماً، وأنا أسأل هذا السؤال دون أن أحظي بجواب شاف، فهل الشعر أصلاً هو مجرد سؤال أبدى؟
– كتبت فى كل شيء، عن أى شيء، عنى، وعن الآخرين، عن الذي رأيته وتخيلته، وعن كل ما تحتويه الحياة والموت والإنسان. عن الحلم والخيال والواقع والأسطورة، ثلاثون عاماً وأنا مطارد بما لا أعرف على وجه التحديد، أرضى قليلاً وأخجل من رضاي، واليقين عندي: أنه ليس بعد، دائماً ليس بعد. فى الليل والنهار، فى المنافي وسرادقات العزلة والفراغ، فى الذبح القاسي، فى الفقد المتواصل، الحنين الغامض، التوق، الرغبة، الغضب الساطع، والحزن الثقيل الخفيف، الحب، الوهم، التاريخ، الموسيقي، البحر، الخوض فى المتاهة، إنما دائماً، دائماً ليس بعد: حيث الاستحالة هي شرطي الوحيد لمواصلة الحياة/ الحرب.

الشعر والشاعر

عرفت نماذج من الشعراء قادهم الشعر إلى منصات التتويج فى الواقع، وما العيب فى أن ينال العامل أجره قبل أن يجف حبره؟ ما عيب أمير الشعراء “شوقي” أن ينال الحظوة والتكريم؟، وأن يحصد أحدهم جائزة؟ لكن الجمهور الأعظم من الشعراء قادهم الشعر إلى حيث يُقاد المذنبون وأصحاب الجرائم، ربما كان الشعر نفسه قاضياً غير منصف، وكلما التصق الشاعر بالشعر نأي بذات المسافة عن صخب الجموع، قانون السائد، موسيقي الشارع، لا أتحدث عن البرج العاجي، وليست النظرة الفوقية من أعلى التل، لكن العصر الذي اقترن فيه الشعر بالجائزة قد انتهى، لا جائزة فى الحقيقة توازى الشعر، غير الشعر، حتى وإن جاء الاعتراف فى نهاية الزمان، حتي وإن لم يحضر الشاعر نفسه حفل التتويج، أتذكر “خليل حاوي” حين حول إيمانه إلى بشارات وجنان، أتذكره يعاين خيانة الحلم، صبيحة اجتياح بيروت, فيطلق النار على الرأس الذي حلم كثيراً، ولم يحتمل الخيانة، أتذكر “السياب” مروراً من الحزب الشيوعي إلى القومية إلى الأيوبيات، إلى الموت وحيداً فى سرير مشفي غريب، أتذكر “أبو الطيب”، غريباً، مسكوناً بالقلق الذى تحمله الريح، حتي “درويش” وهو يرفع القضية أو القضية ترفعه، ما الذي يبقي من كل هؤلاء وغيرهم غير الإخلاص؟، لقد فعلها الرواد (بودلير – هولدرلين – سيلفيا بلاث – بوشكين) حتي الهرم الأخير “بورخيس” فعلها دون أن يحظى بغير رضا مولاه الشعر، إذ نادراً ما تصح حسابات الحياة مع الشعراء.

أنا والشـعر

أعترف..لم أخلص فى حياتي للشعر، ولم تدعني الحياة أبداً وشأني، كان الشعر ويظل: فرحى المختلس، دمعتي السرية، عزلتي الأليفة، مهرجان الزوابع لروحي المتوترة القلقة، صلاتي التي بها أنجو من براثن الحياة، ومن نفسي، ملذتي الوحيدة، صوفيتي وانشطاري، حريتي الكبرى، ذاتي التي حلمت بها، ولم أقدر أن أكونها، أناي التي كنت أحاول تدميرها، سلوتي وعزائي، جمالي الوحيد الذي أقبل به وأنصاع إليه.

……………

*ألقيت في مؤتمر أدباء مصر الدورة الرابعة والعشرون

مقالات من نفس القسم