يماني: قصيدة النثر وضعت الشعراء وجهاً لوجه

قانون الوراثة
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حاورته ـ المشاهد السياسي

يعتبر الشاعر أحمد يماني واحداً من أفضل الشعراء العرب من الجيل الذي ظهر في العقد الأخير من القرن العشرين. وهو إبن القاهرة الذي اختار مع نهاية القرن الهجرة عنها ليستقرّ أخيراً في مدريد، بعد إقامة في مدن إسبانية أخرى حيث درس اللغتين الكتالونيّة والقشتاليّة. من أعماله الشعرية: «شوارع الأبيض والأسود»، «تحت شجرة العائلة»، «وردات في الرأس» و«أماكن خاطئة». وله كمترجم من الإسبانية إلى العربية: «خيمة اللبد» للشاعر الإسباني «ميغيل كاسادو». إلى جانب بعض الترجمات إلى الإسبانية.  صدر منها مجموعة الشاعر العراقي محسن نجم «نباح على القمر»، وكانت ترجمة يماني لشعر نجم قد صدرت عن دار النشر الإسبانية «بواسيه إيريستو» باللغتين العربية والإسبانية، بالتعاون مع المستعربة الإسبانية ميلاغروس نوين. في مدريد التقيت الشاعر وقلّبنا معاً آراءه حول الشعر والترجمة، أكانت تلك التي أبداها قديماً لشعراء وكتّاب وصحافيين حول أعماله الشعرية المنشورة، أو تلك التي استجدّت خلال سنوات إقامته الطويلة في إسبانيا، حول الشعر والترجمة والتواصل بين الثقافتين العربية والإسبانية. سألت الشاعر أحمد يماني:

حاورته ـ المشاهد السياسي

يعتبر الشاعر أحمد يماني واحداً من أفضل الشعراء العرب من الجيل الذي ظهر في العقد الأخير من القرن العشرين. وهو إبن القاهرة الذي اختار مع نهاية القرن الهجرة عنها ليستقرّ أخيراً في مدريد، بعد إقامة في مدن إسبانية أخرى حيث درس اللغتين الكتالونيّة والقشتاليّة. من أعماله الشعرية: «شوارع الأبيض والأسود»، «تحت شجرة العائلة»، «وردات في الرأس» و«أماكن خاطئة». وله كمترجم من الإسبانية إلى العربية: «خيمة اللبد» للشاعر الإسباني «ميغيل كاسادو». إلى جانب بعض الترجمات إلى الإسبانية.  صدر منها مجموعة الشاعر العراقي محسن نجم «نباح على القمر»، وكانت ترجمة يماني لشعر نجم قد صدرت عن دار النشر الإسبانية «بواسيه إيريستو» باللغتين العربية والإسبانية، بالتعاون مع المستعربة الإسبانية ميلاغروس نوين. في مدريد التقيت الشاعر وقلّبنا معاً آراءه حول الشعر والترجمة، أكانت تلك التي أبداها قديماً لشعراء وكتّاب وصحافيين حول أعماله الشعرية المنشورة، أو تلك التي استجدّت خلال سنوات إقامته الطويلة في إسبانيا، حول الشعر والترجمة والتواصل بين الثقافتين العربية والإسبانية. سألت الشاعر أحمد يماني:

 هل لك أن تعطينا فكرة حول الأثر الذي تركته إقامتك الإسبانية في قصيدتك وما الذي أحدثته هذه الاقامة من تحوّل في شعر سبق له أن تشكّل في فضاء مكاني آخر؟

عندك حق، فأنا انتقلت إلى إسبانيا وقد تجاوزت الثلاثين من عمري بأكثر من عام. في الحقيقة لا أعرف إلى أي حد أثّرت حياتي في إسبانيا في قصائدي، ومن المؤكد أن هناك تأثيراً ما قد لا يمكنني رصده حالياً، لكن هنا أصبحت لي حياة ثانية، احتكاك دائم بلغتين: الكتالونيّة والإسبانية، حيث كنت أعيش شرقي إسبانيا، وكما هو معروف هناك أربع لغات رسمية في إسبانيا، تتوزّع حسب المناطق الجغرافية، على أن القشتاليّة، أو الإسبانية، هي اللغة الرسمية في كل البلاد، وللأسف توقّفت علاقتي بالكتالونية بعد انتقالي إلى العاصمة مدريد، وإن كنت أحاول بين الحين والآخر قراءة شيء فيها.

