آلكسندر تشي
ترجمة: محمد عبد النبي
- أحيانًا الموسيقى مَطلوبة.
- وأحيانًا الصمت.
- الرواية، مِثل سائر الأشياء المكتوبة، قطعةٌ مِن الموسيقى، تطالبكَ اللغة بأن تلفظ صوتًا بينما تقرأها. كتابة رواية، إذًا، مثل تَذكُّر أغنية لم تسمعها مِن قبل قَط.
- كتبتُ روايات في مترو الأنفاق، وفاتتني محطة النزول كثيرًا، كما يحدث مع مَن يقرأونها.
- قد تبدأ الروايات مِن تبعات ونتائج موقفٍ ما. شخصٌ صفته كذا في مكان شكله كذا، عَددٌ صحيح يَدخل إلى قلب معادلةٍ فتنشأ قِيمٌ جديدة، في كل موضع ممكن.
- في أغلب الأحوال، الشخص والموقف يصلان معًا. إنني واقفٌ في مكانٍ ما وأرقبُهما إذ يظرهان، ويمضي كلٌ منهما نحو الآخر، ثم يتحوَّلان لشيءٍ آخَر.
- أليس عَبرَ المرآة، التي، على الجانب الآخر، تجد نفسها وقد تحولَّت إلى أَلكس.
- أو كأنك تتخذ أصدقاء خياليين هم امتداد مربَّع مباني في المدينة. الصفحات التي تكتبها كأنك تأخذ بصمات أصابعهم،فقط لتثب للغرباء أنهم موجودن.
- قراءة رواية هي معجزةُ عَرض بَصمة إصبع مع القدرة على تخمين وجه صاحبة البصمة، وطريقتها في السير، ومتى أحبَّت الشخص الخطأ أو جلبَ حبها عواقب سيئة، إلخ.
- الرواية هي أدق تشبيه يمكن للكاتب أن يصل إليه لكل ما شُوهدَ في الغرف والقطارات والسماوات وليالي الصيف والحفلات، أينما ظلَّت الرواية تُكتَب، وأينما سارَ الكاتب في بعض اللحظات مع صديقٍ خيالي عِملاق، قبل أن يعود من جديد للآخرين، وهو ما يسمَّى، حياة الكاتب.
- أو كأنَّك في حفل وتسمع شخصًا ما ينادي باسمك مِن خارج النافذة، وحين تخرج له، تجده تِنينًا يطفو في هواء الليل، بابتسامةٍ عريضة. تسأله: “كيف عرفتَ اسمي؟”. لكنك تعرف مُسبقًا أنه هذا التنين يخصّك.
- تكتب الرواية لأنكَ مضطرٌ أن تكتب، في نهاية الأمر. تكتب لأن الكتابة أسهل من عَدم الكتابة. على كلٍ، لقد قطعَ تنينٌ كلَّ هذا الطريق وهو يعرف اسمك.
- في أغلب الأحوال، عائلة الروائي لن تؤمن بأنَّ الروائي شخصٌ لديه بالفعل عَمل “حقيقي”، حتَّى بعد نَشر رواياتٍ كثيرة.
- قِيلَ إنَّه ينبغي على العائلات أن تحاول ألَّا تعاقب أبناءها مِن الكتَّاب. أنَّا مَن قال هذا.
- غالبًا ما يخشى أفراد عائلة الروائي أن يجدوا أنفسهم في الرواية، غير أنهم لا يخشون إلَّا رواية كتبها كلٌ منهم بمِعرفته، يُسقطونها عليه.
- أمَّا بالنسبة للروائيين الموجودين في حياتك سمعتُ أنه قيل إنَّ الأفضل أن تتظاهر بأنهم يفعلون شيئًا آخَر تمامًا وَهم يعتنون به على الدوام وفي غِنى عن أدنى اهتمام مِن جانبك. وبعد ذلك إذا سُئلتَ الدَعم فَلتحشِد حماسةً هائلة.
- أي محاولة لاكتشاف عمَّا تدور الرواية مِن غير مناسبة أو ترحيب سوف تقابَل بمقاومة هائلة.
- إن كنتُ لا أجيب على سؤالٍ عمَّا تدور الرواية؟ أو كيف يمضي حال الكتابة؟ فذلك لأنَّ إحساسي بروايةٍ ما يتغيَّر تمامًا كما تتغيَّر معرفتي بأحد الأشخاص.
