أدخل من بابٍ يقود إلى باحة الطعام: باحة متسعة أشبه بميدان صغير تصطف على محيطه منافذ بيع المأكولات متعددة الجنسيات، وتتوسطها طاولات وكراسي لا تتبع مطعماً بعينه من هذه المطاعم؛ فقط عليك أن تساعد نفسك: تشتري الطعام من أحد المنافذ، وتأخذه على صينية بلاستيكية، ثم تجلس لتأكل على واحدة من هذه الطاولات. أربع نافورات تتوسط المساحة التي تشغلها الطاولات، تطلق ماءها في تشكيلات جمالية، و”يطرطش” رذاذها خفيفا على الجالسين، مع خرير الماء الذي يبدو رومانتيكيا في البداية، ثم شيئا فشيئأ يتصاعد إحساسك به حتى يحتل وعيك ويفصل بين صوتك وسماعك له؛ هذا إذا خطر ببالك الكلام.
سوشي ياباني ودجاج بصلصة الترياكي مع الأرز الأبيض.. لحم على طريقة مقاطعة سيشوان الصينية بالبصل الأخضر والزنجبيل مع لفائف الربيع المحشوة بالجزر والكرنب.. حساء الجمبري على الطريقة التايلاندية بالكرفس وشرائح البامبو.. خضروات مطهوة على طريقة مسالا الهندية للنباتيين والحلو أرز باللبن مع الحبهان.. طاجين لحم الضأن المطهو مع حبات البرقوق الأحمر على طريقة مراكش.. سجق الكلاباصا الروسي مع حساء البورتش بالزبد والكرنب.. كُرات اللحم المفروم على الطريقة السويدية مع صوص الجريفي والبطاطس المسلوقه.. فاصوليا حمراء مكسيكية مع اللحم المفروم ومعجون الأفوكادو المعروف بالجواكامولي ملفوفة في خبز التاكو من طحين الذرة.. رقائق خبز الكابد الأثيوبي مغموسة في صلصة حمراء حريفة مع نسائر من اللحم المقدد.. المعجنات الإيطالية من اللازانيا والكانيلوني وحتى البيتزا مرورا بصنوف المكرونة بمختلف الأشكال والصلصات.. سوفلاكي يوناني مع سلاطة الطماطم والبصل والخس بالجبن الأبيض.. دونير كباب تركي مع سلاطة حمص لبنانية بزيت الزيتون وحتى الفلافل المصرية الملفوفة في العيش الشامي مع الطحينة.. مع الحضور الأكيد لملوك الوجبات الجاهزة الأمريكان: دجاج كنتاكي وماكدونالدز وبورجر كينج، في عولمة حقيقية للطعام. مهاجرون هنود يأكلون طعاماً صينياً، ونسوة عرب محجبات يأكلن شاورمة تركية، ومراهقون صينيون يلتهمون البوريتوس اللاتينية. أصابني الدوار من هذا التنوع في الأطباق، ومن صوت المياه التي لا تكف عن التدفق والخرير داخل رأسي، وأعياني الأختيار؛ ذهبتُ للمطعم الإيطالي واشتريت شريحةً من البيتزا كمن يلوذ بقريب يعرفه من بعيد وسط جمع من الأغراب،فالواحد لا يثق في فلافل مصنوعة في أمريكا الشمالية وبأيد بيضاء. كلّ طعميةٍ لم تُقل في زيت السيارات لايعوَّل عليها. أخذت قطعة البيتزا وجلست لآكلها مع الكولا على واحدة من هذه الطاولات..