كتبت كل قصائد «أماكن خاطئة» في إسبانيا، بعيداً تماماً عن تلك الأجواء التي تعوّدت عليها في القاهرة بين الأصدقاء. توقّفت تماماً عن النشر وعن إطلاع الأصدقاء على قصائدي، ربما أردت أن أختبر نفسي في مكان جديد بشكل حرّ.المكان الجديد سمح لي بمساحة من التأمّل البطيء، بمراجعة أفكار والانفتاح على أخرى وهكذا. ربما تعلّمت هنا أن أكون أكثر تقبّلاً للآخر بالمعنى الواسع للكلمة.

ما يمكنني قوله إنني مدين لإسبانيا بالكثير من الحب والصداقة التي أعطتني إياهما بسخاء. قد تبدو الجملة عاطفية زيادة عن اللزوم، لكن هذا ما حدث فعلاً. في المقابل، فإن الحياة في الغرب ليست بالسهولة التي يتصوّرها بعضهم، فقد مررت كثيراً بلحظات عصيبة، لكن وجود الأصدقاء، وعلى رأسهم «كاظم جهاد»، خصوصاً بصداقته الاستثنائية ووقوفه الدائم بجانبي مادّياً ومعنويّاً، وتشجيعه الذي لم يفتر يوماً، جعل الحياة محتملة، وكذلك صديقي المقيم في برلين «هيثم الورداني» وصديقي «عبد الهادي سعدون» في مدريد.

الشاعرة عناية جابر رأت في الحوار معك أن قصيدتك فلسفية متأملّة، وتهتّم بالتركيب الثقافي. الى أيّ مدى تعمل على القصيدة وما هي محفّزاتك الى الشعر؟

صحيح، وقد قلت لها يومها إنني في الحقيقة لا أعرف ما إذا كانت قصيدتي متأمّلة أم لا، لكنني أعمل على القصيدة في حدود. لا أقوم بالتصحيح كثيراً، متتبّعاً نصيحة «بالنته»، حتى قبل أن أقرأه، ففي رأيه أن القصيدة زائدة التصحيح هي «حمل خارج الرحم» وبكلمات أخرى مصطنعة، يعني هذا أيضاً أن القصيدة المتأمّـلة ليست بالضرورة نتاجاً لعملية استبطان داخلي طويلة، أو أن مسألة «العفوية» تغيب عنها. إذا شئنا الحديث عن تضادّات أحسب أنها غير ذي بال، يتعلق الأمر في النهاية بالمزاج الشعري، بما يظنّه الواحد شعراً. المحفّزات إلى الكتابة عملية بالغة التعقيد، قد ندرك بعضها ولا ندرك بعضها الآخر، هناك وقائع وخيالات ومواقف وصور وجمل تتردّد في الرأس وذكريات إلخ. تحضرني هنا كلمات «بيسوا» وهو يتحدّث عن وجود الشعر في كل مكان وفي كل شيء، في المدينة وفي الطبيعة، وأنه يجد كنزاً من الشعر في أشياء تافهة، كشوارب قط مثلاً أو في مفتاح، وأن هناك فتنة روحية كاملة في منظر دجاجة تعبر الشارع مع أفراخها وهي منتفشة الريش.

