يوسا يكتب الفصل الأخير في حياته بموت شاعري   

youssa
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمود عماد

هو أحد أهم الكتاب الذهبيين لأمريكا اللاتينية، وأحد الوجوه البارزة في جيل العمالقة، ظل على القمة منذ صعدها حتى نهاية الرحلة. هو كاتب عالمي، بل هو من أبرز الكتاب الذين يمكن أن يحملوا صفة العالمية، إنه الكاتب البيروفي الأشهر ماريو فارجاس يوسا، والذي رحل عن عالمنا، بعد مسيرة طويلة وحافلة في الحياة والأدب.

كتب يوسا فصلا أخيرا في رواية حياته، فصلا عنوانه الصمت، وخاتمته الموت، الموت الهادئ دون ضجة كبيرة، عكس حياته الصاخبة، وكأنه اختار أن تكون روايته الأخيرة صامتة دون ضجيج، أن يموت في هدوء يختاره هو، منتصرا على غواية الأدب، وعلى شياطين كتابته.

يوسا ملهم كبير على مستوى الكتابة، الأدب، والحياة بشكل عام، ولا يخلو إلهامه من حياته وشخصيته، ولا يخلو كل ذلك من إثارة الجدل، ومن مواقفه التي نراه ثابتا فيها معظم الوقت عندما يتعلق الأمر بالكتابة والأدب، وعلى عكس ذلك على مستوى الحياة والمواقف والتي تملأها التقلبات، ومنها المواقف السياسية والأيدلوجية بكل تأكيد.

فتح موت يوسا تفكيرا كبيرا في علاقته بكل شيء، في مقدمتها الكتابة والأدب بكل تأكيد التكريس الأكبر لحياته الطويلة، مرورا بعلاقته بالكاتب الكولومبي الأسطوري الآخر غابرييل جارسيا ماركيز من صداقتهما الحميمة وحتى القطيعة، وحتى مواقفه السياسية من تأييد الشيوعية وثورة فيديل كاسترو في كوبا ثم الانقلاب عليهما بسبب ما رآه من سياسات قمعية مارستها الثورة الكوبية، وأيضا محاولته اقتحام مضمار السياسة لدرجة محاولة الوصول إلى الرئاسة نفسها، حتى الاعتراف بأنه فشل في أن يكون سياسا لأنه كاتب بالأساس.

وهنا في شرقنا الأوسط، سنفكر في علاقة يوسا بدولة الاحتلال الإسرائيلي والقضية الفلسطينية فلقد مرت تلك العلاقة نفسها بتقلبات يوسا، فتارة يعترف يوسا بجمال الدولة اليهودية وديمقراطيتها، ويقر بأن الكتاب اليهود والإسرائيليين أضافوا للأدب والإنسانية، وتارة أخرى بعد زيارته لإسرائيل وفلسطين في عام 2005 في خضم فصل متوتر في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، يقر يوسا بعدها في أحد حواراته الصحفية أنه لا يشرفه أن يكون صديقا لإسرائيل وأن هذا المكان جعله يراجع الكثير من قناعاته حول الديمقراطية والليبرالية.

منذ موت يوسا الشاعري وككاتب شاب يحاول الفهم أو الخروج بمعنى كبير، فقد وجدت نفسي أفكر في كل شيء عايشه يوسا، وأتأثر من الكتابات عنه والتي تحزن عليه حزنا شاعريا يليق به، ولكنها ترى في أدبه خير إرث تركه خلفه ليخلده لأمد بعيد، فكرت كثيرا في تلك الحالة التي صنعها موت يوسا، حالة من الاصطفاف لأشخاص مختلفين على مستويات كثيرة، خلفيات سياسة وأيدلوجية مختلفة، وبلاد متناثرة في قارات العالم المختلفة، حتى الذي لم يتفق مع مواقف يوسا الحياتية انحاز إلى إبداعه في النهاية، جمع يوسا كل هؤلاء المختلفين بسبب إبداعه وإخلاصه الأدبي، وهو معنى كبير لسلطة الأدب الاختيارية على محبيه، وإبراز لقيمة الكاتب في عيون المحبين والقراء.