بعد أن انتهيت من الطعام، خرجت من تلك الساحة، واتجهت كالمنوَّم نحو ممر تعلوه لافته تشير إلى اتجاه مدينة الملاهي. سرت في الممر وسط عشرات الأطفال، بمفردهم أو مصحوبين بذويهم. الطرقة طويلة وأنا أسير وذهني مشوّش من أثر الخرير المزعج الذي كان لا يزال يتدفق في رأسي. ما إن أخذ الصوت في الابتعاد حتى بدأ ضجيج الملاهي وألعابها في الامتزاج به؛ كلما تقدمت في السير بخطواتي البطيئة وسط زحام الأطفال، أخذ خرير المياه في التلاشي ليترك مكانه لضجيج الملاهي. لم أنتبه إلى أن الممر الذي أسير به قد تحول فجأة لما يشبه الجسر المعلق. اختفت الحوائط من جانبيه، والسقف من فوقه، لتحتل ماكينات الألعاب العملاقة الفضاء من حوله. خطوط ثعبانية لأربع مستويات من قطار السرعة تتقاطع في الهواء: واحد للأطفال تدور قضبانه على ارتفاع منخفض ويجري بسرعة معتدلة، وثان رأيت طابوراً من المراهقين يقف ببابه؛ بعد أن يلف في جولة تمهيدية حول المكان يغوص في ظلمات “نفق الحب” ليهبط في مستويات أكثر عمقاً تحت الأرض، وحيث في مرحلة ما يتحول إلى ما يشبه القارب ليتهادى على سطح بحيرة صناعية في ظلام تلطفه أضواء حالمة ليسمح للعشاق الصغار باستراق الأحضان الساخنة والقبلات. ثم قطار السرعة ذو المرتفعات والانخفاضات الحادة للكبار. وأخيراً القطار الجنوني الذي يصعد وينحدر بزوايا مرعبة وبانحناءات مفاجئة ويُشترط في راكبيه أن يكونوا من ذوي الأعصاب القوية والقلوب السليمة.
ثمة أبواب على جانبي الممر- الجسر، هي بمثابة محطات لركوب تلك القطارات، وقد اصطف الأطفال والشباب عندها في طوابير للفوز بمتعة رفع العقيرة بصراخ الاستثارة. كان كل الفضاء من حولي بأراجيحه العملاقة، وقطاراته التي يفرقع في الهواء دوي عجلاتها فوق القضبان، بالحضور الكرنفالي للأطفال والشباب، تجسيداً لروح غامضة لن أفلح في فهمها مهما استعدت خبراتي مع مدن ملاهي زرتها في بلادنا في مقتبل عمري، بل يمتد اغترابي ليبتلع تلك الفكرة نفسها؛ بأي روح يبنون رقصات للحديد وللتكنولوجيا والخيال المكرس للمتعة في مدننا البائسة؟
انتهى الجسر المعلق، وعاد الممر ممرا، إيذانا بانتهاء منطقة ماكينات الألعاب العملاقة لتبدأ منطقة الألعاب الصغيرة وقد رصت على جانبي الممشى. اثناء مروري بين تلك الألعاب ، لفت انتباهي شيءٌ يشبه ملابس رجال الفضاء تقول اللافتة فوقه بالانجليزية “ Scuba Diving simulation” وترجمتها العربية “مماثلة الغوص في الأعماق”. فهمت إن هذا جهاز لمحاكاة تجربة الغوص، على غرار أجهزة محاكاة الطيران، وألعاب قيادة السيارات على شاشات الكومبيوتر. ثمة عبارة أخرى مكتوبة بخط مرح تقول “غُص في الأعماق دون أن تبتل ملابسك”. قلت هذه هي لعبتي؛ الغوص في الأعماق “على الناشف” يناسب متسكع من الشرق على شاكلتي بروح سقيمة ومزاج قلوي ينحو باتجاه النزوع الأبولوني حتى في قلب الكرنفال. وقفت للحظات أتأمل الجهاز الذي يشبه بدلة الفضاء أو بالأحرى بدلة الغوص الافتراضي: خوذة ضخمة، من الواضح أنها معدة لتحتوي شاشة عرض تواجه العينين بمشاهد الأعماق، وجسد من معدن يشبه الرصاص، وذراعين وساقين من مادة السيليكون المرن ينتهيان بقفازات وزعانف رمزية. وعلى ظهر الجسد المعدني كانت هناك أسطوانه أوكسجين تحاكي الحقيقية تماما وإن كانت أصغر حجماً. كانت التعليمات تقول إن الجهاز مزود بسماعات دقيقة تبث المؤثرات الصوتية لأعماق المحيط، وبشرائح “حاسية” sensors في منطقة الكفين والرقبة لتمرير الشعور بالوجود تحت الماء لحاسة اللمس لدى مستخدم الجهاز. ترتدى البدلة، أو تدخل داخلها بعد أن تخلع نعليك ومعطفك، وتلقم الجهاز ما قيمته أربعة دولارت من العملات. وبعد إغلاقه سيميل بك من وضعه الواقف إلى وضع أفقي، وعليك فقط أن تحرك ذراعيك وساقيك بحركة السباحة تحت الماء لتتحرك في الأعماق..رحلة سعيدة.
