شوقي عبد الحميد يحيى
يقول منير عتيبة فى بداية قصة “ماكينة حلاقة” من مجموعته “24 ساعة مسخرة” ما يعبر-بكل صدق- عن نهجه فى قصصه: {أنا بعون الله ورسوله وبركة أولياء الله الصالحين؛ مثقف عضوي، ينخرط فى الحياة اليومية لمواطنيه، ولا ينعزل فى صومعته العاجية، بل يعيش معهم فى الأفراح والأتراح، فى الجرن وعلى المصطبة، لكي يقودهم إلى الحداثة، حتي لا تفوتهم أنوار التقدم…}.حيث يُعرى الكثير من سوءات المجتمع، ومعوقاته فى مسيرته نحو التقدم، باسلوب ساخر امتلك مقوماته، دون افتعال أو تصنع.
وقد كان من الجيد أن يبدأ القاص المتميز منير عتيبة مجموعته المتميزة، ذات العنوان الآخاذ، والمعبر “24 ساعة مسخرة”[1] بقصة “تيتانك فى خورشيد”، وكأنه يقدم نفسه-ككاتب قصة متميز-رغم تنوع إسهاماته فى عالم الإبداع والثقافة. حيث يمكن أن نستخلص نهج وأسلوب كتابته منها، وكأنه يقدم كارت التعارف، أولا، والذى يبدأه من الانطلاقة الأولى –وهو ما يفعله كثيرا-. حيث نجد أن سارده، دائما متحفز لفعل شئ، وعلى استعداد للتضحية من أجل ما يؤمن، وهو دائما، الوطن. والذى يمكن معه القول بأنه مهموم بالهم العام، وإن صبغه ب(حكاية) تبدو شخصية، او واقعية، لكنه ينجح فى إذابة هذا فى ذاك، حتى لا يمكن الفصل بينهما. وهو ما يؤكد أن هموم الوطن، هى ذاتها هموم الفرد، فما الوطن، إلا مجموع أفراده، خاصة أنه –غالبا- يتوحد السارد مع الشخصية الرئيسة -إن لم يكن السارد مشاركا-. فتبدأ القصة بذلك التصميم {ولابد أن أفعل شيئًا سريعًا ولو على حساب حياتي}. ثم {لم ألاحظ أنني أشعر وأرى مع جاك إلا بعد مشاهدتي الفيلم……. ثم اكتشفت أنني أصبحت جاك نفسه}و {فأنا المختار بالنسبة له، أنا من عليه أن يغير تاريخ العالم، وتاريخ جاك وروز بالذات!}.. وجاك هذا هو من ضحى بنفسه من أجل إنقاذ “روز” بطلة فيلم “تيتانك الشهير-الذى شاهده السارد أكثر من مرة-، والمأخوذ عن غرق السفينة بذات الاسم، رغم أن روز هذه {ترقص، وهي منتشية بالخمر، وهي في أحضان عدة رجال، وهي تحت رجال أكثر}. غير أن السارد لا يراها إلا فى صورتها الرومانسية- فنصبح أمام حب صادق، يتغاضى عن كل السبيات-. حيث تجلس على الكرسى الهزاز، تحتضن صورة “جاك” بالقرب من قلبها، وهو ما أدى إلى تغير نظرته ل”جاك” مع تغير مرات مشاهدة الفليم أكثر من مرة، وحيث توحد السارد مع جاك هذا، فإنه يمكننا أن نرى تلك التغيرات التى تتابعت على السارد تجاه حبيبته {كانت نظرته في كل عرض للفيلم تتغير من الرضا إلى الشك، إلى الحيرة، ثم الإحباط، فاليأس، ثم صارت نظرته تنطق بغضب شديد في آخر عرض للفيلم بالإسكندرية}.فرغم الحب الرومانسى الذى يحمله السارد، فإنها تأتى بأشياء قد يصيبح الحيرة أمامهاوما يوصله لمرحلة الغضب –أحيانا- مثل تلك التغيرات التى –ظاهريا- تتبدى فى المحيط الضيق، حين يعرض أنه يتناول فى فيلمه قصة المساحة الخربة خلف بيته، والتى كانت يوما قصرا للسيد الجزيرى، عميد عائلة خورشيد، والذى كان يشاهد الأفلام فى صالتها مع أسرته، ثم يسمح للعامة، أن يشاهدوا ذات الأفلام، وبعده تحول القصر إلى مصنع للنسيج، وبعده إلى خرابة، تسرح فيها الكلاب الضالة والقططن والتى يمكن النظر إلهيا على التغيرات –المجتمعية- التى انتابت المجتمع، حيث يربط بين السفينة الغارقة، وتلك الخرابة {المياه تتدفق بعنف من الشاشة، تغرق صالة السينما بمن فيها، تغرق قصر الجزيري، وتواصل هديرها الغاضب في شوارع القرية مكتسحة كل ما يقابلها}.ولأن السارد ، يعشق السينما، ففى ليلة إزدحمت صالة العرض بالعديد ممن تفاوتت أعمارهم، فيحمل الجد الحفيد على رجليه، وفى الفيلم {فقد انطلق خالد بن الوليد بحصانه في الصحراء، وبعد لحظة إظلام، أضاءت الشاشة بفتاة رائعة الجمال ترقص مع عمال سفينة، كان جاك يقف بجواري}.فى عملية إسقاط لاستدعاء خالد بن الوليد، وكأن كل أولئك المحتشدسن بالسينما، يلجأون إليه لإنقاذ المدينة من الغرق، حيث كانت السفينة تيتانك قد اصطدمت بجبل الثلج فخرج السارد هاربا {خارجًا من صالة العرض بأقصى سرعتي، وقفت أمام مجرى المحمودية، حمدت الله أنه يعاني الجفاف بسبب مشكلة سد النهضة}، ليغرسنا الكاتب مباشرة فى الهم العام، المتمثل فى المشكلى التى تؤرق، وتُخيفهم من مشكلة سد النهضة المهدد لجريات النيل، الذى يجرى من آلاف السنين. ولتتضح الحبيبة التى على إستعداد للسارد أن يُضحى من أجلها، من خلال ذلك الربط بين الماضى والحاضر (الأب والحفيد)، الربط بين الواقع والخيال، التماهى المبدع بين الواقع على أرض خورشيد و”جاك” الذى يرجع للعام 1912، من بين حياة عادية للإنسان، وما يعيشه، وكأنه يعيش همه الخاص. حيث يسرى ذلك الربط بين الخاص والعام فى كل قصص المجموعة، التى يمكن أن نميز فيها نلك الرؤى الأكثر ـاثيرة فى تحويل الحياة اليومية إلى (مسخرة) تحيل حياة الإنسان – فى المجتمع- إلى شئ من هزلى، قد يدعو للضحك الباكى.
