1885 .. نهاية غوردِن الخُرطوم

أنتوني نَتِنْغْ
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أنتوني نَتِنْغْ

ترجمة : سعدي يوسف

في مطلع يناير، صارت شحّة الطعام في الخرطوم خطيرةً. وباستثناء شيء من الذُرة الخضراء في جزيرة توتي، لم يتبقَّ قمحٌ، واستُنفِدَ خزينُ البسكويت. الحامية والناسُ لجأوا إلى أكل الحمير والخيل والكلاب  والفئران وكرَب النخل. انتشر الزُّحارُ، ولم يعُدْ بمقدور العديد من جنود الحامية أخذ مواقعهم في الخطوط، بعد أن أنهكهم الجوعُ والمرضُ. آخرون فرّوا من مواقعهم ابتغاء الطعام. الجثث ملأت الشوارع،  وليس لأحدٍ القدرة على دفنها. وفي السادس من يناير، في محاولةٍ يائسةٍ للإقلال من غير  الـمـُــقاتلين، والحصول على الأغذية الممكنة، أعلنَ غوردن أن بمقدور مَن يشاؤون، مغادرة الخرطوم، وأرسلَ رسالة إلى المهدي يسأله فيها إيواء المغادرين والرأفة بهم.

أمّا في أمّ درمان فقد كان الحالُ أسوأ. فالحامية هناك كانت تتضوّر جوعاً، وبلا ذخيرة. وحين علِم المهدي بما قاله الفارّون، قرّر تصعيد هجماته على أمّ درمان تمهيداً لإضعاف الخرطوم الأخير. حاولَ غوردن أن يخفِّفَ حصار الأنصار، ثلاث مَرّات،  في بداية يناير،  إلاّ أن قوّاتِه عجزتْ عن كسر الحصار.

يوماً بعد يوم،  ومن سطح القصر، كان غوردن يتبع بناظوره، الإصاباتِ المميتة التي تلحقُ بالقلعة الصغيرة عبرَ النهر، حين كان الأنصارُ يقنصون المدافعين، واحداً بعد آخر، وحين كانت مدفعيّتهم تدكّ الأسوار بقصفٍ عنيفٍ، وهو عاجزٌ عن مواجهته بسبب  غياب بواخره.  في الخامس من يناير  تلقّى إشارة من الآمر في أمّ درمان، فرج الله،  تفيد بأن رجاله بلا طعام وذخيرة. وهكذا، وافق على استسلام الحامية بقلبٍ مثقَلٍ.

كان لسقوط أمّ درمان الوقعُ الذي كان يريده المهدي في الخرطوم.

إذ اعتُبِرَ الأمرُ، كما أراد المهديّ، تمهيداً لسقوط العاصمة، وهكذا انهارت معنويات القوّات، وبدأت هجرة السكّان. كما كانت للمهدي فائدة كبرى في وضع مدفعيّته على طول أسوار أمّ درمان ليزيد من قوّة ضغط مدفعيّته على الخرطوم.

هكذا،  صار بمقدوره تركيز عديده،  العشرين ألفاً، للإنقضاض النهائيّ.

تحت حماية المدفعية، اندفعت تعزيزات الأنصار، عبر النيل الأبيض، في الكلاكلة، لتنضمّ إلى معسكر وَدّ نجومي.  ومثل ما عجزَ غوردِن عن منع مدفعية المهدي من قصف أمّ درمان حتى الاستسلام، عجزَ عن وقف تحشُّد جيوش الأنصار خلف الحدود الجنوبية لدفاعات الخرطوم.

من سطح القصر، كان بمقدوره أن يرى الحركة المستمرة للقوّات، عبر النهر، والتمركز الدائب للقوّات على الجانب الجنوبيّ للمدينة. لكنه، بدون بواخره، عاجزٌ عن إيقاف حشد العدوّ القادم لتدميره.

لكن المهدي لم يهاجِم، حتى الآن.

وبدلاً من ذلك، بعثَ إلى غوردِن واحدةً من أشهر رسائله، رجاه فيها أن يستسلم، ووعده بإطلاق سراحه، إن استسلَمَ فقط.

تبدأ الرسالة هكذا :

إلى غوردن باشا حفظه الله

وبعد أن يمتدح خصال غوردن يمضي ليقول :

أكتبُ إليك، لتعود إلى بلدك…  أُعِيدُ إليك ما قاله الله. لا تلْقِيَنّ بأنفسكم في التهلكة. الله رؤوفٌ رحيم. بلَغَني أن الإنجليز يريدون دفع فِديةٍ عنك وحدكَ، عشرين ألفاً.  إنْ انضممتَ إلينا ستكون مبارَكاً، لكن إن أردتَ الإلتحاق بالإنجليز فسوف نرسلك إليهم بدون  قرشٍ واحدٍ “.