ألقمت الجهاز عملاته، وارتديت ذراعي وساقي السيليكون وأغلقت على نفسي بابي الخوذة والجسد المعدني. ظل الظلام داخل تلك العلبة مطبقاً، لوهلة، ثم سمعت أزيزا وشعرت بالجهاز يميل بي في وضع الانكفاء. كان الجسد المعدني مثبتاًعلى محور عند منطقة الخصر يتيح له الانكفاء رقودا والاعتدال وقوفا، بينما ذراعاي وساقاي تتحركان بحرية داخل الأكمام المطاطية.
بدأتُ الرحلة بسماعي لوشيش خافت وأصوات مكتومة مسجلة تحت الماء عبر سماعات للصوت المجسم، ثم أضيئت الشاشة أمام عيني، وكانت تلتف بتقوس حول الوجه وعلى مسافة مضبوطة من العينين لتتيح مشاهدة بمائة وثمانين درجة. كنت تماماً كمن يتطلع من خلال قناع غطس. وجدتني في مياه فيروزية بعمق غير شديد قد يصل إلى عشرة أمتار. لم تكن مشاهد الأعماق من إبداعات الجرافيك كما توقعت، بل كانت الصورة شديدة الواقعية، وأدركت من مدى نعومتها أنها مصورة بكاميرا فيديو شديدة الحساسية جرى تحويلها بعد ذلك لصورة سينمائية، لتعرض بتقنية ثلاثية الأبعاد. وبالفعل كان جسدي يشعر كما لو كان غاطسا في الماء من أثر الشرائح الحاسة على جلدي، وكان بأذني نفس تأثير الضغط المصاحب للأعماق. شاهدت أسراباً من سمك رفيع فضي تتحرك حولي، فحركت ذراعيّ وساقي وفقا للتعليمات فوجدت نفسي أتقدم في الماء، وما أثار عجبي أن الأسماك الصغيرة انفرط عقدها بمجرد ما تحركت وسطها وتبدد سربها في فوضى ليعود ليلتئم بمبعدة عني. قلت أن البرنامج الذي يعمل وفقه الجهاز شديد الذكاء حتى تستجيب المشاهد المصورة تحت الماء لحركة شخص داخل مدينة ملاهي بأحد مولات كندا، بل ذهب فكري إلى أن تلك المشاهد قد تكون بثاً مباشراً من كاميرا مزروعة بأحد البحار، لكني آثرت التوقف عن التفكير في التقنيات لاستمتع باللعبة. أخذت أسبح بمتعة بالغة في المياة الفيروزية الضحلة، وفكرت أن أصعد لسطح الماء القريب لأرى ماسيكون. فردت ذراعيَّ ورفعت رٍأسي لأعلى، وأخذت أحرك قدمي بقوة، حتى وجدتني أقترب فعليا من السطح، وعندها، ظهرت جملة بالضوء الأحمر في القطاع الأسفل من الشاشة تقول: “غير مسموح بالخروج لسطح الماء.. اذهب لجهاز مماثلة السباحة في المياه المفتوحة”. هالني ذلك التقسيم المرعب للعمل.. ولكني قررت أن أمضي في اللعبة حتى النهاية، وواصلت السباحة تحت الماء. رأيت سمكةً ضخمة من نوع الراي، بجسدها الأسود المفلطح كانت تشبه بساطاً مثلثاً، وزعانفها يرفان كجناحي طائر رخ يحلق بالسرعة البطيئة بمحاذاة القاع.. كان ذيلها المكهرب يثير زوابع في رمال القاع البيضاء كلما لامسها، فيتعكر صفو المياه خلفها.. رأيت قناديل البحر تتراقص في بطء كالهلام بأعداد غفيرة.. وأسراب من السردين الصغير المزرق تبرق في آشعة الشمس التي تتخلل المياه. وفجأةوجدتني بمواجهه لون أزرق غامق.. هاوية سحيقة.. اكتشفت أني كنت أسبح فوق رصيف من الشعاب المرجانية مغطى بطبقة من الرمال البيضاء، وهو ما كان يعطي المياه ذلك الصفاء الفيروزي.. وها أنا الآن في مواجهة الأعماق الحقيقية..الزرقة القاتمة.. كان رصيف الشعاب ينتهي كجرف تمتد الأعماق تحته لأميال. وقفت مكاني مترددا، وكأني في بحر حقيقي، للحظة، ثم أقدمت على اقتحام المجهول..