استخدام التدين
وحيث يأتى فى مقدمة هذه التأثيرات المعوقة عن وصول الإنسان لمرحلة التنوير، الفهم الخاطئ للدين، والازدواجية فى تعاملات أولئك المتظاهرين بالتمسك بشكلياته. ففى قصة “مهر افتراضى” نرى الصراع على أشده بين “فتحى رضوان” الشهير بالفتى الشرير، و”رجب الصمدى” الشهير ب”ريخو”. وكلاهما من (السوابق) والضليعين فى عمليات النصب، حتى {يجلس فتحي الآن في تخشيبة نقطة الشرطة يضرب رأسه بقبضتيه بعنف لأن رجب أمهر منه في الهروب من الشرطة}. ويقوم الصراع بينهما على الفتاة “سماح هرم” – وعلينا ألا نتجاهل اختيار ذلك الاسم، وإلى ذكر (الهرم) فيه، والذى تعمده الكاتب، حيث أنه غير مألوف فى التسميات المتاحة، فضلا عن الإشارة غير الخفية لمن يهدف بها، واليى يبينه أكثر حين الإشارة بالمقتطف التالى- والتى لا تقل –سماح- عنهما فى الشؤون (التحتية) أو الأخلاقية {تعشق سماح التاريخ بحكم وجودها منذ صغرها بقسم التاريخ والآثار بكلية الآداب حيث تعمل أمها عاملة نظافة به ولأنها تؤمن بفكرة الجمع بين الأصالة والمعاصرة التي تعلمتها من بعض المعيدين والأساتذة كلٌ على حدة في غرفة منفصلة}. حيث تعتبر عمليات (الغمز) والسخرية، من بين مميزات الكاتب بصفة عامة، وفى هذه المجموعة بصفة خاصة. حيث نتوقف أمام السخرية فى (الأصالة والمعاصرة)، والمعنى المخبوء داخل (كل على حدة فى غرفة منفصلة).
ويدخل منير عتيبة، إلى العالم المعاصر، والذى لم نخرج منه سوى بالجانب السئ فيه، وهو استخدام العالم الافتراضى، كوسيلة –فقط- لجلب الأموال، أو للفضائح والمكائد. فقد أنشأ كل من الثالوث (الملوث)- فتحى رضوان و ريخو وسماح- موقعا يبث منه فيديوهاته، وكانت “سماح هرم” أكثرهم حصولا على اللايكات والمتابعة. فاشترطت عليهما أن من سيفوز بها من يستطيع الحصول على متابعات أكثر منها، وهو ما فشلا فيه تماما، فتعلن “سماح” أن خطبتها ستكون الخميس القادم، على شخص سيمثل مفاجأة للجميع، ولم يكن ذلك الشخص {الخطيب المنتظر، كان أحمد عدنان صاحب قناة )الداعية الجديد( بلحيته الأنيقة وابتسامته المهذبة،اللزجة حسب المتلقي، والذي تتعيش قناته على نشر ما تذيعه قناة كل من ريخو والفتي الشرير ثم يشجبه ويرفضه بما يحفظه من آيات قرآنية وأحاديث نبوية}. ليكشف الكاتب عن عدم وجود الفروق بين النصب والاحتيال، الذى يمارسه البلطجية فى الحارات، وما يمارسه –بعض- شيوخ الدعاة إلى الإسلام.
ويتواصل كشف (خزعبلات) بعض شيوخ الإسلام، عندما يخبر (الشيخ) “صبحى” الملقن فى القصة الحاملة لذات الصفة(الملقن)، ويقوم بتلقين الميت الذى لم يذكر أحدا من المشيعين حسنة من حسناته. ثم يضع ورقة فى طيات الكفن، وفى اليوم التالى، يخبر الجميع بأن الميت قد أجاب على أسئلة المَلَكين، وأنه الآن فى روضة من رياض الجنة، ويمنح الوريث ورقة أرسلها الميت له بتوصية منح الشيخ المكافأة.
ويستمر كذلك السخرية من تلك الجماعات الوهابية، مرتدى الجلاليب القصيرة والدقون الطويلة، فى قصة “المسلمانى دخل المسجد” حيث أن المسلمانى” وجده الجد قرب المحطة.. ولا يعلم أحد عنه شيئا، فوهبه اسم “محمد”، وألحقه بخدمة العائلة، وزوجه من الخرساء البكماء “جمالات المسلمانى” وحتى يتم كتابة الإسم بوثيقة الزواج، سماه “محمد المسلمانى، ولأن جمالات مسلمة، فكتب الجد أمام الديانة مسلم. استطاع محمد وجمالات أن يقيما حياة ملؤها الوئام {وبرغم أن جمالات كانت صماء وخرساء إلا أن محمد لم يتعب في التواصل معها، وهو أصلاً نادر الكلام، فكان بيتهما مثالً للبيت الهادئ، وكان جدي راضيًاعنهما دائمًا}. ورغم رؤية المسيحيين بأنه من أصل مسيحى، إلا أنه لم يُعرف عنه أبدا أنه دخل مسجدا أو حتى كنيسة. ويُبطن المسلمانى الكثير مما يجرى، لكنه صامت، ومُعبأ بالكثير الذى يفضح تلك الصور (الشكلية) {لم يكن المسلماني يفهم ما يدور حوله، ويتعجب ممن يحدثونه عن الإيمان طول الوقت وهم يكذبون حتى وهم يقسمون بالله والرب، ويبيعون )بالفايظ(، ويسرقون، ويغشون بعضهم بعضًا، لكنه لم يصارحهم بما في نفسه، فهو يعرف أنه لو بدأ الكلام فلن يصمت حتى يحكي كل ما يعرفه بما يمس ذممًا وأعراضًا كثيرة.}. وانقسمت القرية إلى فريقين، مسلم ومسيحى، وحضرت النبابيت والشوم، وكادت تقوم معركة، فدخل “المسلمانى” المسجد، صعد المنبر، وطلب الميكروفون من خادم المسجد، و{تلقي الميكروفون بصاق المسلماني وهو يقول للجميع: يلعن أبوكم كلكم!.} ويغادر المنبر، والمسجد. لنقوم بالربط بين حياة المسلمانى، الغير واضح الانتماء إلى أى من الفصيلين، الخالية من الغوغاء الكلامية، ورفضه لتلك (المسخرة) التى يحدثانها بذلك القول المعبر عن رفضهما معا. ولنخرج بأن الوجود الإنسانى –السوى- لا يتربط بدين محدد، وما يحدث ليس إلا (مسخرة).
ونعرف فى قصة “أهل الخير” على التنافس الشديد، والمبارزات الإعلانية، لجمعيتى “لقمة لجائع” إدارة الشيخ “سيد سيد”، و”هدمة لعريان” إدارة الشيخ “سعيد سعيد”. ثم نكتشف أن الجمعيتين يتبعان مؤسسة “الغلابة”، والتى تستأثر بالجزء الأوفر من التبرعات، التى لا يصل إلا اليسير منها إلى (الغلابة).
ويخرج الكاتب من التخصيص إلى التعميم، فى التشابه الكبير بين أسم الجمعيتان، بل واسم مديرهما. وكأنه يشير إلى التشابه بين كل جمعيات جمع التبرعات، والتى تحولت إلى تجارة.
