سارة أشرف
لمن لا يعلم، في عيد الشهيد مارجرجس بالرزيقات وهو أحد الشهداء المشهورين لدى المسيحيين الأرثوذكس، حتى أن لقبه أمير الشهداء، في هذا العيد، يقام في صحراء الدير بالرزيقات(وهو جبل الرزيقات بمدينة الأقصر بصعيد مصر) مولد يُسمع عنه كل عام، المولد مدته سبعة أيام، على مدارها من يستطيع أن يعيش بداخل خيمة يمكث، ومن لا يستطيع ومنزله في قرى ومحافظات قريبة يذهب لمنزله ويعود للدير في زيارات متكررة والهدف هو زيارة الدير، مشاهدة ظهور مارجرجس وهذا يعتمد على مدى الإيمان بأن الظهور يحدث بالفعل، وهناك من يأتي للدير للتجارة إذا كان بائع أو للشوبينج (التسوق) إذا كان زائر عادي.
اليوم الأول
اليوم الأول لي بالدير هو ثاني يوم من أسبوع الإحتفال، كان يوم يجب حفره في الذاكرة من شدة غرابته والإرهاق فيه، بعد وصولنا (أنا وأقاربي) للأقصر، عقب ركوب قطار أشبه للمترو من القطارات، حيث طوال الرحلة لم يُطفأ الأنوار ليلاً، والباعة يتناوبون دون هوادة، وناهيك عن كل ذلك كرسي لا يتيح لك راحة أو نوم، تغاضينا عن هذا ومر الوقت بالصحبة والضحك والقراءة.
بمجرد وصولنا وخروجنا من المحطة وجدنا عربات تنادي بكلمة ( دير) دون صعوبة وصلنا للدير وللخيمة المُعدة مسبقاً من أقاربي الذين يعيشون بالصعيد، استقبلتنا شمس الصعيد استقبال حار، في حين أن القاهرة طقسها شتوي هذه الأيام، وعليه خلعنا ملابس السفر الشتوية، ولبسنا ملابس صيفية، حاولنا النوم لساعات قليلة، بعدها تناولنا وجبة الغداء السمينة التي تم إعدادها داخل الخيمة، وهنا كل الشكر لخالتي الصغرى، فهي المسؤولة عن إطعامنا جميعاً، تطوعت وحملت الحمل الذي يفوق سنها بمراحل، فهي إبنة الثامنة والثلاثون، في حين أختيها الأكبر(والدتي وخالتي) إقتربا من نهاية الأربعين، لم يستطيعا المساعدة بأمور الخيمة كثيراً، من شدة تعب السفر، وتعب الطقس، وإذا عددت لك أسباب التعب سوف يصيبنا الملل، الجميل أن خالتي الصغرى بتحملها تعطيني دوماً درساً جميلاً في المحبة والصبر.
بعد الأكل إصطحبنا ابن خالي لزيارة الكنيسة والتمشية بالدير، قضينا وقت لطيف وعدنا للخيمة، السهر بجانب الخيمة ألذ من التمشية والزحمة، بعدما غاص أهل خيمتنا جميعهم في النوم، بعد منتصف الليل بفترة استيقظنا على أصوات صرخات نساء وجري رجال، فتحت عيناي ولم أدرك ما يحدث، نهضت وسمعت جيداً أنه حريق، ويجب أن يخرج الجميع من الخيام، خوفاً من وصول النار لخيام أخرى، أيقظت أمي، وكل من استيقظ يحاول إيقاظ الآخر و جره للخارج، لم أرى النار في البداية، حين وقفت على أريكة خشبية رأيتها عالية مرعبة، الجميع يدعو مارجرجس لإنقاذ الموقف، الجميع يصلي بداخله، ويوجد من هذا الجميع من يهرول حاملاً أطفاله، بجانبي طفل في سنوات الإعدادي يرتعش برداً وخوفاً، وطفلة أخرى في أولى ثانوي تمنع البكاء، ويوجد خالتي ظلت ترفع صوتها قائلة ” صوت الرب يطفأ لهيب النار”، بعد خروج الجميع من خيامهم قالوا أن سبب اشتعال النار ماس كهربائي، كل شخص مسؤول عن خيمة دخل ليطفأ الكهرباء، وفي لحظات أخرى قالوا أن السبب إنفجار أنبوبة غاز، لحظتها انتابني الخوف،ربما أكون لم أطفأ البوتاجاز جيداً حين صنعنا مشروب دافئ.
عدنا للنوم بعدما اطفأت المطافي اللهيب، عاد الجميع للنوم خصوصاً الأطفال غاصوا سريعاً في أحلامهم، ولكن ظهورات الحمام الأبيض كانت كثيرة بعد الحادثة، كما لو كانت دورات اطمئنان.