عندما غصت نازلاً بموازاة حائط الجرف المرجاني رأيت ما لا عين رأت من بهرج الأسماك الملونة، من مختلف الأحجام، فرادى وفي أسراب تتراوح بين البرتقالي ودرجات الأزرق والأخضر. ميزتُ من بينها سمكة نابليون الشهيرة.. بل رأيت قرشاً رمادياً متوسط الحجم، واقترب مني. جاء بفكه المرعب وعينيه الميتتين في مواجهتي، ثم انصرف في سلام.. كنت قرأت في مكان ما أن الأسماك تتجمع بكثرة بجوار الشعاب لوفرة الغذاء بتلك المناطق، وبالتالي وفرة الغذاء لمن يتغذون على المتغذين وفقا لقانون الأسماك الشهير.
أخذت أسبح بمحاذاة حائط الشعاب متفرجاً، أو أغطس هابطاً لمكان أعمق طلباً لتغيير المنظر. وحين تبدد سرب من أسماك صفراء بتوغلي وسطه، وجدتني أمام فتحة فاغرة بين الشعاب تقود نحو ظلام مجهول. اقتربت بحذر، وقد عرفت أن هذه هي المغارات المرجانية، الوكر المفضل لثعابين المارينا القاتلة. ولدهشتي كان هناك شعاع ضوء يخترق قلب الظلمة، فتحة ما بسقف الكهف يتسرب منها ضوء الشمس لأعماقه المرعبة. قدرت أن هذه الفتحة تقود للمنطقة الضحلة ذات المياه الفيروزية فوق الرصيف المرجاني. تشجعت محتميا ببدلتي المعدنية وبوضعي الافتراضي، وقررت اقتحام الكهف، والمروق من الفتحة بسقفه للجهة الأخرى. وفي ذهني مكان دارس بشط الاسكندرية كان يعرف ببئر مسعود. كان بئر مسعود حفرة في الصخور عند شاطئ ميامي موصولة بالبحر عبر نفق تحتي. وكان الشباب في سبعينيات القرن الماضي يتبارون في القفز بالبئر، ثم عبور النفق والطفو من جهة البحر. أخذت أتقدم سباحةً داخل الكهف متوجهاً نحو طاقة الضوء. لم تكن مسافة هينة، لكن انبثاق النور في العتمة خلق نوعا من سوء تقدير المسافات. دقائق طوال أسبح، وأتخبط بين الحين والآخر في الشعاب، فأسمع أصداء تلك الصدمات ترديداً مفخَّما عبر السماعات. مرةً أخرى هالني ذكاء البرنامج. وحين وصلت أخيراً إلى الفتحة، اكتشفت أنها أضيق من أن تسمح لي بالعبور، وكلما حاولت المروق عبرها سمعت صفيراً متقطعاً يصدر عن السماعات كجرس إنذار. فقررت العدول عن الفكرة، ولففت عائداً باتجاه بوابة الكهف. كان الظلام كاملاً في طريق العودة. لا ترى شيئا بالفعل. وازدادت وتيرة اصطدامي بالشعاب، وصرت أسمع الصليل المكتوم للمعدن على الحجر مُضاعفاً برنين الاعماق، ومجسماً بفعل السماعات لدى كل حركة يمينا كانت أم يسار. أخذ العرق يتفصد بغزارة من كفيّ و قدميَّ داخل أغلفة السيليكون المبطنة. تساءلت: هل انقلبت اللعبة إلى جد؟ وشعرت بالتيه المدوخ في الظلام، وربما أصبت بدوار حقيقي. توقفت لالتقط أنفاسي وأستجمع أفكاري، فانطلقت عندها صفارات الإنذار، بصوت أعلى هذه المرة. وظهرت اسفل الشاشة عبارة بالضوء الأحمر تقول: “الأوكسجين على وشك النفاد.. سارع بالخروج من جهاز المماثلة”. ويبدو إنني قد نسيت أن أتعلم طريقة فتح هذه البدلة المعدنية من الداخل.