وجهاً لوجه

هناك شبه إجماع على أن السنوات العشرين الأخيرة شهدت ازدهاراً شعرياً في مصر. لماذا حدث ذلك في هذا التوقيت؟ ولماذا حدث ذلك على صعيد قصيدة النثر تحديداً؟

أظن أن لحظة تفجّر الشعرية المصرية تمّت في حقبة التسعينيات، ولا يعني هذا أنني أشير إلى جيل التسعينيات فقط، كانت هناك ثلاثة أجيال في الوقت نفسه تراجع بشكل مكثّف فكرة الكتابة والشعر. فقد كانت لحظة حوار هامّة. بالتأكيد إن الحوار لم يكن ديمقراطياً، وفي أحيان كثيرة سقط فيه الكثيرون، كنّا نعتبرهم رموزاً، هذا من جانب؛ ومن جانب آخر ظهور عدد من الشعراء المعتبرين في الوقت نفسه، وفي لحظة تاريخية سيكون مخلاً تماماً اختصارها في سقوط الاتحاد السوفياتي أو حرب الخليج الثانية. كانت لحظة قلق حقيقية على كل المستويات. كذلك يمكنني الاضافة أنه كان هناك انفتاح موسّع على الشعرية العربية في أكثر وجوهها تحديثاً وتلقّياً وإنتاجاً، كان كاظم جهاد أول من كتب عنّي وعن ياسر عبد اللطيف، حينما أصدرنا معاً ديوانينا الأوّلين، وقس على ذلك رؤية آبائنا الشعريين مباشرة في الشعر اللبناني والشعر العراقي في المهجر. أراد بعضهم أن يصوّرنا في ذلك الوقت كقاتلين للآباء بالمعنى الشعبي، وفي ظنّي أن الأمر كان يخصّ انحيازات شعرية قد تجد تمثّـلها في أي جيل سابق، ولكن في صورة شاعر فرد وليس في الفكرة القطيعية عن الجيل باعتباره كلاً متماسكاً. أما لماذا حدث على صعيد قصيدة النثر، فأظن ببساطة لأنها وضعت الشعراء وجهاً لوجه أمام أنفسهم وأمام الآخرين، حيث الاختلاف هو السمة الأولى.

هل تعتقد بأن جزءاً كبيراً من الشعر المصري الراهن هو ردّ على تهميش الشعر لمصلحة الأيديولوجيّات الخطابية والقضايا المباشرة؟

الشعر في تقديري مقدّر للنخب، حتى أن الشعراء الذين لا يكتبون بالفصحى، والذين يكتبون مباشرة بالدارجة، والذين من المفترض أن يكونوا معروفين بشكل موسّع، لا يعرفون إلا من خلال أمر خارجي، كلهجة الشاعر مثلاً أو طريقته في الحديث أو سلاطة لسانه، وهكذا.. ولكن ليس من خلال قراءة قصائدهم. الشعر ليس فنّاً للاستهلاك السريع والأفضل له أن يكون مهمّشاً، وإن كان للهامش درجات أيضاً. لا شك في أن بورخيس حزن كثيراً عندما جاءته الشهرة على حين غرّة، وأصبح يتعجّب كيف أن أيّة كلمة يتفوّه بها أصبح لها رأسمالها الرمزي والعيني، لكنه كان قد نجا بما كتبه قبل تحوّله إلى أيقونة. الشعر في تقديري كائن نخبوي.

كتابة الذات

الذات حاضرة دوماً في تجارب الشعراء. إلى أيّ حدّ استثمرت سيرتك الشخصية في تجربتك، وكيف يحضر الشاعر من دون أن يثقل حضوره النص الشعري؟

أعتقد أن فكرة الكتابة عن الذات أو استثمار السيرة الذاتية، تم التعامل معها بشكل مبالغ فيه للغاية، ومن هنا جاءت المحاكمات الأخلاقية لاعتقاد بعضهم أن ثمّة اعترافات تخصّ حياة الكاتب، بينما الأمر، بشكل بسيط، يخصّ أكثر فكرة الخيال، وهو ما لم ينتبه إليه الكثيرون؛ علاء خالد مثلاً اخترع أختاً سرّيّة له في ديوانه الثاني. إذن ما حدود ما هو واقعي وما هو متخيّل؟ عندما تذكر كلمة الأب أو الأم أو الجسد، تذهب الأغلبية إلى تلقّي الأمر بوصفه «تدويناً»، وليس كتابة لها، مطلق الحرّيّة في البناء والتخييل.