- إنك تتطلَّع لإجابةٍ ما يمكنك أن تعتمد عليها لاحقًا، عندما ترى الكتاب، وأنا كذلك مِثلك. لكنَّ إجابتي سوف تنمو وتتطوَّر لتصبح هي الكتاب بكامله، وهكذا فَأيًا كان ما أقوله لكَ قد لا يكون له أي صلة تقريبًا بما سوف يوجَد هنالك في المحصلة النهائية.
- وإن بدا هذا مني مُبالغةً في الكتمان والحذر، فذلك لأني لستُ كذَّابًا وأكره أن أُعدّ كذابًا بسبب مخاطر الحِرفة. إنمَّا أيضًا، إذا أخبرتُك بالفكرة وأحبطك الوصف فقد يُعرّض هذا الرواية للضياع.
- الروايات تتسم بحساسية ورهافة بالغتين في أثناء كتابتها، كما تتسم بالشراهة والنَهم. إنها تتجوَّل في مَسكني، منتزعةً أبياتًا مِن قصائد نصف مكتملة، ومختلسةً أفكارًا مِن مشروعات لم تتم لمقالات، ودفاتر يوميات، ورسائل، وأحيانًا تلتهم بعضها بعضًا. ويحدث أحيانًا، وقُبيل أن أتمكن من الوصول إليهما، تكون إحداهما قد أخذت مِن الأخرى قضمة مُعتَبرة.
- في مِثل تلك الظروف، ما مِن سبيلٍ لإنقاذ القصيدة غالبًا، أو على الأقل لم يُكتَشف بَعد.
- وفي مثل تلك الظروف أيضًا، ما مِن عقوبةٍ تنزل بالرواية، لأنَّ للجوع ذكاؤه الخاص، ولا بدَّ أن يكون موضع ثقتنا. مِن الخطر أن تكون روايةٌ جديدة بالقرب مِن رواية أخرى جديدة خلال سنوات كتابتهما، لكنهما تعلمان هذا.
- المُراجعة، في هذه الأثناء، تحوّل شيئًا مِثل الغسيل المتسخ إلى شيءٍ مثل أعياد الكريسماس.
- هذا لأنَّ المسوَّدة الأولى غالبًا ما تكون مِثل السقالات أثناء البناء، غالبًا ما ينبغي تفكيكها لنكشف عن الشيء الذي كان يُبنَى مِن تحتها. ما يعني ضمنًا إنَّ المسودات الثانية، عندما تظهر، لا تكاد تجمعها بالأولى إلَّا صِلةٌ طفيفة، بالكاد ظاهرة للعيان.
- المسودة الأولى شرنقة حاضنة للظنون والاحتمالات.
- في أثناء العمل عليها، تتخذ الروايات وجوه عدّة. الرواية بوصفها سجَّانًا، مثلًا. أنتَ في غرفة صغيرة مظلمة بلا أية أجوبة على أيٍ مِن أسئلتك، ولا يبدو أنَّ أحدًا يعيرُ أذنًا لتوسُّلاتك، لا لأيامٍ، ولا لشهورٍ، ولا لسنين. لا مبالاة تامة، طوال الوقت، لكل طَلبات الزيارات أو التماسات الحرية. وأشغال شاقة أيضًا.
- أو تكون الرواية سيّدًا منعمًا مترفًا. تتوقف السيارة الليموزين، ثُمَّ البار مزوَّد بكل ما يلزم، وخَدم وحَشم. حَبيبةٌ لم تلتقِ بها بعد غاضبة منكَ منذ الآن لعَدم اتصالك بما يكفي، ذراعان معقودتان، ووجهٌ وَسيمٌ زَعلان.
- أو هي المشبوه المطارَد، يصل ليلًا عبرَ ويدخل من نافذة مفتوحة. ليس حُلمًا بالضبط، إنه يحمل أمر عَمل موقَّعًا مِن رئيس مصنع أحلامك، تُميّز فيه خطَ يدك في الكتابة.