الرؤى السياسىة
وحيث لم تكن تلك الممارسات، لبعض (الشيوخ) هى المعوق الأوحد فى سبيل التقدم، وإنما نجد أيضا، بعض الممارسات الأمنية، تعيق حركة ذلك التقدم. وهو ما أوجزه –الكاتب- فى قصة “ماكينة حلاقة” {لكن إحساسه بالخطر بدأ يزول تدريجيًا، إذ ظلت )الموزا(محرمة دينيا وأمنيا، لكنه كان يستخدمها}. وكان دكان “معوض” لا يحتوى إلا على { الموسي الطويل والجلدة التى يسنه عليها، وماكينة الشعر اليدوية، والمقص، والمشط البلاستيك المكسرة بعض أسنانه، والكرسي الخشب ذو المسند العالي، والمرآة الصدئة التي يرى الزبائن أنفسهم فيها خيالات}. فأشار”مرسى عبد الحفيظ” كمتعلم وحيد بالقرية التى لم تدخلها الكهرباء، على “عوض” الحلاق الوحيد بها بدخول عصر (الحداثة) بشراء ماكينة (موزا) الحديثة. فيبيع الإخير الجاموسة لشراء ال”موزا” ، غير أن خطباء المساجد يعلنون أن الماكينة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النار. فيتجنبه أهل القرية، خوفا من النار {لكن الأدهي كان استدعاء ضابط النقطة له، أخبره أن هذه الماكينة يجب أن تحصل على ترخيص، وشرح له شروط الحصول على الترخيص، فاكتشف عوض أن)دخول الجنة أسهل(، وحذره إن هو استخدمها بدون ترخيص ستتم مصادرتها}. وتكتمل المآساة فى أن القوانين شئ، بينما التطبيق، شئ آخر {إذ ظلت )الموزا( محرمة دينيا وأمنيا، لكنه كان يستخدمها سرًا فى كل بيوت القرية، ومنها بيت العمدة وضابط النقطة والشيخ شعبان}. ولتكشف القصة بطريقنها الساخرة، التوازى القائم بين النظرية، والتطبيق. أو بين ما تقوله الكتب والقوانين، وما يقوله الواقع المعيش.
وجانب آخر من الفساد السياسى يكشف عنه الكاتب فى قصة “المرشح” والتى يكشف فيها عن الممارسات التى يمارسها المرشح فى آى إنتخابات –وهو هنا المجلس المحلى-. وعلى الرغم من محدودية المسؤلية التى تترتب على هذا الترشح، إلا أنها تكشف عن حجم التضحية والإنفاق الذى يتم، على أمل أنه سيعوض كل تلك المصاريف والتصرفات، بعد الوصول، والذى وصل إليه بحجز كل من يفكر فى الترشح أمامه، عن الترشح –بمعرفة (البطلجية) التابعين له. حتى أنه –وبحيلة فانتازية- يحاول منع صوره الكثيرة على الإعلانات، وقد غادرت لوحاتها، منعا للوصول إلى كرسى “سيادة النائب” قبله.
نحن ضحايا حكامنا
لم تزل السياسة، احد التابوهات الثلاث، المحرمة فى الإبداع العربى. إلا ان أى عمل إبداعى، لا يمكن أن يبتعد عنها. لذا لجأ المبدع -الحقيقى- إلى إسلوب الهمس، أو الرمز، أو الإيحاء الذى لجأ إليه مبدعنا، ليقول –بإبداعه- ما قد نعجز عن قوله فى الواقع. خاصة إذا ما تناول العمل، السلطة العليا فى البلاد، داخليا وخارجيا، والذى معه يمكن القول بأننا “ضحايا حكامنا”. وهو ما نجده فى قصتى “باعوا القضية” و “مريد السندباد”. حيث يهمس من بعيد، ويوحى بالقضية، دون أى ذكر –مباشر- بها- واصلا لقمة السخرية فى قصة “باعو القضية” بتناول المشهد الأكثر سخرية ، والمحفور فى أعماق الإنسان العربى عامة، والمصرى خاصة، حيث زلزلت النكسة الأرض من تحت أقدمهم، فدارت بهم الدنيا، ورغم مرور السنين، إلا ان الأحداث تمر بهم كفيلم خيالى مرعب يعيد لللأذهان تلك المآساة، والتى يصعب الاستشهاد فيها ببعض الفقرات، حيث تكمن المتعة فى السرد، الذى نتعسف وننتقى بعض الإشارات الدالة، علنا نصل إلى رؤية ذلك الفيلم كما يشير النص فى أحد فقراته، على أن نراعى تلك الكلمات الموحية، والزارعة للقارئ فى أجواء الحدث {يبدأ الفيلم هادئًا قبل موعد الانفجار بأسابيع قليلة، أخبار متناثرة في وسائل الإعلام المختلفة للتذكير بالنكبة، ثم مقالات ندب وولولة وبكاء على التاريخ الضائع….. آخرون يهاجمون القادة الذين فرطوا….. والبعض يكشف بعض أسرار مشينة لمن كانوا في درجة تشبه التنزيه}.وتشتعل الأسئلة فى الرؤوس عن أسباب ما كان، فيكشف -عتيبة- عنه بصيغته الأدبية الموحية{كانت الأسئلة تروح وتجيء عبر التليفونات المُؤَمَنْة تمامًا ضد التنصت، لكنها تسجل كل كلمة لصالح المنظمة التي اعتادت إدارة اللعبة كلها، حتى إنها رصدت مكالمات حائرة تحاول أن تصل إلى أية معلومة بين أطراف يبدو أنها من ألد الأعداء لكنها في الحقيقة تجلس في الخندق ذاته}.ذلك الخندق الذى أداره “السيد(3x) حيث كان هو الآمر الناهى، حتى على أعلى السلطات {فهو- السيد 3x – وريث السيناريو وتنفيذه، وكل الآخرين مجرد ممثلين يقومون بالأدوار المرسومة لهم، من ينجح ينال التصفيق وبعض العطايا، ومن يفشل يخسر دوره إلى الأبد، ويأتي ممثل جديد أكثر ذكاءً وقدرة}. لكن الأرض قد تزلزلت، ودارت، فدارت معها الرؤوس، وصاح الأسد المحبوس فى قفصه، ظانا أنه لازال يستطيع، لتصل (المسخرة) قمتها{ المنظمات تحت الأرضية التابعة للمنظمة أعلنت ما اعتادته من تهديدات بتفجيرات عديدة منها تفجير المنظمة نفسها، وكان رد الفعل الوحيد بعد كل تهديد أن يضع جميع مستخدمي وسائل التواصل في العالم وجها ضاحكًا بسخرية على صفحاتهم لعدة ثوان، ثم ينشغلون بأمورهم الخاصة}. فيلجأ-الجريح- إلى الإعلام، غير أنه {أدى الإعلاميون من الفرق المختلفة أدوارهم بمهارة، خصوصًا أنها لا تكلفهم سوى إعادة نشر ما نشروه سابقًا}. وزاد بدرجة أكبر.. من كانوا يظنون أنها الفاتحة للأرض السليبة، فكان الذهول، وكان اليأس {وزاد بدرجة أكبر إحباط من خرجوا من أجل القضية مستعدين للتضحية بأنفسهم مقابل شعاع من أمل في التغيير}. فلم يعد إلا البكاء والمواساة، خاصة لمن لا يجيدون غير الكلمات التى لا تُثمن ولا تُغنى من جوع ف{تبدأ المنظمات الحقوقية عملها وضجيجها المحسوب بدقة حسب وزن كل دولة، وأثناء ذلك تكون قد زادت مساحة الأرض المحتلة}. غير أنه، ودائما، ما تُشرق الشمس، وشمس ما حدث لم تظهر إلا بزوال دولة الهزيمة، دولة السجون، والأشخاص، دولة مراكز القوة، فكان 15 مايو{ لم يكن شروق شمس يوم 15 مايو وتسلل أشعتها عبر زجاج مكتب السيد(3x) بشير فرح وزيادة مخصصات مالية ومجد يحصده هو ومنظمته ككل عام، كان هذا الشروق نذيرًا بغروبه هو شخصيًا}. وبعد كل ما جرى، كان لابد أن يختفى السيد، وكل سيد على شاكلته (وبعد كل ما جرى، كان لابد أن يختفى السيد (3x). وقد نجح الكاتب فى التمويه، وتغييب الكيفية التى انتهت بها حياته. ليكون الصدق التاريخى، هو السائد، فقد تنوعت، وتشعبت الأقاويل التى تناثرت، بين مؤيد ومعارض، فمن قائل بانتحاره، ومن قائل بأنه قُتل، ومن قال بأن السيد (3x) قد (أُنِتحر) {لكن من رأوا جثته تسقط في الهواء لترتطم بالأرض محدثة صوتًا مدويًا لم يعرفوا أن جثثًا أخرى سقطت في اللحظة نفسها بطرق مختلفة في أماكن عديدة من العالم}.