هذه الرسالة المعروفة قليلاً، تبيِّنُ كم كان المهدي مستعدّاً، للحفاظ على غوردن،  والإستيلاء على الخرطوم بدون إراقة دماء.

لكن هذا النداء لم يحظ باستجابةٍ.

كان غوردن يريد أن يجعل من نفسه شهيداً.

وهكذا استبعدَ هذا العرضَ السخيّ، باحتقار.

لقد سبقَ السيفُ العذْلَ. لكنْ  حتى قبل أن  يُنقَل رفضُ غوردن الإستسلامَ إلى المهدي، كان أمرٌ حدثَ، وكان مقدّراً لذلك أن يغيِّر مجرى الأحداث، ويُشرذِمَ جيوش الأنصار، مرتدّةً إلى كردفان. في العشرين من يناير علِمَ معسكرُ المهدي بهزيمة قوّة الأنصار، في أبو طليح، هذه القوّة التي كانت أُرسِلتْ  لإزعاج طابور النجدة الذي يقوده ستيوارت. انتشرَ النبأُ، كالنار في الهشيم، وتطلّعَ غوردن من سطح قصره، يمسحُ الأفقَ خلف منحنى النيل. بغتةً رأى المشهدَ غيرَ المألوف لنسوة الأنصار يندبْنَ قتلاهنّ ويولولْنَ.

وبعد فترة وجيزة، وردّاً على استفساراته، بلغَه، عبر جاسوسٍ له، في معسكر المهدي،  خبرُ أن البريطانيّين حقّقوا نصراً حاسماً في طريقهم إلى الخرطوم.

أسرعَ غوردن إلى إعلان الأنباء السعيدة، وعمَّ الفرحُ المدينةَ،  فاستشار المهدي خلفاءه، وهو في حالة فزعٍ حتى قيلَ إنه ارتأى من الأصلح له القول بأن الله أوصاه بالتراجع عن الخرطوم والعودة إلى كردفان، قبل وصول القوّة البريطانية وتحقيق انتصارٍ آخر كالذي حقّقتْه في أبوطليح.

يقالُ إن ضبّاط المهدي، باستثناء واحدٍ منهم، وافقوا على هذا. هذا الرجل هو محمد عبد الكريم، عمّ المهدي، فقد قال: إنْ كان إنجليزيٌّ واحدٌ هو غوردن قد سبّبَ لنا هذا العناءَ،  فماذا سيكون حالُنا  لو أن جيش قومه التحقَ بغوردن ؟

الحكمة والإقدامُ، في الهجوم  لا في التراجُع، قبل وصول البريطانيّين.

التقاريرُ، كلُّها، القادمة من الخرطوم، عبر الجواسيس والفارّين، تشير إلى أن المدينة في مجاعة، وإلى أن المدافعين عنها هم أضعفُ من إبداء أي مقاومة. بالإضافة إلى هذا، أفادَ أحدُ الفارِّين أن هناك نقطة ضعيفة جداً في الدفاعات،  إذ أن انخفاض الماء في النيل الأبيض، خلّفَ شريطاً من أرضٍ موحلةٍ يمكن لها أن تكون جسراً  على الخندق الدفاعيّ في الجانب الجنوبي للبلدة.

بهذه الحجج القويّة، عادت الثقة إلى مستشاري المهدي،  وعندما رأوا أن البريطانيّين لم يتعجّلوا مواصلة انتصارهم، تقبّلَ الخلفاءُ نصيحة عبد الكريم.

صدرَ الأمرُ بالهجوم الشامل على الخرطوم في الساعات الأولى من السادس والعشرين يناير. وفي عشيّة الهجوم عبرَ المهدي النيلَ الأبيضَ، في سِرّيّةٍ وصمتٍ،  كي لا ينتبه  الـمُـدافعون إلى أي جلَبةٍ من هتافٍ يطْلقُه رجالُه. جمعَ ضبّاطَه، وأعطاهم تعليمات الغد. باسم رسول الله، عليهم أن يأخذوا الخرطوم، ويأخذوا غنائمَها إلى بيت مال الأنصار.

لكن المهدي أصرَّ على أن يؤخَذَ غوردن حيّاً. إذ كان، على أي حال، شخصاً طيّباً، عيبُه الوحيد أنه ليس مسلماً.

وأعلنَ :  مَنْ آذاه فليس منّا.