- وإذ يتقدَّم العَمل، يوجدُ المصنع قريبًا مِن الطرق المؤدية إلى السجن، ذهابًا وإيابًا، وبالوسع رؤية السيّد المنعّم يتردد بينهما، داخلًا خارجًا. أحيانًا يكون من الواضح أنَّ السِجن والحفل يتبادلان الأماكن (الخَدم والحَشم تسعهم الزنزانة)، وأحيانًا تنقطع السُبل بينهما.
- يميلُ المشبوه المطارَد ناظرًا مِن النافذة، يُخمّن أنَّ سيارة الليموزين وزنزانة السِجن هُما الشيء نفسه.
- أو تكون الرواية هي الحبيبة. نافدة الصبر. تُريدكَ أن تعرفَ كلَّ شيء. ولن تتوقَّف حتَّى تنتهي مِن إخبارك بكل شيء. المصنع، الزنزانة، سيارة الليموزين، لا يهم أين تكون أو مع مَن تكون: فالحديثُ لن يتوقَّف. إنه ليس بلا نهاية، ولكنه يمتد ويطول؛ أطول مِن أن يستطيع الكاتب أن يكبحه ويحتويه، وهكذا يُكتَب وبتلك الطريقة تتم ولادته.
- وعلى ذلك قد تكتشفَ أنَّ الرواية مجرد فكرة، لكنها طويلة للغاية، أطول مِن أن تسكن في رأسك كلها مرة واحدة إلَّا بعد أن تصير مكتوبة.
- ما زالت قُبعاتك مناسبة لرأسك، لكن بداخلك اتسعت المساحة.
- فَكّر في حُلم له مِن الخارج مظهر عاصفة، وهو من الداخل له مظهر أيامك كَما عِشتها أحيانًا. الرواية هي السبيل الوحيد الذي قد يقود أي شخص مِن العاصفة إلى مَدخل أيامك.
- أو هي غريبةٌ في الشارع، تقترب منك، تُمسك بتلابيبك، وتحملك بعيدًا بسرعة، مع جوازات السفر، والنقود. تقعان في الحب بينما تغادران على الفور، معًا.
- لا تنبع الرواية مِن العقل بل مِن القلب، لهذا السبب لا يمكن لرأسك أن تسعها. لهذا، حين تسمعها، يبدو كأنها تغني من موضعٍ ما خارج مجال رؤيتك، على الدوام.
- طُوال فترة الكتابة، قد يؤمن قلبك بأن الرواية هي محررته. لن تُنكر عليه هذا الإيمان، كما تفعل في أوقاتٍ أخرى مِن حياتك، لأنك مُشتتٌ بالقصة. لهذا تحب الروايات، أكثر ممَّا تعتقد أنك تحبها، عندما تقرأها.
- إنك مُغرمٌ بنهايةٍ لم تبلغها بعد – تشتاق إليها. إنها المحطة الإذاعية التي لا يُضبَط صوتها إلَّا في هذا الركن المحدد من الغرفة.
- خُدعة القلب على وشك أن تتم. فقد أَقنعَ الرواية، طوال هذا الوقت، أنه فقط يجاريها ويتبعها أينما ذهبت.
- كانت اللعبة التي لعبها [القلب] مع الرواية أشبه بموعد تعارف يبدأ بإمكانية غرام ولكنه ينتهي بمحض ذكرى عن الشخص الآخر، الشخص الذي فقدته أو الذي فقدك والذي تخدع نفسك بالإدعاء أنه قد غادر قلبك إلى الأبد، ولكنه بدلاً من ذلك يعاودُ الظهور مُتخذًا قِناعًا، كأنَّه تلك الغريبة التي قَبَّلتها جنب جدارٍ في الشارع ليلًا.
- وبالطبع فإنَّ الرواية أيضًا قِناع.
- ليست قناعًا للروائي، ولا للقاريء. ولكن لشيءٍ آخر يُحضره الروائي من وَراء الخيمة، مثل أسدٍ في الأغلال.
- لا تنظر للجروح والمِزق في قميص الروائي، والكدمات على الذراعين والساقين. لا تحاول فك شفرتها. لو كانت الإضاءة مضبوطة فسوف تراها فقط عندما تتناول الأغلال بين يديك وتصبح مستعداً لإفلات الأسير. عندئذٍ ستتذكَّر. ستجعلك الجروح تحاول أن تتخيل ما الذي مرَّ به الروائي. هذه أيضاً قصة خيالية، لكنك لن تكتبها، وسوف تتبدَّد بمجرد أن تفكّر في أمرٍ آخَر.
