د. محمد سليم شوشة
المجموعة الشعرية يفسر للريح أسفارها للشاعر المصري سامح محجوب الصادرة مؤخرا 2019 عن دار فضاءات بعمان الأردن، تمثل نصوصها في تقديرنا حالة شعرية خاصة وذات ارتباط موضوعي وجمالي ومرحلة جديدة من مراحل تطور الصوت الشعري الطموح والمتجدد لسامح محجوب الشاعر الذي يبدو واضحا أنه يستعصي على الثبات والجمود وأنه مر بمراحل تطور كثيرة، فهي مختلفة عن الدواوين الأخرى للشاعر مثل الحفر بيد واحدة أو مجاز الماء أو لا شيء يساوي الحزن. بعض نصوص هذه المجموعة الشعرية تقارب حالات من الخيانة ثقيلة الوطأة بعضها خيانة من الذات لنفسها، وهو ما يجسد في الأصل انقساما وتشتتا وحالا من التلاشي والتيه، أو ربما التوزع على مساحات أوسع من الوجود قد يشوبها التناقض والتقاطعات فيما يجعلنا أمام ذات مأساوية محملة بقلق وجودي نراه محفزا للمتلقي. وهذا ما يتحقق في النص الأول الإهداء وهو بلا عنوان بما يجعله أقرب لحال تأطيرية شاملة لكافة النصوص يقول فيه (سأخونني/ وأقول للطرقات/ قد ضلت/ خطاي/ وأقول للصبح/ المحايد/ لا تزرني/ في مساي/ سأخونني/ وأقول لاسمي/ لا تكنَّي/ قد تعبت/ من المسير/ إلى سواي).
فهذا استهلال شعري يتسم بالقوة والقدرة المدهشة على التحفيز تجاه تلك الذات المأزومة أو التي ستتجلى ملامحها حتما عبر النصوص القادمة. وفي تقديرنا أن قوة الاستهلال لا ترتبط بقوة المعنى هنا فقط، بل في ذلك الإيقاع الداخلي والتناغم اللغوي وبخاصة الصوتي الناتج بشكل طبيعي، فهو يلفت الانتباه لقدر ما بلغة الشاعر من انسجام، فالخاء في كلمة (سأخونني) يرتد في أذننا صداها في الخاء في كلمة (خطاي)، والحاء في (الصبح) تنسجم مع الحاء في كلمة (المحايد)، والمقابلة بين الصبح ومساي تصنع تلوينا ذاتيا خاصا للغة ولا يمكن إغفال ما يتبدى من انقسام الذات على نفسها من البداية في (سأخونني) حيث الكلمة الواحدة أو بتعبير لغوي أدق الوحدة التركيبية الواحدة فيها الفاعل والمفعول معا، وبعدهما يتجلى الصوت التبريري ويهيمن ويبدو أكثر إصرارا على الإيغال في تلك الحال وكأنها رغبة خالصة عنيدة في خيانة الذات لنفسها والانقسام والتشظي عن عمد تحت وطأة ضغط ستجلي النصوص التالية أبعاده، وهو ما يجعل الاستهلال في غاية التحفيز لبقية النصوص. وتكرار كلمة سأخونني في المقطع الثاني من النص يؤكد هذه الحال من العند، ويتجلى كذلك التناغم الصوتي والإيقاع الداخلي بأجمل ما يكون ليشكل نهاية النص في سلسلة من السينات المتصادية وتبدأ من الفعل المركزي المتكرر وهو (سأخونني) ويظل حرف السين يتكرر بشكل عفوي بالطبع في (اسمي) و(المسير) و(سواي) أي حتى كلمة النهاية في النص.
في النص التالي (جالاتيا) تتشكل حال الانقسام والحيرة في أجمل حالاتها الشعرية حين ترتبط بنقيضها وهو القدرة الإلهية، وهو ما يعني أن تلك الحال من الانقسام والتردد والتفتت للذات التي تقاربها النصوص ليس لها حدود ولا تمنع منها قوة أو قدرة، فالليبرالية رمز لذات تعاني التفتت والتردد بين إرادات عديدة وهي صورة مثالية في تجسيد الحال الشعورية الرئيسية أو الأكثر هيمنة على أجواء تلك النصوص، هنا ذات صانعة أو خالقة تشكل الأشياء وتمنح الوجود حضوره المادي وبرغم ذلك تتسم بالتردد وكأنها برغم كل القوة لا تعرف ما تريد وتبقي هي الأخرى مدفوعة بقوة أكبر، والذات الأقل المصنوعة وهي هنا التمثال حين تمنح الإرادة لا تفكر في شيء غير البكاء ولكنها لا تجيده، وهي صورة شعرية في غاية التركيب والجمال على المستويين الدلالي والبنائي أو الشكلي، لأن كل القصيدة هنا حوت أو رسمت ذواتا مختلفة القوة ولكنها تبدو كلها تعيش الحال نفسها، فلا فرق بين وجود وصانعه، لأن تلك التماثيل لم ترغب في شيء إلا البكاء هي الأخرى، وهذا البكاء الذي كان مسموحا به من ذاك الرب العادل تصبح المفارقة أن التماثيل نفسها لم تقدر عليه، لينتهي النص الشعري على حال من العجز الشامل للاثنين؛ المانح والممنوح.