وبطريقة “السهل الممتنع”، يعبر عن (مسخرة) جديدة، وإن بدت خارج الحدود، إلا أنها ليست منها ببعيد. التجربة الأمريكية فى العراق، فى قصة “مريد السندباد”، والذى ينطق فيها –هذا العنوان- بكل مكنوز القصة من معان، فالمريد هو المشتاق، والمتلهف، والسندباد، هو منبع الرحلات والحكايات. فالشوق، تنضح به مشاعر السارد، حين يخرج مندفعا، لايعوقه أى مانع {كانت زوجتى تنظر إليّ كمجنون، تتصارع على وجهها ملامح الغضب والغيظ والغيرة، ولو كان بيدها لمنعتني من الخروج لاستقبال السندباد، لكنها تعلم أنني في هذه اللحظة نهر يتدفق بعنفوان نحو مصبه، ولو وقفتْ في طريقي لجرفتها موتًا أو طلاقًا، فابتعدتْ عني}. وأما السندباد، فقد استعاض عنه بتلك الهيئة الكاشفة عنه {فقد نزل السندباد من السفينة فوق فيل صغير أبيض، على رأسه قبعة غريبة الشكل، يرتدي ملابس عجيبة لم أستطع أن أحدد مدى أناقتها مقارنة بملابسنا في بغداد، عرفت فيما بعد أن اسمها )سموكن(، سوداء اللون، تحتها قميص أبيض بنصف ياقة، وحول رقبته قماش أحمر، أخبرنا في مجلسه أن اسمه )ببيونه(!}.
وإذا كان ذكر”بغداد” قد ألقى الضوء عن المقصود، إلا أن استمرار السارد فى الوصف، يكشف عن حقيقة لذلك السنباد {كان العسس يجوبون الشوارع ليتأكدوا من استتباب الأمن، لكن عددهم كان كبيرًا حول قصر السندباد}. {ورحب بنا كثيرًا، وقال إن أهل بغداد هم “الفانز” المفضلون لديه، وهم “بيج فانز” يعرفهم جيدًا، ويقدرهم جدًا، وأشار إلى البعض وأنا منهم، فأحسست أن الله أنبت لي جناحين، ولولا أنني لن أغادر مجلس السندباد قطعًا، لطرت بهما من الفرح}ثم يكشف -السارد- عن تلك الخدعة التى دخل بها (السندباد) على العراق {تحرك السندباد بخيلاء وهو ينغم صوته قائلا {من فرنسا بلد الحرية، ومن انجلترا بلد الدستور، ومن أمريكا بلد الديمقراطية.. جئتكم بالعجائب. صفق بعض العبيد، فصفقنا حتى هز تصفيقنا أركان بغداد ووصل إلى قصر الخليفة، وإن لم نكن فهمنا ولا كلمة واحدة مما قال إلا حرف الجر”من”}. ولم يكن وصف العبيد فى الفقرة مجانيا، وإنما هو تعبير عن أولئك الذين يتعبدون فى (الإله) الأمريكى الذى يكشف عنه أحد الكومبارس العاملين معه، ويكشف اللعبة التى لم تكن سوى فيلم {رأيت العبد القزم في سوق النحاسين، كان يجلس إلى منضدة يحتسي كوبًا من الزنجبيل، فاقتربت منه، وسلمت عليه.. ثم قال: عبد إيه يا أبو عبد.. لا جواري ولا عبيد، لكن كومبارس صامت ومتكلم. السندباد هو المنتج. سينما، علاقات دولية. ثورة. فانز. حرية. استبداد. قلب. إعلام. حكم. ديكتاتورية. ديمقراطية. النظام}. ثم يصرخ السندباد، ويصرخ معه السارد، فى وجه الحكام، الذين وصلوا بالبلاد حد الخراب، عندما أتاحوا لهذا المستعمر الأمريكى بالدخول، واحتلال البلاد {ادعوا لمولانا الخليفة قبل كل حفلة وبعد كل حفلة، فبفضله منحنا الله كل تلك العجائب، بل ومنحنا الحرية والحياااااة}.
وإذا كان منير عتيبة قد وصف الحالة فى قصتى “باعوا القضية” و “مريد السندباد”، كيف ساق القائد شعبه إلى الهلاك، فإنه يشخص الأسباب فى قصة “خطيئة تشيكوف”. حيث كالعادة، ينزل إلى قاع المجتمع، معددا ما نابه من سوءات وتطاحن، وكأنه يبطن (أسدٌ علىَّ وعلى القواد نعامة). فبينما السارد، المثقف الذى لا يعرف غير الكتب، والكُتّاب، يفاجأ بأن مسدسا بسبع طلقات على أرضية “التوكتوك” الذى ركبه، دون إتجاه معين، فيتساءل عمن أوجده فى هذا المكان {هل سقط هنا من إرهابي قتل أحد جنود الشرطة وهرب؟ أم من رجل قتل عشيق زوجته؟ أم زوجة تخلصت من زوجها لترث ثروته الكبيرة؟ أم من بلطجي انتقم من آخر أهان كرامته وسط الناس بأن ضربه بالشلوط في مؤخرته؟.. هذا ليس أمرًا عشوائيا، إنه إشارة، أن أقوم بفعل إيجابي ولو لمرة واحدة فى حياتى} ليتأكد لنا ما يرمى إليه (العامة) من سلبية واستسلام. وهو الذى لم يمسك بمسدس فى حياته،بل هو إنسان مسالم، بل سلبى {أخرجت الزفير من أنفي حيث كان فمي مفتوحًا دهشة للأحاسيس التي اجتاحتني لملمس المسدس، رهبة ورعشة وقوة وجبروت وخوف وعشق للحياة والموت معا، كان ناعما كأفعى )لم ألمس أفعى من قبل(، أو كأنثى خارجة توا من حمام )لم ألمس أو أر هذا أبدًا إلا في الأفلام(}. فيتخيل نفسه يكتب قصة، محاولا خلق دور له، يستخدم فيه هذا المسدس ف{لاحظ السائق فوهة المسدس التي تحملها يد مرتعشة، فأوقف التوكتوك بفرملة سريعة، انقلب التوكتوك، فاصطدم بعربة طماطم، انقلبت، فامتلأت الأرض بدماء الطماطم، بينما سُمِع صوت سبع رصاصات تنطلق، وشوهد الراوي وسائق التوكتوك يتعاركان من منهما يمسك بالمسدس}. وكأنى به يتساءل: من منهما المسئول.. القائد أم الراكب الصامت؟.