اليوم الثاني
مر اليوم هادئاً وكما لو كان هناك روتين، على الرغم من السهر والبرد ليلاً، نجد أن حرارة الشمس وأصوات الميكرفونات التي نسمع عبرها صوت القداس والترانيم أو الإعلان عن حالات التيه لأطفال، نفيق، نستبدل الملابس الشتوي بالصيفي، نُعيد الأغطية مطبقة لمكانها في الخيمة، فطور خفيف حيث كوب شاي مع بسكويتة أو عيش شمسي(صعيدي) محمص إلى أن يُعد الغداء، تطهيه خالتي الصغرى، نحاول طوال فترة النهار تلاشي الشمس والهرب منها لبقعة ضل، إلى أن تغرب، وهنا نرتدي ملابس الخروج للنزهة خارج الخيمة حيث زيارة الكنيسة نصلي، كافيتريا الدير، أو المشي بلا هدف ربما يعجبنا شئ نشتريه، بالمناسبة على مدار السبع أيام يوجد بالكنيسة صلاة ولكن إما تكافح الزحام لحضورها، أو تجلس أنت وضيق تنفسك بخيمتك كافي غيرك شرك.
بما أن هذه الرحلة لم يمر فيها يوم بدون حادثة، فاليوم الثاني كانت الحادثة عبارة عن أن خدام الكنيسة (مجموعة متطوعين) أمسكوا بشاب وأخذوا هاتفه، والشاب كان يصرخ ويحاول الإفلات منهم، موقع خيمتنا أتاح لي مشاهدة هذا الجزء من الحادث وإكمال الناقص عبر أحاديث من حولنا، وما شاهدته بنفسي، لم أفهم هل الخدام شاهدوا الشاب مع فتاة في وضع لم يعجبهم من وجهة نظرهم، بقرب خيمة أم بالكافيتريا، والمنطقي أن يكون بقرب الخيام، لأن موقع خيمتي بعيد عن مكان الكافيتريا، ولكن جملة الشاب الواضحة ” أنت بتقول إيه دي قريبتي” ، أكدت ما يقولونه، وعلى الرغم من أن القصة انتهت سريعاً بتدخل أحد الرجال كي يترك الخدام الشاب، وعلى الرغم من أن أقصى ما كان سيفعله الخدام هو الذهاب بالشاب للأباء الكهنة، إلا أن تضخيمهم لأمر كهذا أثار إندهاشي وإشمئزازي معاً، الفتاة لم تكن في المشهد تركوها خوفاً عليها من الفضائح، وكأن ما فعلوه من جر للشاب وسلب هاتفه ليلاً لم يكن فضيحة!
وعلى الرغم من متابعتي لملابس الفتيات والنساء و وجود تطور كبير في الذوق، فلا تستطيع تفريق الصعيدي من القاهري سوى باللهجة، المظهر أصبح واحداً، الأباء فقط باقيين على الجلباب الصعيدي.
اليوم الثالث
إذا كتبت على جوجل كلمات (دير مارجرجس الرزيقات) سيظهر لك أن عدد زائريه في هذه الفترة تتعدى المليون، لا يمكنني تقديم إحصاء لك بعدد الخيام ولكن من الوارد أن يكون بالدير كشوفات بالأعداد بما إنهم يأخذون مقابل مادي كي يضع الشخص خيمته، أو أن يكون له خيمة من تلك التي أعدها الدير هذا العام، ولكن في كل هذا الزخم والفرحة، ينغص عليك رؤية أكوام الزبالة أو الحمامات في حالة يرثى لها، أو رائحة روث البهائم إذا كان جيرانك جلبوا معهم أضحية ستذبح خلال أيام الأسبوع للإيفاء بنذر، وإذا أخذتك قدماك بالقرب من المدبح، سوف تشتمك أنفك إذا كانت تستطيع الأنوف التحدث، صحيح أنه بعد اليوم الأول تعتاد الأنف على الروائح الكريهة التي شممناها ومن أقاربي من كانت لديها حساسية فأصبحت تعاني بزيادة عن الباقيين، فالأرض نفسها ترابية مجرد سير أحدهم بطريقة عشوائية مستفزة أو جري الأطفال يجعل شبورة من الاتربة تغطينا.
بالعودة للحمامات وما بين حالات الإمساك، عليك أن تعلم جيداً أن كلما كان الحمام نضيف كلما زاد الإزدحام، شئ بديهي وعليك أن تدفع ثمن راحتك بالانتظار، أنا لم أدفع ثمن لأني أخذت الأمر بعفوية، وسألت النساء عن الحمام الذي يوجد عليه عدد أقل من الانتظار، كي لا أجعل من ينتظروني بالخارج يعانون الملل والرائحة معاً، ولكن ما لا أحسبه أن أتعرف على الفتاة التي تسبقني بالدور، لمجرد أن لهجتها كانت قاهرية وليست صعيدية، ربما لو لم يكن معي أقاربي ومعها قريبتها لطال تعارفنا أكثر من هذا وأصبحنا أصدقاء، ابنة الغردقة التي عرفت وأتت الدير عن طريق خطيبها أشكرك على عفويتك وعلى تمرير لحظات الوقوف بالحمام.