أنت درست الأدب العربي في الجامعة وتابعت دراستك العليا في إسبانيا. ماذا يقدّم الوعي النظري والنقدي للقصيدة؟ هل يعيق عفويّتها مثلاً أم يجعلها أكثر متانة وقوّة؟

يرى أمبرتو إيكو أن السن المناسبة لكتابة أطروحة دكتوراه تدور حول نهاية الثلاثينيات وبداية الأربعينيات، حيث يكون الباحث في لحظة مناسبة من الانتاج بعد تراكم معرفي يسمح له بتكوين فكرة وبحثها. بين دراستي الجامعية في مصر، وبين دراساتي العليا في إسبانيا، أعوام طويلة، وعلى هذا فلا أعتبر نفسي أكاديمياً بالمعنى المعروف للكلمة، وإن كنت تتبّعت نصيحة إيكو من دون وعي مسبق بها. أظن أن الوعي النظري لا يعيق قط الوعي الشعري، بل ربما يسانده من أوجه عدة، أقلّها أن تعرف تاريخ النوع الذي تكتبه وتجلّيّاته المختلفة وطرائقه وأدواته، لأن الملاحظ مثلاً، أن كثيرين ممن يهاجمون أو يدافعون عن «قصيدة النثر»، لا يدركون أنها «نوع أدبي» قائم بذاته وليست مجرّد شكل شعري.

حدّثني حول فهمك لفكرة الكتابة وفضائها الذي وصفه بعضهم بأنه عبثي حول استجاباتك لها. كيف تبدو لك هذه الفكرة؟

الكتابة؟ ربما أحب أحياناً أن أنساق وراء القصيدة، أن أتركها تعمل بحرّيّة، تروقني كثيراً مقولة «بورخيس» التي ترى إلى الكتابة بوصفها استقبالاً لشيء ما، بوصف الكاتب لاقطاً، قد يكون هذا غريباً على كاتب كبورخيس نعرف جميعاً عمل القراءة في أدبه، لدينا وادي عبقر في التراث العربي مثلاً. ليس لهذه الفكرة علاقة بالميتافيزيقا ولا باللاهوت، حتى وإن بدت قريبة من طرحهما، بل بفكرة أخرى تخصّ آليّة الكتابة؛ إن الشاعر ناسخ يستقبل شيئاً ويحاول أن يقوم بتوصيله. هل ثمّة شيء سحري في الأمر؟ ربما، مما يعني أن عملية الاختيار الواعي ليست حاضرة تماماً، يأتي الوعي بعد ذلك ليرتّب وينظّم، وهنا يبدأ عمل الكاتب. لهذا تذهلني تماماً رؤية شاعر متطاوس، أدرك على الفور أن في الأمر خديعة ما. التواضع ليس اختياراً أخلاقياً، إنه فعل لا بد من أن يكون متجذّراً في بنية الشاعر نفسه.