وقد كان من الذكاء الإبداعى- الذى يبرز فى كل القصص- حسن اختيار لنموذج، فهنا إختار (المثقف) أى الذى ليس له فى استخدام السلاح. فكان التعبير عن السلبية، والقعود عن الدور المنوط به، لا باستخدام السلاح، ولكن باستخدام القلم، والذى لا أجد معه إلا استعارة الفقرة من قصة “باعوا القضية” للتعبير عن ذلك {أدى الإعلاميون من الفرق المختلفة أدوارهم بمهارة، خصوصًا أنها لا تكلفهم سوى إعادة نشر ما نشروه سابقًا}. وكأنها إدانة لكل حامل قلم. وهو ما يقودنا إلى قصة “الندواتى” والتى يواصل فيها المزيد من انتقاد “حاملى القلم” حيث يعرض لأحدهم (دعبيس عبيس)، الذى درج على حضور الندوات، وجمع ما يقوله الآخرون، ليتحدث به، بل ويكتب المقالات، والكتب بذات الطريقة. وما أن أراد السارد (المثقف) والروائى (ألبير نصفى) أن يوقعوه فى شر أعماله، يستطيع بمهارة الإفلات مما رتباه له.. بل ويصل إلى إحتلال مكان السارد كرئيس لنادى الأدب والمسئول عن الندوات.. بناء على مطالبة الكثيرن بذلك.
ويمكن قراءة القصة على المستوى الفردى، مثلما جاء ظاهرها، إلا أننا لا نعدم الرؤية المجتمعية، الرسمية، والشعبية، التى تتخير أصحاب الصوت العالى، ومن لهم القدرة على المجاملة، والذين يسعون للانتشار. بكل الوسائل المتاحة وغير المتاحة، على حساب أصحاب الخبرة والمعرفة.
فى كل ما سبق من قصص، وجدنا السرد السلس الممتع، المعتنى بالتفاصيل (المفيدة والممتعة). غير أننا شعرنا –فى القراءة- أننا نحلق مع ما يخلقه القاص من عوالم موازية، قد لا تغيب كثيرا عن وعى القارئ، خاصة ذلك الذى يمكن أن يكون قد عاصر الأحداث. غير أنه ينتقل بنا إلى مرحلة جديدة، يمكن أن نسميها المرحلة الرمزية، تلك التى يلجأ فيها الكاتب إلى الفانتازيا والحلم من رؤى (شبه كابوسية) تتطلب الغوص فى النفس (المبدعة) أو الساردة، آخذين برؤية سيجموند فرويد الذى يرى أن {الحلم محض سيرورة فزيولوجية لا تستوجب أن نبحث فيما وراءهاعن معنى أو عن مدلول أو عن نية. فالأمر لا يعدو أن يكون أمر تنبيهات بدنية تهز، أثناء النوم، حبال الألة النفسية، فتدفع نحو سطح الوعى تارة بهذه الصورة، وطورا بتلك، مجردتين من كل تلاحم نفسى}[2]، وهو ما نستطيع أن نقرأ على أساسه قصتى “أرض الحلم” و دعوة أم”.
فتبدأ قصة “دعوة أم” بذلك الدعاء، الذى طالما رددته الكثير من الأمهات{قلبي وربي غاضبان عليك، سأموت بدون أن أسامحك، أنت السبب في موتي، عليك لعنة ربي إلى يوم الدين، إلى الأبد!}.غير أننا نستحضر على الفور تلك المقولة الشهيرة (أدعى على إبنى وأكره اللى يقول آمين). الأمر الذى يُخرج الدعوة من نطاق التصديق، وأن شيئا فى الأمر. فنعود ونتأمل الدعاء لنجد {أنت السبب فى موتى}. التى تعود بنا إلى قصة “خطيئة تشيكوف” والتى لم يُعرف فيها من أطلق الرصاصات السبع، سائق التوكتوك أم الراكب. ثم نجد أن الأم قد ماتت وغطاها ابنها، ولنعلم أنه كان قد شعر بقليل من الحرية بعد وفاة الأب، وان زمن المتعة كان لحظات قليلة. ولكن ورغم أنه غطى وجهها، إلا {أنه رآها تغمز بعينها اليسرى له وتبتسم بعد أن أسبل جفنيها، صرخ مرة أخرى: آاااااااااااااااه، لم يستطع أن يشرح أن هذه الآهة لم تكن حزنًا، بل لأن المرحومة قرصته بعنف في مؤخرته}. إذن فالمرحومة لم تمت. فحين عاد إلى البيت، سمع صوتها –من جديد- تناديه، فذهب إلى حجرتها {كانت ممددة على سريرها، وقد وقف شيء فى زورها، أشارت إليه ليناولها كوب ماء، كان وجهها محتقنًا تتحول فيه الألوان بسرعة من الحمرة القانية إلى الزرقة الباردة، مد يده إليها بكوب الماء، مدت يدها تتناوله، لكنه سقط من يدها على السرير إذ فارقت الحياة هزها بعنف، لم تتحرك، لم يسبل جفنيها، وحرص على أن تكون مؤخرته بعيدًا عن أصابع يدها}. فقد تكررت مرات (شبه) الوفاة، أو المرات التى تصور فيها السارد أنها ماتت، يفاجأ بها من جديد، أنها لم تمت، وفى كل مرة، تضربه على مؤخرته. فى الوقت الذى رسخ فى ذهن الوعى الجمعى (الشعبى) أن الضرب على المؤخرة نوع من الإهانة، خاصة عندما نُكمل {لكن الماء المسكوب على السرير طال بنطاله، كان ماءً ساخنًا ما شعر به، وعندما تيقن أن الماء الذي بلل ملابسه كان أيضًا بوله الذي سال بدون إرادته}. ثم يزيد –الكاتب- الأمر عبثية، وتعمية، عندما نعلم أنه يمثل دورا فى مسرحية، وأن مؤلفها {أما مؤلف المسرحية فقد كان حافيًا واكتفى ببصقة ملأت وجه الشاب ابن الكلب}. فيذهب الشاب إلى صديق لا يعرف سوى اسمه الأول، ولم يره منذ كثير(كبرهان على مجهول ذلك الذى يمكن أن يخلصه مما هو فيه) كيف يمكن أن يوقف لعنة دعاء الأم الذى يطارده فى حياته، فيشير عليه بالزواج من الأم !! بحجة {أنت تعرف أن دعوة الأمهات مستجابة فإذا دعت أمك عليك باللعنة فلن تتخلص منها وكأنها ملتصقة بك بأقوى من صمغ أمير. لكن لو تزوجت أمك فلن يكون لدعوتها أي أثر وستنفك اللعنة لأن العالم كله يعرف أن دعوة الزوجات غير مستجابة}. وتوافق الأم بالفعل على الزواج{في المساء لم تتوقف عن إطلاق اللعنات عليه، لكنه عندما غطى وجهها بملاءة السرير ابتسمت له وهي تتذكر فحولته في الفراش}. الأمر الذى يُخرج تلك الأم من صفتها الإنسانية، ويقف بها عند الرمز، الذى يستدعى الأغنية التى تتردد كثيرا على الألسنة(مصر هى أمى)، كما يحضر المثل الشعبى القائل (اللى يتجوز أمى .. أقول له يا عمى).لنصبح أمام رؤية مجتمعية، يركب فيها من يستطيع أن يصبح (ابن الحكومة). ومن يرفض، فسوف تصيبه لعنة (دعاء الأم).