في النص الثالث (أنين الرواة عن اللاشيء) يأتي الصوت الشعري على لسان ذات أنثوية معطلة، تعيش حالا من البين بين وغياب التحقق، وهو ما يمتد إلى غياب التفاصيل الصغيرة من الوجودة، فثمة تعميم أو رصد شامل وكامل لهذا التعطل ويتحول بعد ذلك إلى التفاصيل من غياب الحب وعدم الارتباط إلا بالخواء واللاشيء، ولا يحضر في صوت تلك الذات الأنثوية المعطلة إلا تساؤلاتها الحائرة عمن تفعل له هذا أو ذاك من الأفعال والتصرفات الجميلة أو التجهز والتهيئة والتساؤل يصنع امتداد لحال القلق الوجود الراسخة من البداية في النصوص ويزيد في ثقلها، فهذه الذات الأنثوية المعطلة تسأل عن الذات الذكورية المقابلة التي يكتمل بها وجود تلك الأنثى وتتحقق وتجد مبررا للفعل، وفي براعة كبيرة وحس شعري مدهش يصنع الشاعر تحولا في الصوت في نهاية القصيدة ويجعل الذات الذكر تجاوب أو تقدم ردا مختصرا يراه كافيا لأن تتحول الأنثى إلى الإقدام وتلقي بنفسها في النهر وهو ما يمكن تأويله بأنها كناية إلقاء نفسها في عمق حركة الوجود وصخبه، فلا شيء أقوى في الدلالة على قوة الحياة أكثر من نهر مندفع، لكون مياه النهر العذبة دليل الحياة وما له من الحركة والاندفاع رمز لروح الحياة ونقيض الحال السابقة من الجمود والتعطل. على أن هناك فعلا آخر يحضر وهو تفسيرها للريح أسفارها، وهو ما يمكن عدّه أو الإحساس به بأنه فعل اللافعل، فهو فعل أشبه بأفعال التسلية أو تمضية الوقت، وكلها أشياء مؤكدة للتعطل والجمود وغياب المعنى وهيمنة التفاهة والبلادة.
والحقيقة أن القصيدة ليست مجرد معنى وحسب، وحصر النص الشعري في معانيه أمر مخل بالرؤية ومجحف إلى أقصى درجات الإجحاف النقدي، فجزء كبير في تقديرنا من جماليات نصوص سامح محجوب الشعرية يتمثل في خصوصية الصور وقدر اندماجها في نسق تفاعلي مع المعنى، أو بالأدق تصبح الصور صدى وتجاوبا طبيعيا ومنطقيا مع الحال الشعرية المهيمنة، فحال التعطل الأنثوي التي جسدتها القصيدة تتشكل عبر عدد من الصور الشعرية والتعبيرات اللغوية والنحوية الخاصة أو الجديدة مثل صيغة السؤال المندفعة بالتكرار من بداية القصيدة حتى قرب النهاية وكأنها حال من التمرد المندفع على ما تعانيه الأنثى المعطلة على ذاتها أو هي أشبه بزفرات وجع وحزن تجسدت في السؤال فيما يشبه صراخا أو (ولولة) انفجارية إن جاز التعبير، تتناسب مع إقرارها وصراخها بعيوبها حين تقول (أنا تافهة وبليدة) ثم تسأل الوجود وتسائل ذاتها عن من يستحق أن تتجمل له أو تفعل له كذا وكذا من أفعال الأنثى الحقيقية المتحققة بقطبها الثاني. ومن الصور ما يأتي على لساني حين تقول تركوني وحدي/ يا وحدي/ من يملأ الأشرعة بالأصيل/ من يسمع روحي في قاع البحر) فهنا ملء الأشرعة بالأصيل صورة جديدة تماما دالة على قوة نبض الحياة، فالأشرعة حين تمتلئ تبدأ الحركة، وهي هنا تمتلئ بالأصيل أي بضوء الغروب وهو ما يعني وجود الحركة في الأصل لأنه لا أصيل إلا عقب صباح وظهيرة أي بداية للحركة. ثم التساؤل عمن يسمع الروح في قاع البحر، والسقوط في قاع البحر دليل قوي على التعطل لأنه ينطوي على تشبيه ضمني لهذه الذات بالسفن الغارقة من زمن بعيد والانطمار الكامل في البحر، ولكن بداية سماع روحها في قاع البحر هو بداية الحركة والخروج من الانطمار، فهي هنا تتساءل عن اللحظة التي تخرج فيها عن تعطلها.