شق ثاني فتحه موت يوسا، وهو علاقته بالأسطورة الأخرى، ماركيز صديقه اللدود، ربطتهما علاقة صداقة حميمة، وجاءت القطيعة غير مفهومة، وتوالت التحليلات حول ما حدث من علاقة زوجة يوسا باتريسيا وكونها أساس القطيعة وتعدد التأويلات، هل هي خيانة ؟ وصولا بأن ماركيز نصحها بترك يوسا عندما اشتكت له منه، وهنالك تحليلات أخرى تقول بأن السبب هو ما حدث من انقلاب يوسا على كاسترو وثورته، وعلى الشيوعية والاشتراكية بشكل عام، وعدم تأييد ماركيز له في هذا، وأيا كانت الأسباب فقد كانت اللكمة من قبضة يوسا على وجه ماركيز واقعا حدث، والثمن كانت القطيعة الفعلية، واللكمة بكل ما فيها مرورا بالقطعية تصلح أن تصبح مشهدا وحدثا أدبياً ممزوجا بالدراما وتأويلات النص العديدة، التي فتحتها اللكمة وتركت القراء، أقصد المتابعين للقطيعة يأولون الأسباب وينسجون القصص المختلفة. وبعد أكثر من ثلاثين عاما من الواقعة التي حدثت في عام 1976، كتب فارغاس يوسا مقدّمة الطبعة الخاصة بالذكرى الأربعين لرائعة غارسيا ماركيز “مئة عام من العزلة”، وشوهد الرجلان مجددا معا في مناسبة عامة، وهي ربما تكون علامة على نهاية القطيعة.

في علاقة يوسا وجابو تداخلات كثيرة، أكبر من مجرد لكمة على الوجه، أو قطيعة بين صديقين، ولكنها علاقة من الممكن أن تولد الكثير من التأملات على مستوى الكتابة والأدب، وأكثر ما لفت نظري هي تلك المقارنة التي راحت تتزايد بين الموهبة الإلهية التي يملكها جابو، وبين العقلية الإنسانية التي طورها يوسا، وهو تأمل من نوع آخر، جابو هو الخيال الجامح القادر على طرق أي كتابة يريدها، والأب الروحي للواقعية السحرية في العصر الحديث، أما يوسا فهو يملك موهبة من نوع آخر موهبة أثقلتها العقلية، يوسا هو الموهوب الذي لا يملك نفس الموهبة الربانية، ولكنه الموهوب الذكي الذي يستطيع أن يخرج من موهبته أفضل شيء ممكن بالعمل والإخلاص للأدب والكتابة، وحتى يصنع لنفسه أسطورة توازي أسطورة الموهبة الإلهية، وهذا يعطي الأمل لكل من يمارس فعل الكتابة في العالم كله بأن فرص التطور قائمة دائما، وبأن الإخلاص والدأب في الأدب قادر على صنع المعجزات.

يوسا ربما ليس كاتبي المفضل بالشكل المتعارف عليه، هو أحد المفضلين بالنسبة لي، ومع ذلك فإنه ملهم بالنسبة لي ومحبتي كبيرة له، وأنا مغرم بقدرته على تشريح النفس البشرية وأراه شيطان كتابي فريد، ولكن نظرة يوسا للأدب والكتابة، وربما الحياة بشكل عام هي واحدة من النظرات الأكثر إلهاما وخاصة عندما تحلم أن تكون كاتبا من نوع آخر، وكتابه “رسائل إلى روائي شاب” هو واحد من أفضل الكتب التي خطت من كاتب لتقديم نصائحه وخبرته للكتاب الشباب الذي يشقون بداية طريقهم في عالم الكتابة، ولا اخفي أبدا تأثري واستفادتي من هذا الكتاب، هذا بالإضافة لمقالاته وحواراته المختلفة والتي بها الكثير من الإلهام والخبرة الأدبية، وصولا لخطابه الشهير عندما فاز بجائزة نوبل عام 2010، وهو خطاب شديد الشاعرية والأهمية لأي كاتب أو محب للأدب.

سأتحدث الآن عن جانب شخصي قليلا، وهو أنه في عملي الصحفي أحلم دائما أن أحاور كتاباً عالميين من ثقافات ولغات أخرى على الجانب الآخر من العالم، ودائما ما حلمت لو كنت أمارس عملي الصحفي أيام الجيل الذهبي للكتاب العمالقة لعل فرصة حواري مع أحدهم تزيد بالفعل، وكان يوسا هو أحد الكتاب الذين حلمت دائما بمحاورتهم، كان هذا حلما بالنسبة لي، بل أنه عندما كنت أفكر في أي كاتب أتمنى محاورته من الجيل الذهبي كان يحضر يوسا أمامي قبل أي عظيم راحل على سبيل المثال ماركيز، وربما هذا نابع من كون يوسا كان على قيد الحياة منذ أن مارست عملي الصحفي على عكس الباقيين، ومنهم جابو نفسه أحد أكثر كتابي المفضلين.

في النهاية لم يمت يوسا فعلا ربما رحل بجسده، ولكن ستبقى روحه دائما تهيم في عالمنا، سيبقى حاضرا بين كلماته الأدبية الفريدة وكتاباته الشاعرية الخالدة، وسيبقى دائما حيا في قلوب ووجدان قرائه ومحبيه، وسيظل مرجعا للكتاب الشباب وكل محبي الأدب، لتبقى الحقيقة الفعلية هي أن يوسا لن يموت أبدا.

 

مقالات من نفس القسم