وتتحول تلك الرؤى، الكابوسية، والغير منطقية، إلى كونها ليست إلا {تنبيهات بدنية تهز، أثناء النوم، حبال الألة النفسية} للسارد، لتعبر عن إنعكاسات نفسية –للكاتب- ورؤية مجتمعية للأوضاع الحياتية.
سبعة دروس فى الحب .. وروح الفكاهة
إذا كان ما سبق يكشف عن قاص يملك من قدرة التخيل الكثير، ويشكل قصصه من تراب الأرض، ومن عرق البشر، فإنه –أيضا- يملك روح السخرية، التى لا تؤذى، وتبعث البسمة إلى الشفاه، مثلما نرى فى قصة “سبعة دروس فى الحب” حيث يرى فى الحصة الخامسة والسادسة، أن المدرس قد غاب، أو أن التلاميذ قد (نطوا) من فوق السور.. المهم لاحصص فيها. ثم فى الحصة السابعة، تصل السخرية مداها عندما يقول فيها { لا تصدق كاذبًا مثلي يخبرك بهراء، فالحب تجربة لابد أن تخوضها بنفسك لتستخلص منها ما يخصك من دروس لن تفيدك على أية حال}. ثم تتواصل السخرية، والعبثية، الكاشفة عن أحد سوءات الحياة الاجتماعية، عندما يدعو القارئ ل”درس خصوصى” يقدم فيه العبثية بكاملها. ثم يسأل القارئ { أمامك بدائل كثيرة وحرية اختيار محدودة. لكن لا تنس أن تدفع ثمن الدرس للسكرتيرة وأنت خارج}. وحيث نتأمل { أمامك بدائل كثيرة وحرية اختيار محدودة} والتى تعنى أنك –أيها الإنسان- مُجبرٌ فى اختيارك.
وفى قصة “صائد الإناث” يتهكم عتيبىة على الأخذ بحرفية القانون، لا بروحه، وهو ما يدفع الجانى لأن يتفنن فى الهروب من الواقعة، حتى لو بالتدليس، مثلما فعل “نودجو” حين اتفق مع زميله أن يسوق له غزالة (أنثى) فيُحكم له بالبراءة.
وبعد أن جاب الكاتب، كل مناحى الحياة، يجمعها جميعا فى “كناسة الدكان” ويطلق عليها سخريته المريرة، وكأنه يعلنها صراحة.. ما الدنيا إلا مسخرة كبيرة.
فنقرأ فى آخر قصص المجموعة “الجثة”، وكأنها نهاية كل إنسان على الأرض. فنجد أبناء الراحل وهم { الوزير وعضو مجلس النواب ورئيس المؤسسة الإعلامية الكبرى.( كان الأبناء الثلاثة أكثر الناس ضيقًا بالموقف الذي وضعهم فيه أبوهم}. فقد تأخرت جثة الأب كثيرا، والمعزون الكُثر بدأوا يتململون، غير أن الواجب الاجتماعى يجبرهم على الإنتظار، وبعد طول انتظار، تأتى سيارة الإسعاف حاملة الجثة، ويتقدم عضو المجلس من الممرض الآتى مع الجثة ويطلب منه تصريح الدفن، فيضعه فى جيبه دون حتى قراءته. ويتم دفن الجثة، ويطول طابور المعزين- فى إشارة إلى النفاق الاجتماعى- فيعلن أحد الأبناء أن شكر الله سعيكم.. لينصرف المعزون، وقبل أن ينصرف الأبناء. تأتى سيارة الإسعاف ليعلن الممرض القادم مع الجثة، بان معه جثة الوالد.. يخرج عضو المجلس التصريح من جيبه، ويقارن بين الإثنين، الأول باسم عوض مخلوف، والثاى باسم الوالد. {ثم أضاء وجهه فجأة بفكرة، فوضع التصريح الذي يحمل اسم والده في جيبه، وناول تصريح عوض إلى الممرض وقال له: رحم الله عوض، ادفنه في مقابر الصدقة {فتح الممرض فمه ليتكلم، لكنه أغلقه مع إغلاق أصابعه على مبلغ يتعدى الألف جنيه وضعه النائب في يده.}.
وإذا كانت قدرة الفرد محدودة لجمع كل مساخر الحياة، فقد فتح الكاتب الباب على مصراعيه فى فكرة جديد، تمثلت فى “مساحة حرة” تركها الكاتب فارغة ودعى كل قارئ (أكتب ملهاتك) وليؤكد اتساح مساحة المسخرة، والتى لا تشمل المواقف فقط، وإنما فى كل تفاصيل الحياة كلها، ولتمتد إلى 24 ساععة فى اليوم.
تداخل الدينى والسياسى
لم يكتب منير عتيبة قصصه، بذات التقسيم الذى لجأنا إليه، بين دينى وسياسى، حيث نجد التداخل بينهما فى الكثير من القصص، وكأنه بهذا التداخل يكشف عن العلاقة التبادلية بين الطرفين، والتعاون الذى يؤدى غالبا إلى مساحة أوسع لتلك التيارات من الحركة، وإن ظلت فى حدود.