مر اليوم بضحك أقاربي على خروجي من الحمامات بصديقة أعرفهم عليها، ولكنها كانت فرصة لأتأمل حالي أنني مازلت شخص عفوي اجتماعي بالرغم مما مرت به في عشريناتي.
اليوم الرابع
قبل السفر سألت أمي هل يوجد سرقة في الدير؟ هل أخلع خاتميَ الذهب، أكدت لي بوجود السرقة، ولكن أرتدي خواتمك يا فتاتي واحرصي على ما ترتديه، بالنسبة لفتاة مثلي مرت بمراحل عدة بعلاقتها مع المال، من الكره له لأنه يجلب مصائب ونزاعات حتى بين الأخوة، وكره له لعدم وجوده، إلى التصالح معه بأن نسعى لوجود المال بجيوبنا لسد الاحتياجات، ولا ضرورة للحب، وبما أني عانيت كثيراً في السابق لأثبت لأهلي أن الكتابة والنقد عمل يُدر المال، ففي كل مشكلة نتصارع ينتهي بنا المطاف إلى سؤال ” بتكسبي كام؟/ المقال بتاخدي فيه قد إيه؟/ هي فلوس المقالات تأكل عيش؟” حتى وإن لم يكن الأمر له علاقة بهذا في البداية.
وعليه حين إستطعت جمع مبلغ لا بأس به، قررت أن أشتري به حلق ذهب، وهذه الفرحة كانت الشهر الماضي، ليأتي أسبوع الدير بحادثة صغيرة في صباح اليوم الرابع تقلب الفرحة لبكاء، لاحظت أمي عدم وجود إحدى زوجي الحلق بأذني، بدأنا رحلة البحث عليها، و طوال فترة البحث كنت أدعي بداخلي، وأمسك أعصابي مُسلمة الأمر لله سواء وجدناها أم لا، وحين وجدها ابن خالي العزيز وأعطوها لي، هنا إنفلتت دمعة مني كانت حبيسة عيناي، وجهي الذي لم أستطع غسله فور استيقاظي بسبب الحادثة، غسلته بدمعي.
اليوم الخامس
كان يوم رحيلنا (نحن القاهريون وخالتي) من الدير للأقصر حيث قضينا اليوم بمنزلها، رغم أن الخطة كانت أن نخرج للتنزه و رؤية أماكن سياحية أو حتى التمشية على كورنيش النيل، أو البحر كما يقولها أهلي بالصعيد، تم إفساد الخطة لأن ابنة خالتي القاهرية مرضت بالبرد، وعليه إلتففنا جميعاً حول أكلة السمك الرائعة، وبعدها فيلم بالأبيض والأسود يُدعى (حبي الوحيد) كان أغلبنا يشاهده للمرة الأولى، ربما لن أنسى فقط هذه المرة من المرات التي زرت فيها الدير، وإنما حتى الليلة الأخيرة التي لم تكن بالدير لا يصح نسيانها.
أثناء فترة التخييم وبعدها كل ما كان يشغل رأسي هو المفارقة بين هذه الخيام، والخيام التي لطالما تابعناها كثيراً عبر السوشيال ميديا، وهي مكان/ مأوى غير آمن لأهل غزة أو غيرها من البلدان التي جار عليها عدو الإنسانية، فخيام دير مارجرجس هي للفرحة والتهليل وانتظار ظهوره في حالة الإيمان بالظهور من الأساس، أما على الضفة الثانية فهي خيام يملأها الحزن والجوع والصبر والفقد، في الأولى يذهب الزائر بإرادته حر تماماً لخوض هذه الرحلة، وفي الثانية تكون الخيمة منزلهم المؤقت بلا إرادة منهم.
الاحتفال مدته سبعة أيام ولكني حدثتك عزيزي القارئ عن خمسة أيام فقط، فلا تنسى اليوم الأول لم نحضره كان هو نفسه يوم السفر ووصلنا على اليوم الثاني من الاحتفال، وكان هو اليوم الأول لي بالمدونة، توالت الأيام وعدنا بيوم الجمعة ليلاً بأتوبيس كي لا نرهق بالقطار، قضينا يوم السبت في منازلنا مع إعياء منعني من متابعة ما تبقى من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي.
من هنا لشهر نوفمبر القادم سأظل أتذكر هذه الأيام، فقط لأستطيع التغلب على التردد أمام عائلتي/ أمي تحديداً لأخبرها ب “لا” قاطعة لن أسافر للدير، المتعة لم تزيل الإرهاق والتعب .