خاتمة القصيدة كما ذكرت تكمل ملامح اللوحة المتناغمة، حيث يمثل تغيير الصوت في ذاته مصدرا للتنوع والشعرية، وكسر لهيمنة الصوت الواحد الذي هو بالطبع في اتجاه واحد، بل يأتي صوت الذكر أو الذات الذكورية مفارقة أو حركة إلى النقيض لأنها حولت المعطل الهامشي إلى معنى جوهري، وهذا ما عبرت عنه الإجابة المكثفة (أنت معناي)، (أليس هذا سببا كافيا لتقفزي في النهر؟). والحقيقة أن هذا التجاوب والتعدد في الأصوات يجعل القصيدة ذات مسحة رومانسية ويمكن قراءتها على هذا النحو كما يمكن قراءتها بالشكل الذي مضينا فيه من البداية عن مركزية العلاقة بين الذكورة والأنوثة وتحقق الوجود بهما، وأن الأنثى هي الأصل وهي الأولى والأكثر عمقا وامتدادا ثم يأتي الذكر أو الرجل في النهاية، والحقيقة أن هذا هو المعنى الحاصل في كثير من الأساطير القديمة إذ الأنثى هي الطبيعة وهي الأصل. وفي رأينا أن إنهاء قول الذات المغايرة/الذكر بالسؤال يشكل نسقا من اصطراع الأسئلة، أي سؤال واحد ولكنه بصيغة الاستفهام الاستنكاري يصبح كافيا لإزاحة أسئلة الأنثى التي دفقت كسيلٍ من بداية النص.
في النص الرابعة (أهلي يخونون أهلي) تطل الخيانة الذاتية التي أشرنا لها في البداية، فالذات التي تخون نفسها في النص الإهدائي تتجلها هنا بكيفية مغايرة، تقارب القصيدة حالا من الخيانة المجتمعية أو تشير بإشارة زاعقة إلى أولئك الخائنين الطاعنين لمجتمعهم وهويتهم، تحضر الظلال السياسية بصورة أكبر وتجعل هذه القصيدة تتجاوز همسها النسبي المعتاد في بقية النصوص، لكونها أقرب لصرخة غضب في وجه الخائنين أو غياب المنطق والعقل بشكل تام حين يخون الناس نفسهم أو هويتهم، ولهذا ثمة توفيق كبير في العنوان ونسبة أهل الأولى والثانية لياء المتكلم، فيتشكل العنوان من تناظرين متطابقين لغويا ودلاليا يفصل بينهما فقط فعل الخيانة. وهي قصيدة تهيمن على صورها الوحشية والعنفة أو ما يمكن تسميته بأثر الخيانة وتجسداتها وتمثلاتها المادية وهو أمر فيه قدر كبير في التخييل الشعري الذي عمل الذهن الشاعر فيه على تحويل الدلالة المعنوية المجردة/الخيانة إلى صور مادية مرتبطة بالحركة والاغتصاب والقتل والسطو وغيرها من مظاهر العنف، وهو ما يمنح القصيدة ظلالا واضحة للعنف الذي يصبح دافعا لانحياز المتلقي فيكون في صف الشاعر ويتبنى وجهة نظره. وتحضر في القصيدة صورها الخاصة مثل قوله (تبيح امرأة/ براءة اختراعها أنثى/ لوحش آدمي يأكلها). وهي صورة مركبة وتحتاج لتأمل ربما يطول، فثمة ظلال ريبة تفرضها مفردة تبيح، لأنها قد تبدو من الناحية الظاهرية متناقضة مع العنف المخيم على النص، ولكن حين تصبح هذه الإباحة مرتبطة بإجبار وإكراه تكون أكثر إذلالا ووحشية، وفي تقديرنا أن جوهر الصورة وبؤرة الشعر فيها في الخيال المدهش الكامن في تعبير (براءة اختراعها أنثى). فهي هنا اختراع، أي نفي لكافة أشكال الأنوثة وكأنها الأنثى الأخيرة في الكون، ليس لها سابق مثال أو نظير جمال في أنوثتها.
الحقيقة هذه مجموعة شعرية على قدر كبير من الثراء والتنوع الدلالي ولها طاقات فنية كبيرة وكل نص فيها يحتاج بشكل مفرد إلى قراءة متعمقة وجدير بعديد التأملات النقدية من جوانب مختلفة، من حيث الصور واللغة أو الرؤية والدفقات الشعورية المتطاوعة والمتجاوبة مع أنساق التخييل والتركيب والاستعارات وكلها تأتي بشكل عفوي مما يعلي من قيمتها.