فعلى سبيل المثال، نجد الإشارات الدالة على تداخلهما فى قصة “المسلمانى دخل المسجد” حيث تشير بدايات المسلمانى بالقرية بزيارة، يشير إليها السرد فى {كان ذلك قبل مرور جمال عبد الناصر بالقطار وتلويحه للأهالي الواقفين لليلتين بانتظار أن يقف قطار الزعيم في محطتهم فيكرمون وفادته، أم بعد مرور القطار بالزعيم يلوح لهم.}. حيث تشير العبارة إلى الحالة المجتمعية قبل 1952، والتى لم يكن هناك أى فواصل بين مسلم ومسيحى، والتى نستطيع أن نقول أيضا بأنها كانت بعدها بقليل، حيث الإشارة إلى تلويح الزعيم بعد مروره، وكان التجربة مرت على المسألة مرور الكرام، خاصة ما نعلمه عن طرد، وبداية النظرة المختلفة لمن هو غير مسلم، بعد 52. وأيضا حيث كان التحالف فى البداية بين من قاموا بالثورة وجماعة الإخوان، قبل أن يحدث الانشقاق بينهما. فنحن إذن أمام رؤية مجتمعية ساياسية لمرحلة من أخطر مراحل الحياة المصرية.
كما تأتى إشارة أخرى –بذات القصة- ساقها الكاتب الضمنى، بصورة عابرة –وهو ما درج عليه منير عتيبة فى الكثير من قصصه، والتى تتطلب اليقظة لتلك الإشارات- فنقرأ {يمكن أن يصدّق أهالي بلدتنا أن تلد البقرة جحشًا، أو يصْدُق العمدة في حديثه، أو تسقط السماء على الأرض دون أن تحرقها، أو يكون لضابط النقطة قلب… لكنهم يستحيل أن يصدقوا هذا الخبر)المسلماني دخل المسجد(!. فساق الكاتب بين هذه المستحيلات {أو يكون لضابط النقطة قلب}. وكأنها إدانة لكل جهاز الشرطة، الذى هوالذراع الرئيسية للسلطة. خاصة إذا ما تأملنا الإشارة (المتعمدة) والكاشفة {والغريب الصلة الوطيدة التى لم تخف على أحد بين محسن وضابط النقطة}. حيث محسن هو {محسن عبد المغني من أوائل من أطالوا ذقونهم وقصروا ثيابهم من شباب البلدة}، وحيث يتكشف التواطؤ بين السلطة، وتلك الجماعات. ويؤكدها -أيضا- عند بداية المواجهة {بدأت تظهر شوم وسيوف فجأة، وظهر من بعيد ضابط النقطة ومعه بعض العساكر، يشاهدون دون تدخل}.
شعرية الصورة
على الرغم من اللغة السلسة التى يسرد بها عتيبة، حكاياته المتسربة بين ثنايا الحياة المعيشة، إلا انها لا تعدم الشاعرية التى تضفى على القصص المتعة الخيالية. بخلق الصور، المستدعية لعوالم خلفية تزيد من أفق الفكر والخيال. ففى قصة “مريد السندباد” نقرأ مثلا { ولو كان بيدها لمنعتني من الخروج لاستقبال السندباد، لكنها تعلم أنني في هذه اللحظة نهر يتدفق بعنفوان نحو مصبه}. فسوف يقفز الخيال إلى صور المياه المندفة فى النهر. تجرف كل ما أمامها، وما يعود بنا إلى فيضان النيل، يوم أن كان يُغرق الأرض بطول البلاد، مكتسحا كل ما أمامه. ولنربط ذلك باستدعاء سد النهضة- الذى ذكره فى قصة “تيتانك فى خورشيد” والتى تعج –أيضا – بالشاعرية. حيث غلف الكاتب رؤيته، واستبطنها فى غلالة من السحر الإبداعى، الموحى، البعيد عن الصراخ أو الزعيق، بينما الأحشاء طافحة بثورة تكاد تخرج عن الصمت. وكأنه ينفخ نوبة صحيان، كى يفيق الغافلون. فهناك على سبيل المثال –أيضا-، الإشارة إلى الجد يحمل على ركبتيه الحفيد. وكأنها إشارة إلى تأثير النيل القادم من الماضى، ويمتد بحياة المستقبل إلى أجيال وأجيال – وإن كانت فى طياتها تجاهلت الأب أو الحلقة الوسطى، فى إدانة لها-. وهى الرؤية التى توضح الإشارة إلى تاريخ منطقة “خورشيد” التى تتسع لتشمل البلد بكاملها. حين كانت فى الماضى، ملك السيد الجزيرى، حيث كان داخل القصر قاعة سينما، ولم يستأثر بها وحده، بل كان يُتيحها للمنطقة بأكملها، حتى أن القاعة التى لا تسع إلا ثلاثين شخصا، كانت تحتشد بالمئات. فلم يدخر السيد الاقطاعى، أو الراسمالى، بالخير لنفسه – حيث تحمل رؤية الماضى الذى تم القضاء عليه، وهو ما يعنى –أيضا- إدانة لما جاء بعده-. وبعدها أصبحت مصنعا، ثم آلت للخراب، ومرتعا للكلاب، وهو ما يمكن أن يمثل تاريخ مصر، لا المنطقة المحدودة فقط، على مر أجيال متتالية. و{ كثيرون ممن ماتوا، وممن لم يولدوا بعد، عقدت الدهشة ألسنة الجميع، فقد انطلق خالد بن الوليد بحصانه في الصحراء} وكأن الأجيال، نظرت، وتنظر، إلى القائد خالد بن الوليد، أو سيف الله المسلول، القائد العسكرى، يركب حصانه وينطلق للصحراء. وكأننا أمام عملية استدعاء للقوة، لأنقاذ الداخل مما ينتظره من دمار قادم من الخارج.
كما يمكن تلمس شعرية الصورة (المتخيلة) فى قصة “المتحرش”، والتى استخدم فيها مجرد اسم “حمدى الوزير، الذى اشتهر بدور المتحرش، خاصة فى فيلم (قبضة الهلالى). الذى أتقن فيه حمدى الوزير الدور، الأمر الذى ساعد على رفض تلك الظاهرة، والتى تنقل قارئ القصة إلى ذلك العالم الذى جسده الفيلم، لمجرد ذكر اسم “حمدى الوزير، خاصة عندما تحدث المأساة للمتحرش، والذى معه {وصوت الترام يتحرك، وأصوات متداخله تتساءل عما حدث، وصورة حمدى الوزير تطل عليه الآن بالذات، لكن بعينيى المرأة السارحة تضحك في شماتة}. حيث تتجسد المآسة فى أعماق (المتحرش)ليتجسد أمامه المرأة المعتدى عليها، وصورة الممثل الذى تشخص أمامه، متجسدا.
وكذلك يمكن تلمس الشاعرية فى قصة “قائمة الطعام” والتى نعيش معها كيفية وضع الفتاة كل همومها فى الطعام، ونعيش معها، على أرض الواقع، ثم نكتشف انها فى بيتها، ولم يكن كل ذلك إلا حلم يقظة، لنسدرك كيف أنها تعيش الوحدة والفراغ، وتعانى، ليس من الجوع للطعام، وغنما الجوع العطفى، فنحاول أن نتلمس حياتها التى أوصلتها لذلك. فنتبين أن الكاتب سرب لنا تلك الجملة فى بداية القصة {تمنت لو كان معها من يطلب لها هذه الوجبة ولنفسه مثلها. لكن ليس لها حبيب حاليًا. ولم يكن لديها أبدًا} والت تكشف عن ذلك الفراغ، وذلك الحرمان، البطنى والمغلف. وعلى الجانب الآخر، حيث معاناة الرجل من الوحدة فى قصة “طبق اليوم” حيث يعيش السارد متخيلا تلك المرأة (الأثيرية) والتى لا تعيش إلا فى خياله، فيشعر بلذة الأكلن ثم ينتبه لكونه وحيدا، فيشعر بمرارة الطعام. ولندرك نحن تلك الوحدة وصر المعانة التى يعانيها ذلك الوحيد فى بيته. وهو ما نستطيع أن نجده فى العديد من قصص المجموعة، فضلا عن قصص منير عتيبة فى غير المجموعة.