( أكّدَ هذا، للمؤلِّف، د.تجاني الماحي، عضو مجلس الرئاسة السوداني، في 1965، الذي وصفت جدّتُه المقيمة في الخرطوم  ايّامَ الحصار، غوردن،  بأنه رجلٌ لو كان مسْلماً لدخلَ الجنّةَ بالتأكيد. )

امّا  ” التُّرْكُ “، الحامية المصرية،  التي كفرتْ، واغتصبت السودان، ونهبتْ خيراتِه، فلن ينالوا أي رحمةٍ.

وهكذا، عاد المهدي إلى أم درمان، ينتظرُ المعركة القادمة.  

آنذاك،  في الخرطوم، وفي غياب أيّ نبأ عن طابور نجدةٍ يتقدّم في أعالي النيل، حلَّ الإمتعاضُ محلّ  الإبتهاج، بصدد أخبار  أبو كِلْية. وعندما أرسل المهدي مبعوثيه  إلى البلدة،  ليقولوا للناس إن المنتصرين في أبو كلية، كانوا  الأنصارَ، وإن الإنجليز لفّقوا الخبر ليرفعوا من معنوية المقاوِمين، صدّق الناسُ هذا الكلامَ. حتى فرج باشا، آمرُ الحامية، أخذ يشكّ في أن الأنصار قد هُزِموا، وفي الثالث والعشرين من يناير،  قبل يومين من زيارة المهدي قوّاته،سرّاً، نصحَ غوردن بتسليم البلدة، لأن الحامية كانت أضعف من اتخاذ وقفةٍ أخيرةٍ. لكن غوردن رفض، غاضباً، فكرة الاستسلام، وبينما كان يتابع تفتيشه اليومي لدفاعات الخرطوم،  حثّ الحامية المتضوِّرة، على الصمود في وقفةٍ أخيرةٍ،  للحفاظ على البلدة،  وحثّ السكّان القادرين على حمل السلاح كي يساعدوا في حماية الأسوار. قال مُصِرّاً :” يجب أن يأتوا، ولسوف يأتون،  غداً، أو بعد غد “. وفي الخامس والعشرين من يناير صعد إلى سطح قصره، في ما أمسى آخر مرّة،  ليمسح الأفق عن إشارةٍ لبواخره. كان ذلك بلا جدوى،  إذ كانت الباخرة ” بوردين ” مع ولسون وعشرين من ذوي السترات الحُمر، و200 من الجنود السود، كانت جانحةً على صخرة في الشلالات السادسة،  على مبعدة ستين ميلاً عن الخرطوم، وليس بالإمكان إعادة تعويمها  إلاّ بعد  أربع وعشرين ساعةً. أمّا بقيّة قوّة  ولسلي، فقد كان معْظَم الطابور في المتَمّة،  والبقيّة، خمسة آلاف من مجموع سبعة آلاف فقد كانوا ليسوا أقرب من أبو حامد،  150 ميلاً على الجانب الخطأ من بربر.

في اليوم نفسه،  دعا غوردن مجلس الأعيان إلى القصر. وثانيةً، دار الحديث عن الاستسلام، والشكوك في أخبار الانتصار البريطاني في أبو كِلْية. لكنْ بعد أن عبّرَ الشكّاكون عن وجهة نظرهم،  أعلن غوردن عن معارضته الصارمة  لتسليم الخرطوم. قوّة النجدة البريطانية هي في طريقها. وسوف تصل خلال أربع وعشرين ساعة. لِمَ يستسلم، إذاً، ويقدِّم للمهديّ نصراً يمكنُ تفاديه  بمقاومة يومٍ واحدٍ ؟ كانت الكلمات شجاعةً ومتحدِّيةً، لكنه كان في أعماقه، يشكّ بها. وحين تأجّلَ المجلس، وانفضّ الأعيانُ، توجّه إلى بورديني بَيك، وهو تاجرٌ من الخرطوم، وصديقٌ صدوقٌ. ” ماذا بمقدوري أن أقول أكثرَ ؟ لم يعُدْ بمقدور الناس أن يصدِّقوني. أخبرتُهم مراراً وتكراراً أن العونَ قادمٌ. لكن العون لم يأتِ. وهكذا رأوا أنني كنت كاذباً. لن أستطيع أن أفعل شيئاً إنْ  أخفقَ وعدي الأخيرُ. اذهبْ واجمعْ مَن تستطيع، لوقفةٍ أخيرةٍ. اتركْني الآن لأدخِّن هذه السجائر “.

في الثالثة والنصف، من الصباح التالي، أي في 26 يناير، زحفت مدفعية الأنصار، بقيادة ودّ النجومي، إلى أمام، نحو الجسر الموحل، الذي سيحملُ الهجومَ الرئيس على المدينة. وبالرغم من القمر المنير،  لم يرَ المدافعون على الأسوار،  أيّ علامة على المدفعية المتقدمة. كان المدافعون جدّ منهَكين من الجوع فلم يتبيّنوا  الأمر، لأنهم لم يكونوا يقِظين.  كما أن كثيرين من القوّات تركوا مواقعهم إلى البلدة بحثاً عن الطعام.

وهكذا لم يُطْلَقْ إنذارٌ عامٌّ، إلاّ حين صار المهاجِمون على مبعدة ياردات قليلة من هدفهم،  تحت غطاء كثيف من المدفعية. آنذاك فات الوقتُ على المدافِعين ليُحصِّنوا  النقاط الضعيفة على الأسوار،  وفي دقائقَ اندفع مشاةُ الأنصار عبرَ الخندق، ليكونوا في الخرطوم. اندفعوا يميناً،  ليهاجموا المدافعين من الخلف، ثم شقّوا طريقهم، على امتداد الخطوط،  واستولوا على بوابة المسلَّميّة في الزاوية الجنوبية الغربية  للدفاعات. ولبُرهةٍ قصيرةٍ، تحدّت البوابةُ الرئيسةُ الأخرى،  مقابل قرية بوري، إلى الغرب، المهاجِمينَ. لكنْ  حين اندفع الأنصارُ عبر بوابة المسلَّميّة،  انهارَ الجنودُ عند بوابة بوري،  وهربوا ابتغاء السلامة.

في الساعة الرابعة، تمَّ الإستيلاءُ على الخرطوم، واكتظّت الشوارعُ بالأنصار، مُطْلِقين صيحاتِهم، مندفعين وراءَ المدافعين الهاربين، يقتلونهم بالرصاص والرماح.

ثم تعالت الصيحةُ : ” إلى القصر “. وفي دقائقَ معدوداتٍ، اندفعت مجموعة من الثوّار في حديقة القصر، متغلّبين على حرس البوّابة، وبعد أن بلغوا السلّم الخارجي المؤدي إلى مسكن غوردِن، فوجئوا بظهور غوردن نفسه، واقفاً بكل هدوءٍ، في أعلى السلّم،  وعلى وجهه علائمُ احتقارٍ. كان  يرتدي بِزّةً بيضاءَ، ويعتمر طربوشاً، ويده اليسرى على سيفه المغمَد المتدلي من حزام السيف. كـــان يبدو ( بالرغم من المسدس في يمينه)، كأنه يتهيّأ لاستعراضٍ، وقد أفسدَ استعدادَه،  أولادُ شوارعَ صخّابون. وفي الدقيقة الأخيرة المميتة في حياته، لم تبدرْ منه أدنى بادرةٍ للدفاع عن نفسه، سواء بمسدّسه أو بسيفه.

وفي خِضَمّ اللحظة، نُسِيَ توجيهُ المهديّ بأن يؤسَرَ غوردن حيّاً. صاح قائد مجموعة الأنصار : ” أيها الملعون، حانت ساعتُك ! “،  ثم أرسلَ رمحه، في صدر غوردن. وعندما دار هذا على نفسه، من هول الطعنة، اندفع آخرون إلى أعلى السُّلّم، ليطعنوا جسد غوردن برماحهم. وحسب العادة، قطِعَ رأسه، وأُخِذَ إلى المهديّ، الذي لم يصدِّقْ  أن أوامره قد عُصِيَتْ. أرسلَ المهديُّ الرأس المقطوع إلى سلاتِنْ للتأكُّد.

وقد وصفَ سلاتِنْ، في ما بَعدُ، اللحظة الشنيعةَ التي جيءَ  فيها، إليه، برأس آمرِه السابق :

” اندفعَ الدمُ في رأسي،  وكاد نبضُ قلبي  يتوقّف. لكني ضبطتُ نفسي ضبطاً شديداً،  وحدّقتُ صامتاً في المرأى الشنيع. كانت عيناه الزرقاوان نصفَ مفتوحتَين، الفم  طبيعيٌّ تماماً. شَعر رأسه وسالفَيه أبيض أو يكاد. قال  “شَطّا ”  وهو يمسك بالرأس أمامي:  أليس هذا رأس عمِّكَ الكافر ؟

قلتُ بمنتهى الهدوء :  ما ذا في الأمر ؟ جنديٌّ شجاعٌ سقط في موقعه. سعيدٌ هذا الذي سقط. لقد انتهت عذاباتُه.

لقد انتهت عذاباتُ غوردِن، وقد  بلغَ، أخيراً، الخلاصَ من الحياة الدنيا، هذا الخلاصَ الذي تاقَ إليه طويلاً.

……………

* تمّت الترجمة في لندن بتاريخ  18.02.2019

مقالات من نفس القسم