اللغة مرّاتٍ

ما الذي تغيّر بين مجموعتك الأولى «شوارع الأبيض والأسود» الصادرة عام 1995، ومجموعتك الرابعة «أماكن خاطئة» التي صدرت هذا العام؟ هل ترى أن تجربتك عاشت نقلاتٍ أو منعطفات، أو أنها تطوّرت بطريقة تراكميّة؟

ربما جرت مياه كثيرة تحت الجسور منذ مجموعتي الأولى الصادرة في العام 1995، على كل مستويات حياتي الشعورية والفكرية، لكن يمكنني القول إنه لم تكن ثمّة منعطفات كبرى، هناك تغيّر ما من كتاب إلى آخر، ولا يخص الأمر فكرة التطوّر، بل التغيّر تماشياً مع الحياة نفسها فقط. رأى الكثير من الأصدقاء أن كتابي الأخير «أماكن خاطئة» يمثّـل نقلة نوعية في مجمل كتاباتي، وأعتقد بأنني أتّفق معهم. أعرف بالطبع أن مجرّد الاقامة في بلد آخر ليس ضماناً لنقل التجربة إلى موضع جديد، لكن كذلك أعتقد بتغيّر حتمي حتى ولو لم يظهر في الكتابة في الحال.

بتعبير إبراهيم فرغلي، فإن الكتاب متخلّص من أيّة تأثيرات أخرى، وبينها تجربتي الشعرية السابقة ومن تجارب أي من الشعراء المجايلين، أو بتعبير مهاب نصر الذي كتب يقول لي: «لا أعرف كيف أقول ذلك، إنه كتابك الأول»؛ أو على حد قول يوسف رخا، إن الديوان يعكس ـ أكثر من أي عمل سابق لي ـ المسافات الجغرافية والزمنية واللغوية لشخص يعيش خارج بلده، الأمر الذي يثري عملية إعادة اختراع اللغة التي يمارسها منذ بداياته.

تستعمل ضمير الغائب في أكثر مونولوغاتك الشعرية، لماذا؟ هل لأنه أقلّ التباساً من ضمير المتكلم وأكثر شاعرية؟

لا أظن أن ضمير الغائب أكثر شاعرية ولا أقل التباساً، بل لا أظن أن ثمّة شيئاً شاعرياً في ذاته أكثر من غيره. يتعلق الأمر بمنطق كل قصيدة على حدة في استدعائها لضمير أو لآخر فقط، ربما تكون قصائد الديوان الأخير تحديداً، في جزء منها، منفتحة على آخر كبير وهو بالمناسبة ليس قناعاً للأنا تتخفّى وراءه بل هو آخر فعلي.

شعر بلا هالات

نعود إلى الشاعرة عناية جابر، وقد سألتك مرة لما زرت بيروت: الى أيّ مدى يعني لك الشعر؟ وبنظام حسابي أين موقعه في حياتك؟ وكيف ترى الى المشهد الشعري العربي حالياً، ومن هم «رفاقك» في الشعر؟

نعم، وأنا أجبتها: لا أودّ أن أفكّر في الشعر باعتباره مفصولاً عن الحياة، باعتبار أن هناك كيانين كبيرين، الشعر من جهة والحياة من جهة أخرى. في تقديري أن ثمّة أوهاماً كثيرة تخصّ هذه المسألة. إن بعضهم مثلاً «يهدر» حياته من أجل الشعر، كأنّ في الأمر تعارضاً أو تضحية أو استدراراً لعطف ما يرغب في أن يجنيه بكلماته هذه! أعرف مثلاً أن بعض الشعراء لا يحبّون قراءة الشعر كثيراً، ويفضّـلون عليه أنواعاً أدبية أخرى كالرواية مثلاً، لكنني شخصيّاً أحب قراءة الشعر وأتلقّاه دائماً كهديّة متواصلة.