- هذا إن لم تكن أنتَ نفسك روائيًا، بطبيعة الحال، وعندئذٍ فأحيانًا تكون هذه هي روايتك التالية. تستيقظ لتدرك أنكَ أنتَ مَن يَظهر مِن وراء الخيمة.
- أفكر في الروايات كأنَّها زائر من كوكب آخر، الجُمل كأنَّها الدَّارات الداخلية لماكينة جميلة وهائلة، ماكينة التواصل مع الكائن. كائن المعنى الخالِص.
- أو كأنها قريبتي مِن بعيد، لم ألتق بها قَط، من بلدٍ آخر وبيننا حاجز اللغة. تجرب الثياب وباروكة الشعر التي أعطيتها لها، تتقافز على قدمٍ واحدة وتقلّدُ ضجَّة حيوانات غريبة، وسرعان ما أضع أنا الباروكة. إنني أتقافز، أتقافز، أتقافز.
- وبيدي الأخرى أدوّن ملاحظات.
- كل إنسان بداخله رواية، كَم يحب الناس أن يقولوا هذه العبارة. ويبتسمون وهم يقولونها، كما لو أن الرواية شيءٌ مميز تحديدًا لأن كل إنسان بداخله واحدة على الأقل. تخيل سَيرًا نقَّالًا كالذي في المطارات وعليه [بدلًا مِن الحقائب] أرواح رضيعة تنزل من السماء مباشرة، وصفوف من الملائكة المنهكين يوقفون السَير وهلة لدَس كتابٍ بغلاف ورقي في قلوبهم البريئة التي بلا كلمات بَعد.
- لو أن الرواية كالروح، فإنها روح يمكن تقاسمها مع الآخرين، على غرار الروح في العقيدة الغنوصية، مُتجسّدة خارجيًا، ولها رَحم.
- ماذا لو كانت الرواية التي بداخلك من نوعٍ أنت نفسك لا تطيق قراءته بالمرة؟ رواية للإجازات والشواطئ، رواية مدوية، دراما أدبية، تركز على الشخصية، طويلة ومطنبة، وتنتهي نهاية حزينة؟ ماذا لو كانت الرواية الواحدة التي بداخلك هي نقيض فكرتك عن نفسك؟
- الروائي فَلتة من فلتات الطبيعة، نمرة لجذب الجمهور في السيرك، مخلوق بأطراف عديدة، حصان بثماني أرجل أو ثلاثة وجوه أو رأسين.
- الآن عدنا للخيمة، ولكنها خيمة أخرى تمامًا، خيمة سيرك.
- نكتشف أننا الحيوان الذي يُدرَّب ليتعلَّم الحيل بهدف إسعاد شيءٍ يُمسك سوطًا.
- نركع وسط نشارة الخشب، نتلاعب بالأطباق المُعلقة على عيدان، طامعين في استحسان الجمهور، رغم أننا لا يمكننا رؤيته عبرَ كشَّافات النور.
- وفي أثناء هذا كله، نعرف أننا في بعض الثقافات نُعظَّم كالآلهة، وفي ثقافات أخرى يُحكم علينا بالموت.
- بالطبع، هذا تقريبًا لا يحدث أبدًا.
- ثُمَّ إنه أحيانًا، يحدث.
- الرواية التي قد تُقتل بسببها هي صورة يحاول أحدهم إخفاءها لأن ما بداخلها هو نفسه ما يُهدد بقتلك لأنك كتبتها.
- لم تكن تعلم أن هذا ما كنت تفعله؛ أنت فقط كنت تحاول التقاط صورة للمنظر الطبيعي. ظننتَ أنكَ مجرد متفرج، رأيت شيئًا وفكّرت أنّ عليك أن تجرب قوله بهذه الطريقة. في ركن الصورة شيء لم تتبينه تمامًا، ليس للوهلة الأولى.
- وحين تنظر بإمعان إلى الصورة، تجد أنها خريطة تركها وراءه غريب يقول: هذا هو الطريق إلى الكنز، وبعد ذلك هذا هو الطريق إلى ____
- القطعة المفقودة، أُخفيت في مكانٍ ما، لكنها تنادي، تصف نفسها لك من وراء جدران أيامك.
- هل سيكون جميلًا أم مُدمرًا أن تكتب الرواية الواحدة إذا كانت هي الرواية الوحيدة بداخلك؟ وماذا بعد، حين تكتشف أنها كانت هي؟
- لعلّ الملائكة تكون مرهقة أحيانًا فتنزلق من بين أيديهم ليس رواية واحدة بل خمس روايات، اثنتى عشرة، مئة، ألف. مكتبة كاملة لروحٍ واحدة.
- لن تعود الملائكة أبدًا لتستردها، ولكن عندما تظهر الروايات، بدلًا مِن ذلك سوف تبتسم الملائكة المرهقة في صَمت، وتمرّ خَفيةً متجر الكتب، وتتذكَّر.
- تتذكَّر أنَّه لا أحد في الحقيقة بداخله رواية واحدة فقط.
- لطالما أُعلنَ موتُ الرواية وموتُ الرَب. وربما صار كلاهما الآن غير مكترثٍ لهذا، إن كان بالوسع التيقُّن مِن وجود أي منهما.
- وفي غضون ذلك، تخيلهما يمرران الوقت في مطبخ الحياة، يُلقيان النكات، وكلٌ يحاول أن يخمّن إن كان الآخر قد جُرحت مشاعره.
- يشعرُ الرب بالثقة مِن أنه ستكون له عودة. وكذلك الرواية. كلاهما غيور، لا يريد أن يقول هذا للآخر، ليس صراحةً.
- صارت الرواية تُعرَض في ماكينات بيع بالمطارات. يشير الرب أنه لا توجد ماكينات تبيع الرب.
- تقول له الرواية، لكن هل أنت واثق مِن هذا؟. ثم تضيف، أشعر أنك تستطيع أن تفعل شيئًا حيال ذلك.
- يقول الإله، احكي لي عن هذا. وهذا من بين ما تستطيع الرواية فعله.
- أحياناً هي السفينة، تَغرق، وأنت، أنت الرُبَّان، تركض من جانبٍ لآخَر على متنها، وقد قررتَ ألا تغوص بك، بل أن تنقذها، وأن تبلغ اليابسة رغم كل شيء.
- السفينة، وقد تحركت، تعود مِن افتتانها بالأعماق.
- سيكون من السهل نسيان أن تحطم السفينة أحيانًا ما ينقذها أو ينقذ الرُبان. أحيانًا يتذكر هذا، أحدُهما، عند ملامسة الصخور.
- فكّر في القبطان نيمو* في غواصته، متجولاً بين الكنوز الغارقة لكل الرحلات البحرية المُخفقة في التاريخ بكامله. مكتبةٌ من رواياتٍ لم تتم قد تكون مِثل هذا.
- أو مثل إبزيم حزام، يرتديه أحد سكان الجزر بعد أن عثر عليه عند الشعاب المحاذية للبحر، ثم بعد سنوات يراه أحدُ أصدقاء مالكه الأصلي حين يأتي للجزيرة. مِن أين حصلتَ على هذا؟ يسألُ المُستكشف، ومن ثم يطلب أن يأخذوه إلى موقع الحطام.
- إنها مثل اللغة التي على المستكشِف أن يتعلّمها ولو لطرح السؤال.
- ماذا تريدُ مني؟ تسألُ الرواية.
- ماذا تريدُ مني؟ تقول لك الرواية.
81.كلُ شيءٍ هُنا يخصك أنت، تقول الرواية.
- يبدو هذا كأنه حيلة لكي تواصل قراءتها أو كتابتها، كذبة لكنها أيضًا حقيقة. وهذا شيٌ آخَر تكونه الرواية.
- في الرواية، كثيرًا ما تتحرَّك الأشياء الحقيقية هُنا وهناك مِثل أطفالٍ متخفين بملاءات، يلعبون لُعبة الأشباح. لولا ذلك لتجاهلناهم، ولقلنا لهم ليس الآن إن هُم أتوا بلا ملاءاتهم.
- سوف نقول اذهبوا إلى غرفتكم، وانتظروني. وبعد ذلك نبكي حين نذهب إلى هناك فنجدهم قد اختفوا.
- لا تُحسن الروايات إطاعة الأوامر، إن حدث هذا أصلًا. فهي ليست بالجنود، عادةً، ولا بالسُقاة. إنها سَيئة في الأعمال المنزلية ولن تلّمع الفضّيات.
- الروايات لا تقف منتظرة، ولا تخدم. وهي أسوأ سائق خصوصي.
- الروايات تُحسن التعامُل مع الأطفال لكنها لا يوثق بها كمعلمين لصِغار السن. ومع ذلك فها نحن ذا، ما إن نحبو حتى نجرها من فوق رفوفها جرًا.
- قال شيفر* عَن الرواية إنها لا بدَّ وأن تكون لها الخصائص المباشرة والدقيقة لأية رسالة. ممَن وإلى مَن، أتساءل، وأنا أفكر أيضًا إلى أي مدى أرى هذا صحيحًا. أريد أن أجادله باختصار – إنها ليست رسالة من الكاتب إلى القاريء – وعندئذٍ أتوقف. إنها ليست رسالة، فقط مِثل رسالة. هذا النوع مِن الأسئلة – ممَّن وإلى مَن – إذا جلستَ إليه قد تبدأ رواية.
- بالنسبة لأغلبنا، فالروايات في بدايتها حوادث عشوائية. يمشط الكُتّاب شوارع الخيال، على أمل أنَّ شيئًا ما سيلطمهم، ويجرّهم، ويأخذهم بعيدًا. نزحف من تحت السيارة عند نهاية الرحلة ونتسلل هاربين بالغنيمة.
- ذلك لأن الرواية ذات البداية المُتعمدة غابًا ما تكون بشعة، لها أسوأ صفات الكذبة المكشوفة، أو خطاب سياسي يُلقى في حملة انتخابية. يتحول الكاتب إلى شيءٍ مثل عضو مجلس الشيوخ.
- في غرفتك وبعد الحادثة الموفَّقة، تَستيقظ. ثمة شيء تبقَّى بين يديك.
- إنها رسالة. أو مثل رسالة.
- بجانب فراشك هناك أنت، الشخص الذي يكتب رواية، متنكرًا، بقبعة مُضحكة وكل ما يلزم. آملاً أن يفهم. لا تدقق النظر في الشارب السخيف. استمع. خلسة، مستندًا على يدك، اكتب ما يُقال. في تنكره المُحكَم يمثّل الأجوبة بالحركة والإيماء.
- الرواية رسالة مِن الرواية إلى القارئ، وقد أملاها الكاتب على الكاتب.
95.ولكن عمَّا تدور؟ قد تتساءل، وهنا تنفر الرواية وتتملّص.
- تقول الرواية، أريدُ فقط أن آخذَ كأسًا، سأعود على الفور. أتريد أي شيء؟
- بعدها بأيام تعود الرواية. تقول لكَ، لم أكن برفقة أي شخص آخر. ليس هناك إلاك، تضيف الرواية، حتى وإن كانت – كما يخشى الكاتب – خالطت آخرين، مُتخيلاً الصفحات عابرة على مناضد أخرى في حيّه السَكني.
- ليس هناك إلاك، تقول الرواية ثانيةً.
- أنت بالخارج، في الشارع، أمام نافذة الرواية، تصرخ في الريح. أرجوكِ، تقول أخيرًا، أخيرًا تهدأ، غير واثقٍ كيف تمضي قدمًا.
- الرواية لدى الباب بالفعل. مُنتظرة، لكن فقط لبُرهة. إنها العشيقة مرةً أخرى، نافدة الصبر من جديد، ومِن جديد تريد أن تُخبرك بكل شيء.
…………………………………….
*آلكسندر تشي، كاتب قصصي وشاعر وصحفي ومحاور أمريكي، ولد في 1967 في رود آيلاند، حصلت روايته الأولى إدنبره (2002) على العديد من الجوائز.
* القبطان نيمو (أمير دكار) شخصية خيالية ابتكرها جول فيرن، وظهرت في عملين له: عشرون ألف فرسخ تحت الماء (1870)، والجزيرة الغامضة (1874).
* جون وليام شيفر (John Cheever) قاص وروائي أمريكي (1912-1982) كان يُلقّب بشيخوف الضواحي.