التقنية القصصية
على الرغم من أن منير عتيبة مارس ما يسمى بالقصة القصيرة جدا، والقائمة على المساحة الكتابية المحدودة، والتى قد لا تجاوز سطر أو بعض سطر، إلا أنه فى هذه المجموعة، يعتمد على المساحة الممتدة، كتابيا وزمنيا، بما يمنح القارئ الاستمتاع بالتفاصيل الكاشفة، والمعايشة – وهى أحد الاعتراضات الأساسية على ما يسمى بالقصة القصيرة جدا، والتى تفتقد لتلك المتعة-، خاصة وأنه -كما سبق أن أوضحنا- يعيش ويكتب من داخل الطبقات الشعبية، أو ما دونها، وهو ما يمنح القصص المتعة، والاستغراق. غير أنه يحافظ فى ذات الآن على روح القصة القصيرة (الإدريسية) والقائمة على تفجير اللحظة، بأبعادها، مستخدما الشكل الدائرى.
ففى قصة “المسلمانى دخل المسجد”، والذى يوحى معه هذا العنوان، إلى أفق أبعد مما يتصوره القارئ، حيث يرد على ذهنه، انه أخيرا تاب إلى الله ودخل للعبادة، أو انه– المسلمانى- أعلن إسلامه ودخل المسجد، غير أن النهاية تأتى بشئ مختلف كثيرا.
حيث تبدأ القصة بخبر وصل إلى كل الناس، وكأنها الرسالة إليهم، أو الرسالة إلى كل القراء {عندما وصل الخبر إلى الجالسين على قهوة سعداوي انفجروا بالضحك، ولو قيل لهم إن المسلماني دخل الكنيسة لما كان تلقيهم للخبر أقل طرافة، لولا أن بلدتنا ليس بها كنيسة}. ثم نتعرف على أصل “المسلمانى” ومسيرة حياته، كإنسان، وفقط، وليس يهم هويته، او أصله أو ديانته. ثم رحلة حياته وزواجه، والتى تستغرق سنوات، بما يفوق المساحة الزمنية للقصة القصيرة، غير أننا نعود لنقطة البداية .. فى النهاية، حيث نجد السلمانى يتوجه إلى المنبر فى المسجد، ويوجه حديثه، لا إلى الطرفين المتحاربين، وإنما إلى جميع الناس “يلعن أبوكم كلكم” {ثم سار مبتعدًا وسط ذهول الجميع، الذين نظروا إلى بعضهم البعض قليلا، ثم انفجروا في الضحك حتى سقط بعضهم على الأرض}. لتكتمل السخرية المريرة. ولتصبح رؤية القصة، او عنوانها المعبر عن الحالة (السلمانى دخل المسجد وصعد المنبر وقال (يلعن أبوكم كلكم) ثم انصرف. وهو ما يمكن أن تصبح عليه القصة القصيرة جدا. ولنتساءل: كيف تحرمنا هذه من المتعة التى عشناها فى قصة المسلمانى؟.
وقد نجح الكاتب فى رسم وتصوير شخصية المسلمانى، الفاقد للتعليم، والذى ردد كثيرا ذات المقولة. الأمر الذى جعلها منطقية، وغير مستغربة، غير أن الموقف فجر الضحك، ولكنه ضحك كالبكاء.
خاصية أخرى، استخدمها الكاتب من ممارساته للقصة القصيرة جدا، وهى المفاجأة فى نهاية القصة، أو كسر أفق التوقع عند القارئ. فنجد على سبيل المثال فى قصة “مهر افتراضى” ، تبدا القصة بعرض النماذج المنفلتة من القانون، وصراعهما على الفتاة “سماح، الإنسانة والرمز، بينما فى النهاية ترتبط الفتاة (الإنسانة والرمز) برمز لرجل الدين، أو مستخدم الدين، بذات الوسيلة (العصرية). وكأنه ثالث الثلاثة، وهو ما لم يكن القارئ يتوقعه.
وكذلك فى قصة “الندواتى” والتى تبدأ فى تدبير ما يمكن أن يصنع السخرية على ذلك النموذج الملافوض إجتماعيا. حيث تبدأ ب { أعرف أن ما اتفقت عليه مع الأديب الكبير )ألبير نصفي( عمل شرير ستتحدث عنه الأوساط الأدبية لسنوات قادمة، لكني أشعر باستمتاع كبير للموقف الذي سنضع فيه )دعبيس عبيس( لنكشفه على حقيقته ونضحك الناس عليه}. لكنها تنتهى بأن ينقلب السحر على الساعر، حيث يستطيع الندواتى أن يحتل مكان مدبر (المقلب)، بل ويطرده {أخبرني طبيبي النفسي أن فقداني السيطرة على أعصابي وجزء من جسدي وعدم قدرتي على تحريك ملامح وجهي، هو شلل نفسي مؤقت، وأنني يجب أن أبتعد عن الندوات فترة من الزمن حتى أنسى جحود من طالبوا بأن يكون )دعبيس عبيس( رئيسًا لنادي الأدب ومسؤولً عن الندوة لأن طريقته الديمقراطية في ندوته الأولى كانت مبهرة للجميع}.
وحتى فى قصة “الجثة” حيث نتهيأ لدفن والد ثلاثة من الوجهاء ، أو شخصيات المجتمع (الراقى) حيث يتجمع العديد من البشر، للمجاملة فى دفن الوالد ، غير أن الأمر ينتهى بحضورهم لدفن أحد أبناء العامة (عوض مخلوف خادم مقهى القرية). بينما لم يشيع أحد –حتى الأبناء- جثة الوالد، المُكرم لأجل أبنائه.
لقد استطاع منير عتيبة أن يأثرنا، ويجعلنا حبيسى إبداعه، المتواصل طوال رحلة ال “24 ساعة مسخرة” بل خلال رحلته الكاشفة عن سوءات المجتمع، بتعدد ألوانها وأشكالها. وليِثُبِتَ أنه أحد عُمد القصة القصيرة المعاصرة، التى تحمل البساطة والعمق، السخرية والمرارة، الضحك والبكاء، مثلما هى الحياة التى تحمل كل ذلك، طالما هى حياة.
………………………………………..
[1] – منير عتيبة- 24 ساعة مسخرة- الهيئة العامة للكتاب-إبداعات قصصية عدد66 – ط1 2022.
[2] – سيجموند فرويد- الهذيان والأحلام فى الفن – ترجمة جورج طرابيشى – دار الطليعة للطباعة والنشر- 1978.