أما عن المشهد العربي عموماً فيبدو لي في حالة نادرة من الازدهار، إذا أردنا الحديث عنه إبداعياً وليس عن تلقّيه. هناك تجارب هائلة لشعراء من أعمار مختلفة واشتغال دائم على لغة خاصة، خبرات تكاد تكون بحجم الشعراء أنفسهم. لا أظن أن هناك ما يسمّى بأزمة الشعر، على العكس تماماً، ربما نكون في لحظة تاريخية يتقدّم فيها الشعر وحيداً بلا هالات من حوله، بلا سند خارجي، كما أنها بالتأكيد ليست لحظة معزولة عن محيطها. مفهوم الشعر تغيّر كثيراً، وأعتقد أن الشاعر أصبح مستقلاً بشكل كبير. ربما لا يتقدّم النقد بالدرجة نفسها، لا يزال هناك من يناقش أموراً تجاوزتها الكتابة الشعرية تماماً، كغياب القضايا الكبرى وسيادة التفاصيل الصغيرة وما إلى ذلك. أعتقد أن القصيدة الحالية تجاوزت هذا النوع من التفكير الثنائي الضدّيّة، لكن هناك إصراراً عليه من قبل بعض من يتناولون الشعر نقدياً، وهو من دون شك عائق كبير أمام تلقّي النصوص والتعامل معها بجدّيّة. كذلك تعليب الشعر ووضعه تحت لافتات كبيرة من دون التعامل، إلا في ما ندر، مع نتاج شاعر بعينه. ربما تمكّنت الشعرية العربية الآنيّة من أن تضع يدها على وعي لحظتها، وأن تفتح لنفسها طرائق تعبيرية تخصّها. تبقى بعد ذلك مسألة التلقّي وهذه مسألة أخرى لا أظن أن للشاعر دوراً كبيراً فيها. ولأن الشعر أوسع بكثير مما يمكننا تخيّله، فإن رفاقي في الشعر كثيرون جدّاً، وبالتأكيد لن يتسع المجال لذكرهم هنا.

أيّ القراءات تستهويك ولمن، في الشعر كما في الرواية.. عرباً وأجانب؟ ثم ما علاقتك بسائر الفنون: سينما، مسرح، فنّ تشكيلي، موسيقى؟

لا أريد التبجّح بالقول إن لديّ قراءات متنوّعة، ففي النهاية القراءة مسألة شخصية، لكن يمكنني القول إنني لا أقرأ أدباً فقط، بل يستهويني العمل الفكري عموماً ومن دون الدخول في تفاصيل وأسماء. أقرأ لأنني ببساطة أحب القراءة منذ طفولتي المبكرة وحتى الآن.

يمكن للواحد أن يدخل عالم القراءة صغيراً، وأن يتقدّم فيه تدريجياً ومن دون عون كبير من الخارج، بينما بعض الفنون يحتاج إلى نوع من التربية لا تتوافر كثيراً في عالمنا. علاقتي إذاً بالفنون الأخرى بدأت متأخّرة بعض الشيء. تجذبني السينما والفنون التشكيلية بشكل خاص، وكل ما كنا نلهث وراءه من سينما جادّة في القاهرة، وفي حلقات ضيّقة، وجدته هنا في إسبانيا متاحاً بسهولة، في التلفزيون وفي المكتبات العامة وفي أندية الفيديو، هذا ما أقصدة بالتربية الفنّيّة. هناك قاعدة معلومات ضخمة تسـهّل التعاطي مع أي فنّ، الأمر نفسه ينطبق على الفنون التشكيلية من معارض ومتاحف وسهولة في الوصول إلى المواد..

حاورتك سوسن حمّاد حول قصيدتك «يوتوبيا المقابر». ورأت أن المقبرة بالنسبة إليك تبدو مساحة مثالية إلى حد ما.. هل توافق على ذلك؟

ربما إلى حد ما، لأنني كتبت هذه القصيدة منذ أعوام طويلة، وأنا في الثانية والعشرين من عمري، وكنت مشغولاً للغاية بفكرة الموت، ومرتعباً منه إلى درجة نفيه في القصيدة، وجعله حياة أخرى أو بيتاً جديداً. كان عليّ أن أتصالح مع الموت وأن أراه بسيطاً. ربما حرّرتني شخصياً هذه القصيدة من الرعب إلى حين.

ـــــــــــــــــــــــ

نشر في مجلة المشهد السياسي

 عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم